حملت هاتفي، فوجدت أن حسابا افتراضيا يحمل اسم شيطانة قد أرسل لي طلب صداقة. أفزعني الاسم، فجابت مخيلتي، في رمشة عين، صورا كثيرة عن هيئة الشيطان الذي لا شغل له سوى غواية الإنسان، وجره إلى الخسران…
وقفت كثيرا عند هذا الحساب الذي شد فضولي. أردت تجاهله، لكنه استأثر بي، فبدأت أسئلة كثيرة تحوم بذهني: ألم تجد صاحبة الحساب غير هذا الاسم؟ ولماذا هذا الاسم بالضبط؟ وما غايتها من صداقتي؟ … تبسمت واستطردت: وهل جمعت المعلومات الكافية عني؟ ومنذ متى وهي تتابعني؟ أفعلا أعجبت بي؟ وإن أعجبت بي، فما الذي أثارها في؟…
تصفحت حسابها، فاستحوذت منشوراته الغريبة على انتباهي. كل شيء غريب بدءا من الاسم، صورة الأسد الموضوعة على الغلاف، والمكتوب أسفلها “لعنة الله على الشيطان الرجيم”، شيطانة تلعن الشيطان!! أتلعن أباها أم أخوها…؟
عالم من الغرابة ساهم في زيادة منسوب تساؤلاتي التي لم أجد لها جوابا شافيا، فقررت إلغاء هذه الدعوة للتخلص من هذا الصداع الذي تلبسني وعكر صفو مزاجي. ترددت كثيرا، لكن فضولي دفعني إلى الضغط على زر قبول.
في اليوم الأول، بادرتني برسالة شكر على قبول الصداقة، مذيلة بباقة ورد فريدة الألوان، لكنها مثيرة.
تبادلت والشيطانة بداية رسائل نصية محتشمة هدفت إلى التعارف. وبعد توالي الأيام، كبرت الجرأة، فطلبتُ منها التواصل مرئيا، فكانت المفاجأة. فصحتْ لي على أنه ذكر ينتحل صفة أنثى. دون رقابة انفلت مني سؤال “لماذا”، فجاء الجواب خلافا لما توقعت: فقط هو حب المفاجأة، تجريب المختلف، والرغبة في التسلية…
دفعني ضميري إلى أن أحذفه من قائمة أصدقائي، لأن الذي كذب مرة، فدوما يكذب، لكن حب المعرفة دفعني لأن أرى صورة هذا الكذاب الذي خلع ثوب الرجولة وتأنث.
في اليوم الموالي، تبادلنا الصور، ثم الشرائط المباشرة. فعلا تأكدت أنه ذكر. أبهرني كثيرا، فأبجدية اللغة العربية غير قادرة على نحت وصفة جماله، فهو جميل فوق العادة. وضاء المحيا، ممشوق القوام، معسول اللسان… تضفي عليه ملابسه هالة من الاحترام.
استهواني كثيرا، بل أغراني جماله، وتمنيت لو كان بجانبي ساعتئذ. قررت أن أراه كي أغذي فضولي، وأخمد نار تساؤلاتي، لكن تجري الرياح عكس منحى السفن.
فقد أججت رؤيته زوبعة أسئلتي حتى كادت تعصف برأسي: عجيب أن ترى شابا بهذا الجمال يلبس جبة أسد مفزع، وغريب أن يختبئ فتى جميل في ثوب نسائي.
حددنا يومين كموعدا للقاء. مرت اليومين متثاقلة العقارب. كانت خلالها نفسي سجينة وراء قضبان قلبي.
التقينا، فاحتضنني رغم أن مغناطيس جاذبيته تقلص. فلم يعد ذلك الشخص الذي رأيت على شاشة هاتفي. لقد تغيرت ملامحه قليلا، لكن كلامه ازداد حلاوة.
