القرون التي عاشها اليهود بجانب المسلمين على أرض المغرب جعلت الفرقتين معا تعتبر هذا البلد موطنهم وتاريخهم وذاكرتهم على حد سواء. وصار لليهود المغاربة في هذا البلد الذي حقق لهم الأمن موروثا ثريا بالأدب والفنون والشعر والفكر… إن تاريخهم في المغرب لا يشبه الواقع الذي عاشوه واختبروه في المهجر وفي الشتات الثاني الذي أصبح فيه اليهودي المغربي يحن إلى الماضي أكثر من واقعه المعيش في مجتمع لم يبلغ بعد طور المجتمع المتبلور والمنسجم، لأن بنيته قائمة على الهجرة عبر موجات متتابعة من أماكن مختلفة من العالم. وبذلك جاءت مؤلفات حاييم الزعفراني كتعبير عن الحنين لوطن كان ملتقى الثقافات والحضارات، واستعادة نبض تاريخي يمثل هوية وذاكرة يهودية مغربية يستعيدها حاييم الزعفراني محاولا حمايتها من الاندثار، وقد سعى الكاتب والباحث عبد السلام شرماط من خلال مؤلفات حاييم الزعفرانى أن يفتح أفقا رحبا للتعرف على ثقافة الآخر، الذي هو في الأصل جزء مكون من النسيج المغربي، هذا الجزء الذي نجهل الكثير عن ثقافته وتاريخه. وفي هذا السياق جاء كتابه المعنون بـ«يهود المغرب في كتابات حاييم الزعفراني» ليلقي الضوء على مشروع حاييم الزعفراني في إحياء التراث اليهودي في الأندلس والمغرب، ويقوم بالبحث في خصوصيات الطائفة اليهودية الاجتماعية والدينية والفكرية في فترة امتدت من القرن 15م إلى بداية القرن 20م.
صدر هذا الكتاب عام 2021، عن مؤسسة “مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع”، ببيروت، ويتكون من 254 صفحة. وسأقدم في هذه الورقة إضاءات حول ثقافة يهود المغرب من خلال ما عرضته فصول هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
1.إضاءة في مسار ومؤلفات حاييم الزعفراني
انطلق حاييم الزعفراني من كتابات خلفها يهود أسلاف، فشمل مجموع مؤلفاته معلومات قيمة يجتمع فيها التاريخي بالاجتماعي والديني بالفكري، دون إغفال أن هذه القيم لا تنفصل عن البيئة التي نشأت فيها (أي المغرب والأندلس)، حيث كانت العلاقات التي تربط اليهود بالمسلمين في هذا المحيط علاقة متينة بلغت مستوى الحوار والتلاقي، ذلك ما تجلى في الآداب الشفوية باللهجات المحلية (اليهودية الأمازيغية) و(اليهودية الأندلسية)، إضافة إلى الأساطير والحكايات الشعبية وتقديس الأولياء.
تناول الباحث عبد السلام شرماط موضوع كتابه في ثلاثة فصول، استطاع خلالها أن يلفت الانتباه إلى أهمية مؤلفات حاييم الزعفراني بعد اطلاعه عليها ودراستها، حيث تعد مادة خصبة تنير جوانب من حياة اليهود التاريخية والاجتماعية والفكرية والدينية، اشتغل عليها حاييم الزعفراني كاشفا من خلالها الغطاء عن تاريخ امتد لأكثر من ألفي سنة، أي لأول مجموعة غير أمازيغية سكنت المغرب واندمجت بالسكان الأصليين من حيث الأخلاق والآداب وطريقة التفكير. ثم مع مجيء اليهود من الأندلس تقوت العلاقات بين الجماعات المتعايشة في المغرب. كما أن الملمح التاريخي يؤكد على أن اليهود عاشوا في ظل سلسلة من الإمبراطوريات (القرطاجيون، الرومان، الوندال، البيزنطيون) دون أن يفقدوا هويتهم وإن اختلف الدارسون حول زمن قدومهم.
