حينما رأتها تغادر شقتها أوّل مرّة بعد ثلاثة أشهر من التقوقع والاحتجاب، لم تتردّد السيّدة «وداد» في بسط ودّها على الساكنة الجديدة التي قطنت الشقّة التي تعلوهم مباشرة، في الطابق الثالث. ورغم أنّها لم ترجع لها التحيّة عندما التقت بها في مدرج العمارة، هذا الصباح، إلاّ أنّها لم تلمس منها ما يوحي بالصلف أو الكبرياء، فقد لمحت وجهها بريئا كالطفولة، حالما إلى أبعد حد، وإن كان يشوبه، في أغلب الفترات، أثر حزن تحاول المرأة جاهدة أن تُفتّته عندما تلتقي بأحد ساكني العمارة حتّى تبدو متماسكة مطمئنّة. وفي المرّة التالية، أشارت المرأة للسيّدة إشارة عاجلة تحييها بيدها عند هبوطها السلّم، ولم تجد الأخيرة ما تردّ به عليها سوى ابتسامة ودودة أودعتها كامل شعورها الصادق بالصفاء والمحبّة، ورجت في نفسها أن تتوطّد بينهما صداقة حميمة، تشعر السيّدة بأن ذلك سيتحقّق…
– «قابلتها اليوم على السلم .. لقد ملت إليها، وأشعر أنّنا سنلتصق ببعضنا أكثر .. أتصدّق هذا؟»
قالت ذلك لزوجها، على مائدة العشاء، وعندما استوضحها عمّن تتحدّث أجابت على الفور:
– «الجارة الجديدة، أمّ ذاك الطفل .. إنّني أشعر كأنّي أعرفها منذ زمن بعيد .. لا بل لكأنّنا ولدنا معا ..»
وضحكت وهي تعيد وضع الملاعق على السفرة:
– «الحقيقة أنها امرأة تدخل القلب .. يجب أن نفكّر في استضافتها يوما ما .. ما رأيك يا إبراهيم؟»
فأجابها السيد إبراهيم وهو يهمّ بالوقوف لينسحب خارج غرفة الأكل:
– «ليس قبل أن نعرف أصلها ومنبتها. لن نركن إلى من نجهله و نجعل دارنا مدخلا لقليلي الأصل.»
في فجر اليوم الموالي، صحا السيد إبراهيم على صراخ ابن الساكنة الجديدة ولمّا نظر إلى الساعة بجانبه دهش عندما وجد عقاربها تحبوا في تمام السابعة، أي في الوقت الذي اعتاد أن يسمع فيه صوته، وتعجّب هل يحمل هذا الولد منبّها ذاتيا في داخله يضبط عليه أنغام استفاقته؟ وقد أوقف أذنيه برهة يرنو لعلّه يسمع صوتا جديدا يُدرك من خلاله عودة الوعي إلى جارتهم الجديدة، ولمّا استعصى عليه ذلك، تدحرج من على السرير واتجه بخطاه إلى دورة المياه وهو يترنّم بإحدى أغاني فيروز الشهيرة …
للرجال وساوسهم حين يبتعد عنهم الحظ، و للنساء أيضا أحلامهن الميّتة التي تستقرّ في قعر الأمنيات. والسيدة «وداد» امرأة لا كبقيّة النساء، أصيبت بالعقم وهي صابرة .. رغبتها في أن تلد لا تقاوم، وما تفتأ ترفع كفيها إلى مملكة قادرة أن تحقّق فيها الرغائب .. بتنظيم الولادات تحلى الحياة، شعار يرفعه التلفاز إليها كلّ مساء تُعقب عليه السيدة «وداد» بقولها:
– «إنّهم يعرفون الذي نبتغيه ونحن نعرف ماذا يريدون .. خمسة مليارات من البشر ماذا سيحدث للإنسانية لو أضيف إليها واحد ..»
ثمّ تهمس راجية:
– «يا رب .. يا رب ..»
و تمسح في خاتمة كلّ دعاء وجهها براحتي يديها توكيدا و تبرّكا ..
– «ليت لي منهم تسعة أو أكثر لن تخلى الحياة بسببهم و لو قاسمتهم شطر رغيف ..»