دعاني إلى مقهى قرب الشاطئ، فلبيت دعوته دون تردد. بعد أقل من ساعة، وجدت نفسي بملهى أسفل المقهى وسط جوق غنائي رديء المؤدى، لما أفصحت عن رأيي في الجوق، رد دون تفكير -أو كما بدا لي- أن المرة الأخرى ستحملنا إلى ملهى ذي جوق جيد، ململت رأسي معبرة عن الرضا ودون تفكير، وكأن ” لا” حذفت من قاموسي.
أخذت ألبي دعواته التي كثرت، بل أصبحت يومية، بعد الثالثة عندما ينتهي من عمله. كان ذلك على حساب حصص دراستي، فشلت في الدورة الأولى على غير عادتي، رغم أنها كانت سنتي الأخيرة لإنهاء مسيرتي الجامعية، والانخراط في حياة العمل كطبيبة. قررت أن أبتعد عنه لأستعد للدورة الاستدراكية لأنقد ماء وجهي، وأخْلص من أسئلة أمي التي أصبحت تحاصرني، كأنها تعلم ما ألم بي.
أما أبي فدائما يجد لي الأعذار، يواجهه شك أمي بدعوى أنه يعلم ضغط السنة الأخيرة، ويزكي ثقته في، وأن الدورة الموالية ستحملني إلى صف الناجحات. لكني فشلت في ذلك، كما فشلت في التركيز، وأنا أراجع، كأني أقرأ صفحات بيضاء.
ذات مساء، قبل الاستدراك بثلاثة أيام، أخذني إلى منزل منعزل في طرف المدينة، فكان ما كان، ودون وعي مني. لم أدرك خطورة الفعل إلا بعد الانتهاء. لم أعد قادرة على العودة إلى منزلنا، فاضطررت إلى مهاتفة أمي وإخبارها بمبيتي عند صديقي سعاد التي تبرأت سابقا مني ومن أفعالي.
صرت أصرخ في وجهه: خنت ثقة والدي، سودت وجههما،… وعدني برتق ما خرب. تناسى أنني طبيبة. سأرتق جرحي المادي، بينما جرحي النفسي سيظل ينزف تأنيبا، ندما، خيانة، استغفالا، غباء… وسأظل أرى نفسي بعين الحطة، غدارة، ماكرة، خاصة وأنا بين يدي الذي سيسلم بأني عذراء ما وطأت رجلاها الرذيلة. وستظل زلتي وصمة عار، موشومة في سجل أخلاقي، يعجز الزمان عن محوها.
هدأ روعي قليلا بعدما وعدني بالزواج، لكن ذلك ما كان إلا مهدئا. سرت ألح عليه، فغدت لقاءاته بي تقِل حتى انعدمت، فاستيقظت من المخدر الذي ضبّع مخي.
رتقت الجرح ومحوت نذوبه من صفحة وجهي، وعُدت إلى صديقتي الوحيدة، وقررت أن تبقى وحيدة على قائم أصدقاء الواقع والمواقع..، فهي مرجع في الثبات والحذر والتعقل والرصانة. لو استمعت إلى نصائحها لكنت وإياها نتلذذ طعم النجاح.
جريت وراء الشيطان لتغذية فضولى، فارتكبت زلة لا تغتفر، فطردت من جنة الشرف إلى جحيم العذاب النفسي الممتد. فالفضول في غير العلم ضلال، والتسليم بلادة. ومن البلادة أن نثق في أسماء، كلام، صور… على فضاء خارج عن رقابة القانون، وخاضع لنزوات الافتراض، ومزاجية المبحرين. فضاء يساعد كثيرا على التقمص، الكذب، النصب، الابتزاز… فكثير من الذئاب مختفية في فراء الغزلان، وكثير من الضباع في ثياب أسد.
أزلته من قائمة الأصدقاء، وغادرت مواقع التواصل، وأنا أجر أذيال العار، وقررت أن أركز على دراستي لأعوض ما فات، أما عاري، فدفنته في ركن بعيد من قلبي.