وقد قدم الباحث عبد السلام شرماط، في الفصل الأول من كتابه، لمحة عن سيرة الزعفراني وأصول تسميته وانتمائه المغربي إلى مدينة الصويرة، ثم رصد مساره الأكاديمي من خلال مسيرته العلمية وتعدد اختصاصاته، وتكوينه الذي جمع ما بين التعليم العصري الحديث والثقافة التقليدية اليهودية والعربية الإسلامية، فكان متعدد الثقافات، بإتقانه اللغات العربية والعبرية والفرنسية، ومكنه تكوينه الأكاديمي في الحقوق ثم تحصيله للدكتوراه في العلوم الإنسانية في رسم مسار طويل من التدريس والبحث والإشراف العلمي… وخلال نشاطه التأليفي الثَر بيَّن المؤلف أهمية مشروعه في إعادة الروح للتراث الثقافي اليهودي الموروث منذ العصر الذهبي للعبرية-العربية التي عاشت على أرض الإسلام. وقد خلف مخزونا علميا مهما تميز فيه الرجل بالموسوعية والانفتاح على شتى جوانب الثقافة اليهودية في الأندلس والمغرب، وبذلك قدم لنا الباحث أهم أعمال حاييم الزعفراني ووقف عندها قصد الاطلاع على ما تختزنه الذاكرة اليهودية في الغرب الإسلامي، ومنها يهود المغرب بالخصوص؛ بما تركوه من إرث فكري يمتزج فيه التاريخي بالاجتماعي والديني بالأدبي والفلسفي. ولغزارة كتابات الزعفراني فقد اكتفى الباحث بتقديم قراءة تحليلية لبعض مؤلفاته التي رتبها وفق تعاقبها الزمني في الصدور، وهي كما يلي:
•«التربية في أرض الإسلام» 1969. وهو من بين مؤلفات الزعفراني الأولى، ويركز موضوعه على أسس التعليم اليهودي ووصف مراحل التربية التي يتلقاها الطفل اليهودي في الأسرة والمدرسة، كما وقف عند بعض الربيين الذين كان لهم دور في إرساء أسس التعليم التقليدي اليهودي.
•«يهود المغرب؛ حياة اجتماعية، اقتصادية ودينية» 1972. يعد الكتاب وثيقة تشريعية شملت مصادر الشريعة اليهودية والمؤلفات التي كانت المرجع الرئيس للمؤلفين المغاربة، كما عرض الكتاب أثر التجارة والاقتصاد على تغير البنى الاجتماعية بسبب ما يحدث من اضطرابات تؤثر على الناس والأموال…
•«الشعر اليهودي في الغرب الإسلامي»1977. هذا الكتاب هو دراسة مستفيضة للشعر اليهودي في الغرب الإسلامي، وهو حسب الباحث عبد السلام شرماط يقدم صورة واضحة لثقافة يهودية متشعبة الأطراف.
•«ألفي سنة من حياة اليهود»1983. قام فيه المؤلف بدراسة الفكر اليهودي المغربي انطلاقا من خمسة مستويات كبرى، المستوى التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والفكري والديني.
•ثم كتاب «القبالة؛ حياة تصوف وسحر 1986. وهو كتاب يوضح أوجه التصوف اليهودي في المغرب وإثباتها تاريخيا وصحة المؤلفات القبالية وهوية أصحابها، وعلاقة الشعر بالقبالة والموسيقى والأناشيد، والشعراء البارزين في المجال، وقد رام إلى التعريف بالقبالة اليهودية في المغرب، ودورها في إغناء المعرفة اليهودية.
•«يهود الأندلس والمغرب»1996. وحسب الباحث عبد السلام شرماط فإن هذا الكتاب هو «نتاج الكتابات السابقة تحدث فيها الزعفراني عن يهود الأندلس وعن عصرهم الزاهي، وعصر الفكر والإبداع قبل التهجير، كما تناول موضوع يهود المغرب البلديين والمهاجرين، متتبعا البنى الاجتماعية والقانون العام والخاص، وما جد في الشريعة بفعل هجرة يهود الأندلس، مبرزا مظاهر المتخيل الاجتماعي والشعبي الموسومة بالدين والسحر، الحاضرة في الطقوس والاحتفالات»ص118.