و تمرّ السنون سراعا والأمل يطويها طيّا .. ويفترس الزمن إبراهيم، فيبسط على زوجته همومه:
– «وداد، ماذا لو نتّخذ ولدا؟»
وتفاجأ المرأة:
– «ربيب! لن يكون هذا أبدا .. رحمي ستغشاه رحمته، وسيتفجّر بناتا وبنين .. هي مسألة وقت لا أكثر.»
تتوقّف برهة ثمّ تضيف بصوت متهالك:
– «أوَ كنت تظنّني عاقرا؟ إذا أردت أن تتخذ ذلك ذريعة لتتزوّج، فإنّي أبصم لك بالخمسة ..»
ثمّ تروح تعاتبه حتّى يكبّ على رأسها طلبا للمسامحة ..
كان السيّد إبراهيم يعرف أنّه لا يمكنه أن يأمل في أيّ نتائج طبّية .. عرف ذلك بعد أن أجرى الفحوص اللازمة التي ساقته إلى هذا الاستنتاج، فالطبيب يشكّ في وجود عقاقير تزيل إصابة العقم حتّى ولو كان ذلك خارج البلاد، و كتم عن زوجته الخبر .. كان يرجئ ذلك إلى ما بعد المحاولة التي ينوي القيام بها، سيقول لها كلّ شيء، سينهاها عن جعل القدر تحتها، وسينسف عروق السالوس من أمامها، لن تيبّسه أبدا، ولن تطعمه مع دشيشة الشعير المسّوس .. مسكينة «وداد» كم مرّة ضبطها تستحمّ بماء الحلبة مطبوخا طبخا عظيما، وحين يسألها مندهشا عمّا تفعل تجيبه وهي تدهن ظهرها وجوفها:
– «سأحمل بإذن الله.»
فيصمت متألّما .. كيف لو عرفت أنّ العقم ليس فيها وإنّما .. يطرق برأسه ويروح في تفكير حادّ .. لقد خان زوجته، ولا يدري كيف أمكن له أن يخفي الأمر عنها طيلة هذه المدّة .. بل كيف سوّلت له نفسه أن يداوم في خداعها .. أعاد الشريط في ذهنه من البداية فتذكّر السيد إبراهيم كل ذلك قبل أشهر وهو يسير في اتجاه دور الأطفال، ولام نفسه بشدّة على جرأته تلك دون أن يعدل عمّا ينوي فعله، وكان كلّما اشتدّت نفسه عليه وألهبته تقريعا يمنيها بالخاتمة السعيدة التي سيصل إليها في يوم ما .. تماما كما يحسّ الآن وهو يغرف الماء بيديه ويسقطه على وجهه، يغسل به أطرافه، ثمّ يأخذ المنشفة وينشّف حبيبات الماء من على جلدته .. دماغه في الأثناء لم يهمله ساعة واحدة، وزوجته لم يسمع لها حسّا .. ربّما تكون قد انزوت في أحد أركان الغرفة تفعل شيئا ما .. ولكنّه الآن يترنّم بإحدى أغاني فيروز الشهيرة حتّى يخفّف قليلا من وخز ضميره «الحيّ»!
كانت السيّدة «وداد» في ذلك الوقت قد صعدت إلى فوق السطوح تزمع نشر أدباشها هناك، فهي قد اعتادت أن تغسل ثوبها مرّة في كلّ أسبوع، و كانت عند مرورها بشقة الجارة قد سمعت صراخ الطفل، ثمّ في تلك اللحظة نفسها انفتح الباب، وأطلّت امرأة بيدها سطل صغير جمعت فيه قطعا مغسولة من الكتاتين، تنوي نشرها.. حيّتها المرأة، فردّت عليها السيّدة «وداد» و هما يرتقيان السلالم جنبا إلى جنب، إلى آخر مدرج في العمارة .. كانت فرصة للتعارف وربط الصلة .. تحدّثتا كثيرا .. عرفت السيّدة «وداد» أنّ الطفل في سنته الأولى و أن زوج المرأة، وتدعى مبروكة، مهاجر .. ولم تتوسّع في التفاصيل، فاكتفت السيّدة «وداد» بهذا وغيّرت حديثها، لتنسجه حول الطفل:
– «يبدو أنّه شيء متعب أن تربّي الصغار؟»
فأجابتها المرأة وهي تعلّق ثوبا فوق حبل الغسيل:
– «نعم، و لكنّه تعب لذيذ .. ألم تجرّبي بعد؟»
تنهّدت السيّدة «وداد» ثمّ قالت:
– «يا ليت، فأنا لم أكتو بهذه الأمنية الغالية .. كلّ شيء بالمكتوب.»