إن مؤلفات حاييم الزعفراني تعبير عن الحنين لوطن كان ملتقى الثقافات والحضارات، يترجم من خلالها نبضا يربطه بالتاريخ والهوية ويستعيد ذاكرة يهودية مغربية محاولا حمايتها من الاندثار.
2.إضاءة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية لليهود بالمغرب
ضمن الفصل الثاني تطرق الباحث إلى حياة اليهود بالمغرب، مخصصا المبحث الأول للحياة الاجتماعية والاقتصادية ليهود المغرب، حيث بين أن هذه الطائفة تتكون من مجموعتين؛ اليهود البلديين (توشفيم) وهي مجموعة ارتبط مجيئها إلى المغرب تاريخيا بمجيء الفينيقيين، والطائفة الثانية تسمى مهجرين (ميكورشيم) وهم الذين وفدوا على المغرب خلال تهجير اليهود من الأندلس عام 1492م. ورغم اختلاف المجموعتين في الأصل واللغة والثقافة فقد عاشتا جنبا إلى جنب، وسهر على شؤونهما مسؤولون في إطار مجلس عني بخدمة مصالح اليهود وهو مجلس الطائفة ويتكون من: (الأحبار والقضاة، الأعيان، شيوخ الطائفة، أخيار المدينة، نخبة البيعة أو رعاتُها، أشراف الطوائف، نخبة أو منتخبو المجتمع، الطبقة المهيمنة). وتمتلك الطائف اليهودية مؤسسات عدة تتميز كل واحدة منها بوظيفة تؤديها على الشكل التالي: البِيعة، الحبوس والأعمال الخيرية، إصلاح الأخلاق (حيث يعيش اليهود داخل الملاح تحت رقابة مشددة حفاظا على الأخلاق الطيبة)، وهناك مؤسسة أخرى وهي مؤسسة: التعليم اليهودية.
وتتميز الحياة الاجتماعية اليهودية بمظاهر اجتماعية مختلفة يتداخل فيها الديني بالسحر من خلال طقوس وشعائر تعبر عن لحظات الوجود المتميزة التي سادت الحياة اليومية لليهود: الولادة، الختان، واختيار التسمية، وظروف الطفل في الوسط العائلي، ثم طقوس الزواج من خطبة، وعقد القران، والصداق… وبيَّن الباحث أن للزوجين وعائلتيهما الحق في اختيار واحدا من النظامين في الزواج: النظام التقليدي؛ وهو يستقي أسسه من التشريع التلمودي القديم ومن الأعراف والتقاليد.. والنظام القشتالي؛ وهو نظام يهتم بالأحوال الشخصية والعائلية ويعرف بالإصلاح والتعديل، وكان يعمل به يهود الأندلس المهجَّرون إبان الاضطهاد الإسباني المسيحي (1492م). ثم تناول هذا البحث في إطار ما هو اجتماعي تعدد الزوجات وموقع هذه المسألة في النظامين التقليدي والقشتالي، والقضايا التي يترتب عليها الطلاق، وتناول أيضا ما يتعلق بـقضية “العاكونة” وهي المرأة التي غاب عنها زوجها وتركها معلقة.
كما تناول هذا المبحث ما تعلق بأحوال الطائفة اليهودية وما يخص متابعة شؤونها اليومية وما يتعلق بالفتاوى والالتزامات والأحكام الشرعية المنظمة لحياة الطائفة… ثم تطرق للمشترك اليهودي الإسلامي، إذ أن يهود المغرب عاشوا حالة تساكن وتعايش مع المسلمين لقرون طويلة، وتمتعوا بحقوق ضمنها لهم الشرع الإسلامي في ظل قانون الذمة، وهذا التعايش نتج عنه بناء روابط وصلات في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية مع جيرانهم المسلمين، فهو تقارب تحكم علاقاته طبيعة الإنسان عامة لأن مشاعر الحب والكره والمعاداة هي طبيعة بشرية توجد بين كل الفئات الاجتماعية حتى التي تنتمي لنفس المعتقد.