ثمّ تبسّمت بمرارة و هي تضيف:
– «لم أترك وسيلة لم ألتجئ إليها، ولكنّه القدر قد أوصد أبوابه، فكلّ من عرضت عليه حالتي ادّعى أنّي لا أحمل أيّة معوّقات، والنتيجة غائبة لست أدري لماذا.»
مالت إليها مبروكة بكلّ حواسها، ثمّ سارت ووقفت قدّامها، تلفحها بنظرات في وجهها، وقالت مستفسرة:
– «هل استشرت أمّ دارب؟»
فزمّت السيّدة «وداد» شفتيها، وبحلقت في وجه مبروكة تحاول أن تفهم هذا الاسم:
– «كيف هذا؟»
– «اسمعي .. قد يحدث أن تصاب المرأة بالعقم، هذا طبيعي، إلاّ أن الصورة التي تقع لواحدة تختلف عن الأخرى .. هناك مثلا من تكون عندها إصابة دائمة غير مفارقة، وهناك من تجدها ظرفية غير ملازمة، ففي هذه تأخير للحمل وليس هو عقم حاصل .. وأنت ربّما تكونين من هذا النوع .. عليك إذن أن تستشيري أم دارب كي تعرفي ذلك، فأيّ فائدة من الحرث في البحر؟»
تطيّرت السيّدة «وداد» من العبارة الأخيرة التي نطقت بها مبروكة، وتشاءمت كثيرا من نتيجة اللعبة ومخلّفاتها .. ورغم ذلك فقد قبلت أن تقذف نفسها في هذا التيّار، وهمّت أن تسألها عن السبيل إليها، والشروط الملزمة لتحقيق غايتها، ولكنّها تذكّرت فجأة أنّها أطالت المكوث، وأنّ زوجها لا شكّ ينتظرها على السفرة، فنطّت بسرعة خاطفة، واتجهت على عجل نازلة إلى شقّتها وهي تقول قبل أن تختفي:
– «آه! نسيت الرجل، لم أضع له إفطاره .. أرجو أن تشاركينا العشاء الليلة لنكمل حديثنا. لا تنسي ذلك .. رجاءً»
وغابت عن أنظار مبروكة .. ولكنّها عندما التحقت بالبيت، وجدت إبراهيم قد خرج …
*****
لم يلحظ السيد إبراهيم إلاّ وهو ينعطف في اتجاه خاطئ عن المؤسسة التي يعمل بها .. كانت ساقاه تقودانه كرها إلى دور الأطفال، وفكره منشغل بشتّى الأفكار التي تحمل وساوسه .. لقد سبق أن عرف الطريق إلى هنا .. وها هو الآن يتوقّف بالقرب من البوّابة .. لم يسأل هذه المرّة عن مكتب المديرة، فهو يعرفه، ولم يعد بحاجة إلى من يقوده إليه .. دلف السيد إبراهيم إلى داخل الدار، ومنها عبر إلى مدخل بناية صغيرة منتحية في جانب منفصل وهو يشقّ جماعات الأطفال، ملتفتا إلى كلّ الجهات، مندهشا بالزيّ الموحّد الذي يرتدونه، فهم أشبه ما يكونون بتلامذة المدارس، يرفلون في مناديلهم الزرقاء، لاعبين، صاخبين .. اقترب من المكتب دون أن يعترضه أحد، وطرق على بابه بأدب، فسمع صوتا أنثويا يأذن له بالدخول، فأدار مقبض الباب ودخل.. كانت المديرة تجلس وحدها في ذاك المكتب، وقد انهمكت في تصفّح بعض الملفات وصياغة الوثائق .. حيّاها السيّد إبراهيم فمدّت إليه يدها وصافحته، ثمّ أشارت إلى مقعد قريب داعية إيّاه إلى الجلوس:
– «السيد إبراهيم الطاشوري على ما أظن؟»
– «نعم سيّدتي، لقد جئت لأطمئنّ على طلبي.»