وقد اشترك اليهود والمسلمون في المغرب في مظاهر ثقافية ونسجت بين الطرفين علاقات متينة تجلت في سلوكهما اليومي، ورغم اختلاف المعتقد هناك تقارب في التفكير والعادات، حيث شارك اليهودي المغربي جاره المسلم في الإيمان ببعض الاعتقادات كالخوف من العين، والجن، فيعمدان إلى استعمال ما يعتقدان فيه حصنا لهما كالتمائم واتخاذ الخميسة، والتشبير، واللجوء إلى الأولياء، بل وصل ذلك إلى حد اشتراكهما في زيارة بعض الأضرحة.
أما فيما يخص الحياة الاقتصادية فقد لعبت عائلات يهودية دورا كبيرا في المجالين الاقتصادي والسياسي وهي في الغالب عائلات قدمت من الأندلس كعائلة “روتي” وعائلة “بلاشا” و”ميمران” و”طوليدانو” وأبناء عطار” و”أبنسور” و”سرفاتي” و”كوريات” و”المليح” وغيرهم كثير… بينما كانت تزاول أغلب العائلات الأخرى من اليهود التجارة والصناعات الحرفية كصناعة الحلي وسك النقود، بحيث توجد داخل الملاح تجمعات طبوغرافية وأسواق بعدد الحرف التي تعكس نشاط اليهود داخله. أما الفلاحة فإن أقلية منهم من زاولها لأنها في نظر اليهود من المهن التي تقع في المرتبة الدونية اجتماعيا.
3.الحياة الشرعية والأدبية ليهود المغرب
واشتغل الباحث في المبحث الثاني على رصد الحياة الشرعية والأدبية لليهود، والحياة الشرعية التي تخص أشكال المعرفة اليهودية، بما فيها الفكر التشريعي المتعلق بالشريعة اليهودية “هلخة” من صلوات وشعائر التعبد، ما ارتبط منها بالقبالة وحياة التصوف وما تأثرت به من المعتقدات الفلسفية.. أما ما يخص الأدب اليهودي فيشمل كل من الأدب القضائي من مجموعات من التقانوت (أي الفتاوى)، ومنتخبات من القرارات القضائية، وأدب النوازل الذي سطر اليهود خلاله إطارا لحياتهم وفق المحيط الاجتماعي الذي يفرض طابعه المحلي، وعليه لعبت الفتاوى دور الرابط العضوي بين الطوائف اليهودية المشتتة، انطلاقا من المراسلات القانونية التي كانت تتم بين الطوائف عن طريق المبادلات التجارية والبعثات اليهودية، وساهمت الأعراف “المنهاك” في إثراء أدب الفتاوى. كما يشمل الأدب اليهودي مؤلفات هلاخية أي تشريعية.
أ.الشعر العبري
رصد الباحث تاريخ وجذور الشعر العبري وفترات ازدهاره، بداية من البيوط الفلسطيني مرورا بالشعر اليهودي الأندلسي وانتهاء بالشعر اليهودي المغربي، فبين أنواع هذا الشعر (شعر البيوط والشعر الملحمي) ونمط نظمه وموضوعاته، ذلك لأن الشعر الشعبي يمثل العقلية الشعبية وهو«مرآة تعكس الوجود اليهودي»، كما يشير إلى ذلك حاييم الزعفراني في كتابه «الشعر اليهودي في الغرب الإسلامي».
وارتبط الشعر ارتباطا وثيقا بالصلاة والطقوس والفلكلور. ومن ناحية الشكل فإن الشعر اليهودي استفاد من الموروث الشعري الأندلسي حيث أن الشعراء اطلعوا على الشعر العربي واستوعبوا قواعده وأوزانه، إذ الأوزان العبرية متشابهة في تفعيلاتها مع أوزان الشعر العربي، كما لم يهمل شعراء اليهود دور الموسيقى في تطوير الوزن العبري.