نظرت المديرة في الملف الذي أمامها وكأنّها تفكّر، ثمّ رفعت رأسها وقالت:
– «أما زلت مصرّا على ذلك؟ إنّ مسألة التبنّي مسؤولية عظيمة يستحسن التفكير فيها بعمق.»
امتعض السيد إبراهيم، وحافظ على صمته، فتابعت المديرة قائلة:
– «هل أخذت موافقة زوجتك؟»
مسح السيد إبراهيم براحة يده على جبينه وهو يقول بصوت خافت:
– «الحقيقة .. لا، إنها رافضة لهذه المسألة، وأنا تائه لا أدري ماذا أفعل لأقنعها.»
فقامت المديرة من مكانها ولفت حول الطاولة العريضة ثمّ توقّفت قبالته وقالت:
– «سيد إبراهيم، بودّي أن أفعل شيئا لك .. أنا آسفة .. إنّ طلب موافقة الزوجة كشرط أساسي للموافقة ضروري، فهي من ستسهر على تربيته .. ونحن لا نرغب في أن يكون ابننا سببا في خلافات بينكما .. كذلك لا نريد في الوقت نفسه أن يعيش في جوّ مشحون بالتوتّرات .. لا يمكن أن نطلق الأطفال هكذا دون ضمانات حقيقية، وأبسطها الراحة النفسية .. مع هذا، قد نجد حلاّ يخرجنا من هذا التردّد.»
فنهض السيد إبراهيم متثاقلا، كئيبا.. صافحها وانصرف …
*****
في المساء، مازح السيد إبراهيم الطفل ولاعبه بلطف .. كان يرفعه عاليا، يدوّح به، فيمد الصغير أصابعه القصيرة إلى خدّي الرجل وكأنّه يريد التمسّك بهما خوفا من السقوط.. و لم تمض فترة من الزمن حتّى استأنس به الصبي وألفه، فصار يحبو إليه، ويتشبّث بتلابيب ثوبه .. حدث هذا فيما كانت السيدة «وداد» وضيفتها تقومان بجمع الصحون وإعادتها إلى الخزانة.. بعد تناول الطعام، ألحّت مبروكة على مساعدتها، ولم تمانع السيدة «وداد» بالمرّة، فهي تريد رفع الكلفة والاختلاء بها بعيدا عن آذان زوجها لتزوّدها بمعلومات أكثر عن أمّ دارب ..
– «قلت لي هذا الصباح إنّ هناك سيّدة تستطيع مساعدتي على الإنجاب.»
ضحكت مبروكة وقالت مصحّحة:
– «بل سلحفاة .. ولا تساعدك على الإنجاب وإنما تنبئك بعدد الأولاد الذين ستنجبين..»
– «سلحفاة تفعل هذا .. هذا هراء!»
– «لا تحكمي عن الأشياء سلفا .. لن تخسري شيئا إن جرّبت .. تطهّري، واحملي معك صغيرا، واحرصي على أن لا يفارق حضنك مدّة الزيارة، فهي لا تظهر إلاّ للصغار، حبّا فيهم ..»
استغربت السيدة «وداد» وتحيّرت .. إنّها تنجرف نحو معتقد فاسد .. سلحفاة عرّافة! من يصدّق هذا فهو ساذج .. مؤشّر الإيمان لديها يكتسح زاوية الخطر.. هي لا تعرف ماذا تريد ولكن هذا ما تريده بالضبط .. سلحفاة عرّافة وصبي يجلب لها الحظ!.. من أين ستأتي بهذا الولد؟ .. وقفت على شبه حل، سيكتمل إذا ما وافقت مبروكة على أن تكون معها في رحلتها إلى معبد أم دارب، هناك تحت الجبل، بالقرب من «حمّام سيّالة»(1) .. طلبت السيدة «وداد» من مبروكة مرافقتها كي تضمن وجود الطفل، وبعد تردد قصير كانت الموافقة …
أعلمت السيدة «وداد» زوجها بما عزمت عليه فرحّب بالفكرة بما أنّها فكّرت في غير الطبيب .. نام ليلته تلك طويلا .. تقلّب في نومه حتّى اكتوى جنباه .. تمدّد .. تكوّر .. أخذ الأوضاع جميعا، ولكن الليل طويل على غير ما ألفه بدا له أنّه تمطّط أكثر من اللزوم .. السابعة لم تأت، فالطفل لم يصرخ بعد .. دسّ رأسه بطراوة تحت اللحاف وانكمش ثمّ لم يصبر على وضعه فكشف رأسه ونظر إلى الساعة فوق الطاولة الصغيرة .. قفز بسرعة وهو يلعن:
– «نسيت أنهم سيخرجون باكرا»
كانت الساعة تقارب العاشرة، ولم يعد بإمكانه أن يلتحق بعمله، لقد فعلها الصغير وغالطه، سامحه الله!.. بدأت بلادته تفتر شيئا فشيئا، وحماسه يعود إليه تدريجيا .. استجمع انتباهه كلّه، وقرّر الالتحاق بزوجته مادام نهاره قد نُقب ..
*****
كانت السيدة «وداد» متربّعة أمام مغارة سوداء على حافة الطريق حين أطلّ السيد إبراهيم منهكا من التعب، يجرّ قدميه جرّا، وما إن لمح شجرة بالقرب من المغارة حتّى سارع يتكئ عليها .. لم يفارق الصبي لحظة صدر السيّدة «وداد» منذ خروجها من المدينة إلى أن تقلّص صفّ النسوة الذي كان أمامها وجاء دورها .. كان يطوّق عنقها، ويتمسّح بضرعها كالمتشهّي لامتصاص الحليب، فتشدّه إليها وتهمس لنفسها في سرّها:
– «ما أبلغ حبّك للأطفال يا وداد.»
أخرجت من كيس بجانبها قطعة خبز، دعكتها في كفّ الصغير وألقت بها في المغارة، تقلّد النسوة اللاتي كنّ قبلها، ثمّ قالت كالمبتهلة مناجية:
– «يا أم دارب أعطيني باش نحارب راو الراجل هارب!»
ضحك السيد إبراهيم من قولها وعلّق مازحا وهو يقترب منها:
– «أنا لم أهرب يا وداد .. ها قد أتيت لمؤانستك.»
فتضرّج وجهها بحمرة الخجل، وبقيت شاخصة في المغارة لا تحوّل نظرها عن التجاويف التي بداخلها، تترقّب الذي سيحدث ..
كان الكهف الصغير عبارة عن صخرة نائية على جنب الطريق، تفجّرت تحتها عين صافية رقراقة، فاصطدم ماؤها الحلو بالصخرة فثلمها والتهم قشرتها .. تشققت وتوسّع الماء فيها وسكنتها السلاحف حتّي بدت على الشكل الذي هي عليه الآن .. يملأ منها المارّة أوعيتهم، ويستريحون قربها .. ونظرا لموقعها الجميل، بُني، على بعد أمتار منه، حمّام انزوى تحت هضبة عالية، يأتيه الماء ساخنا سخونة طبيعيّة، ويأتيه الناس للتداوي والغسل .. أما الطريق فقد كان يتوقّف مباشرة أمامه ولا يتعدّاه. ودفعت الضرورة إلى إقامة بعض الحوانيت لبيع لوازم الاستحمام والمواد الغذائية التي تناسب إمكانيات القرية وازدهار الحمّام، فاكتمل جمال الطبيعة مع جمال الحياة المدنية.
مازالت قطعة الخبز التي رمتها السيّدة «وداد» تطفو فوق سطح الماء، يدفعها التيّار في مساره فتصطدم بجدار الصخرة ثمّ تعود إلى وسط النبع .. في تلك اللحظة خرجت سلحفاة ماء من شقّ في الصخرة، اشتمّت رائحة الخبز فزحفت نحوها .. انقطع تنفّس المرأة، ثمّ تهلّلت أساريرها وهي ترى صغار السلحفاة تطلّ من الشقوق ثمّ تعود ما عدا اثنين منها تابعت سيرها مندفعة خلف أمّها .. توقّف أحدهما في نصف الطريق واستمرّ الآخر في العوم نحوها..
– «تعال، انظر يا إبراهيم .. هذه أم دارب .. وهذا الذي بجانبها هو الصغير الذي سنرزق به .. أمّا ذاك الذي ركن إلى الجانب الآخر فهو .. آه! نسيت كيف فسّرته مبروكة .. ربّما هو المولود الذي لا يعيش طويلا، أو الأنثى التي سيهبها الله لنا .. ليت مبروكة حاضرة لتأويل هذا المشهد.»
عند ذلك، قال السيد إبراهيم مستفسرا:
– «بالمناسبة، أين هي؟ ألم تأت معك؟»
فأجابت السيّدة «وداد» دون أن ترفع عينيها عن أم دارب:
– «لقد دخلت إلى الحمّام .. قالت إنّها لن تغيب طويلا، وها هي قد أطالت وتأخّرت…»
فجأة، بكى الطفل فنهضت وقد قطعت كلامها، وراحت تسير به، تهدهده .. ولكنّ بكاء الطفل ازداد قوّة، فاستدارت واتّجهت إلى البقعة حيث كانت، وفتّشت في كيسها عن الرضّاعة، ولمّا وجدتها وضعتها في فم الصغير فسكت .. لم يكن الصبي قد اعتاد على حليب الأمّ على ما يبدو، فقد امتصّ الرضّاعة بشراهة، وبدأت الفقاقيع تطقطق بين شفتيه، ويسيل الحليب على ذقنه ..
– «تأخّرت كثيرا .. لقد نسيت نفسها في الحمّام .. سأذهب لأستعجلها.»
أسرّت ذلك لزوجها وهي تجمع الحاجات التي أتت بها، ثمّ انطلقت وطرقت باب الحارزة .. طلبت منها أن تستعجل المرأة الشابة في الخروج، وأدلت لها بأوصافها .. اختفت الحارزة فترة في المقصورة ثمّ عادت لتخبرها بأن لا وجود، في الداخل، لامرأة بتلك الأوصاف.. ساور السيّدة «وداد» القلق، أرادت أن تتأكّد بنفسها .. قد تكون المرأة في ركن ما.. اندفعت تقتحم المقصورة تحت دهشة الحارزة واحتجاجها .. كشفت عن النسوة .. نقّلت نظراتها من واحدة إلى أخرى، ولكن مبروكة لم تكن بينهنّ .. وحين علم السيد إبراهيم بالخبر طمأن زوجته قائلا: – «إلى أين يمكن أن تذهب؟ قد تكون عادت إلى شقّتها لأمر طارئ؟»
هناك، كانت الشقّة خالية، لا شيء يدلّ على حياة فيها .. طرقا الباب ولا من يجيب .. بكى الصغير وسكت .. بكى الصبي وسكت .. ثلاثة أيّام مرّت على اختفاء مبروكة .. صرخت السيّدة «وداد» يائسة:
– «الفاجرة! ألقت بابنها في حجرنا وفرّت خوفا من العار .. لهذا السبب لم تكن تبتعد عن العمارة، و تدّعي أن زوجها في الخارج.. الوضيعة!»
بدأت لديهم الوساوس تتضخّم، وانتابهما القلق .. كانا يأملان في عودتها ولكن الأمل الآن قد فتر وخبا .. بعد هذا الصمت .. وجب، إذًا، إبلاغ الشرطة لكي لا يتحمّلا العواقب، فالأمر لا يتعلّق بضياع قطعة قماش أو ما شابه ذلك، إنّه يتعلّق بضياع إنسان .. قد تكون ميتة في مكان ما .. وقد تكون تلهو مع الخلاّن .. حمل السيد إبراهيم والسيّدة «وداد» معهما ثمرة الخطيئة إلى مركز الشرطة .. لا بد من تسليم ابن الزنا هذا إلى من يهمّه الأمر .. تقدّم السيد إبراهيم يشرح لرئيس المركز الأسباب التي دفعته إلى مقابلته .. سرد عليه الذي حدث .. ألقي الضابط على الصبي نظرة باردة، وأخذ يسجّل في فتور شيئا ما في سجلّ خاصّ .. عندما فرغ من الكتابة استدعى عونا وأمره بأن يأخذ الطفل من المرأة ويرسله إلى دور الأطفال، فسارع العون إلى تنفيذ الأمر .. أبقت السيّدة «وداد» الطفل بين يديها .. التصقت به.. تركته لاهيا في حضنها يعبث بأكمام فستانها .. هذا الطفل البريء لا يهتمّ بما يدور حوله .. ما ذنب الصغار إذا أخطأ الكبار؟ حنّ قلبها ورقّ فانحنت تقبّله وهي تقول في حزن ورثاء، غير عابئة بالعون الذي يقف منتظرا تسلّم الصغير:
– «أحقّا تودّون إرساله إلى الملجأ؟»
– «ليس لدينا خيار غيره .. إلاّ إذا كنت تريدين أن أضع له سريرا في مكتبي .. وهذا ليس واردا.»
تطلعّت السيّدة «وداد» في زوجها مدة ثمّ استدارت لتقول:
– «هل لك أن تتركه معنا لنتخذه ولدا.. سيلقى لدينا العطف والحنان، ومن المؤكّد أنّه سيسعد معنا.»
حوّل العون بصره من وجه المرأة إلى وجه الرجل وهو يتقهقر يستشفّ منه بريق السرور الذي أحاط بعينيه عندما نطق الضابط بعد تفكير قصير:
– «لا بأس، سيكون لكما ذلك.. بعد أن أتمّم الإجراءات اللازمة وتحصلا رسميا على الوثائق المطلوبة سيعتبر فعليا ابنكما .. أمّا الآن فعليّ أن آخذ منكما بعض البيانات الضرورية.»
ولا يدري أيّا منهما أكثر سرورا الرجل أم زوجته…
*****
اختفت مبروكة، و تعلّق الصبيّ بالأسرة الجديدة .. ابن مبروكة هو الآن ابن السيد إبراهيم وزوجته، عجيبة هي الدنيا، غريبة أحداثها، تعطي الخير لمن يأباه وتمنعه عمّن يريده .. آه لك يا دنيا! صبري عليك يا حياة! زفر السيد إبراهيم وهو يميل إلى دور الأطفال محدّثا نفسه .. كان ينوي أن يزفّ البشرى للمديرة .. وداد التي تنفر من معانقة أبناء الزنا تحضن الآن صبيا منهم! لا حاجة له اليوم بآخر، سيلغي الاتفاق، فقد حصل المقصود واستبشر بما دبّره الزمان.. عندما دخل على السيدة المديرة رحبت به كعادتها وهي تقول:
– «مرحبا بك، سيد إبراهيم، لقد تمّت الموافقة على طلبك.. نلت رغبتك أخيرا.»
صمت السيد إبراهيم محتارا كيف يبدأ الكلام. ثمّ استجمع شجاعته وقال:
– «عفوا، أنا آسف لإبلاغك بالتطوّرات الجديدة.»
و قصّ عليها الواقعة. فابتسمت المديرة وهي تأخذ سمّاعة الهاتف:
– «تهانينا الحارّة .. علينا أن نحتفل بهذه المناسبة ..»
قالت ذلك ثمّ بدأت تتحدّث في الهاتف:
– «آنسة ليلى، أريد ملف الصبي حسام على مكتبي .. بسرعة لو سمحت.»
أقفلت السمّاعة وعادت تتحدّث إليه، إلى أن طُرق الباب ودخلت فتاة، لمّا رآها السيّد إبراهيم قفز واقفا وتقهقر إلى الخلف فاغرا فاه:
– «أنت ؟!»
نظرت الفتاة إليه في لا مبالاة، وتقدّمت بخطى ثابتة إلى وسط المكتب، ثمّ مدّت ملفّا تسلّمته منها المديرة وقالت تخاطب السيد ابراهيم وتشير إلى الفتاة:
– «الآنسة ليلى، مربية عندنا. و هذا ملفّ ابنكم حسام .. أهنّئك من جديد.»
ومدّت يدها تصافحه وتربّت على يديه وهو ينظر مذهولا إلى ليلى ويتمتم:
– «مبروكة كذبة مدبّرة .. غير معقول.. غير معقول..»
_________
(1) قرية في باجة .. مسقط رأس الكاتب وهي بالنسبة له قلبه (فؤاده) التي اشتقّ منها سابقا اسمه الأدبي (فؤاد سيّالة).