وقد تطرق حاييم الزعفراني في دراسته الشعر في الغرب الإسلامي إلى نماذج شعرية تتوزع بين التوسلات والأدعية والابتهالات ألفها شعراء مغاربة هم «يعقوب ومسى وشلوم أبنسور». ومن ألوان الشعر اليهودي الذي أبدع فيه اليهود موضوعاتهم: نجد “باقشوت” (وهو شعر وجداني)، وأناشيد ومرثيات وتوسلات. وشعر “التحنوت” وهو الابتهال (وشعر التضرع). وهناك كذلك “أهابوت”، الذي هو أناشيد الحب، ويرتبط الحب في هذه الأناشيد بحب الله لإسرائيل، والحب المرتبط بفكرة الاصطفاء والخلاص.
ويذهب حاييم الزعفراني إلى أن «الشعر اليهودي الأندلسي والمغربي هو ديوان تاريخ قبل أن يكون ديوان شعر» ص81.
وقد ساهم الشعراء اليهود المغاربة في نمو الفكر القبالي وازدهاره، كما اهتموا بتعليم القبالة اللورياني نسبة إلى «إسحاق لويان»، كما أن هؤلاء الشعراء وثقوا في محاولاتهم الشعرية لبعض العلوم اليهودية الأخرى، ومنها: الشعر واللاهوت، الشعر والمجادلة، الشعر التعليمي.
ويشمل الأدب اليهودي كذلك الكلام المسجوع «ميليصاه» وهو نثر موزون ذو جمل قصيرة ويعتمد التواتر الصوتي (التطريز).
ثم هناك أدب القبالة وهو جماع الكتابات التلمودية والدراشية والآراء والمعتقدات الكلامية والفلسفية التي عرفتها العهود اليهودية العربية.
أما الأدب الشعبي فله دلالات تاريخية وفكرية، ويلتصق بوجدان العامة ويسهم في نقل المعارف والعادات والأعراف، وهو سجل غني احتفظت به الذاكرة اليهودية. إن الإبداع الأدبي، المكتوب والشفوي، لا قيمة لدراسته بمعزل عن أشكال الفكر الأخرى، لذلك فهو جزء لا يتجزأ عن التاريخ. كما يؤكد الباحث على أن الأدب الشفوي هو الحارس الأمين على التقاليد غير المكتوبة، فهو يمس القضايا الاجتماعية والتاريخية، ويتميز بإدخال الخيال في البيئة المغربية، كما يهتم بالأنساب الدينية. فإن وجد الأدب الشفوي مكتوبا فإنما ذلك صدفة حتى لا ينسى.
4. مؤلفات اليهود وإثبات الهوية
عقد الباحث في الفصل الثالث والأخير مقارنة بين ما كتبه الزعفراني وما كتبه وألفه آخرون باللغة الفرنسية عن يهود المغرب، وسعى في ذلك إلى تقسيم هذه الدراسة المقارنة إلى ثلاثة مباحث تناولت وناقشت مواضيع تاريخية وجغرافية وفكرية، تعطي فكرة مفصلة عن الدراسات التي تناولت موضوع يهود المغرب وكيف استعرضت الكتابات الفرنسية، خلال القرن العشرين، جميع جوانب حياتهم التاريخية والاجتماعية والدينية والاقتصادية وما تباناه ملوك المغرب (منذ الأدارسة إلى العلويين) من موقف طيب إزاء اليهود وخاصة في فترة (1822-1912)، إذ يقول الباحث عبد السلام شرماط «أن اليهود المغاربة عاشوا حياة آمنة عمها الهدوء والسلام وذلك يؤكد تلك المعاملة الطيبة التي خصها ملوك المغرب لرعاياهم اليهود»ص181. «ولولا عناية ملوك المغرب باليهود، ما شيدت الملاحات، وما عاشوا في استقرار وأمن، ولما ظلوا يحملون حنينهم معهم حتى بعد مغادرتهم أرض المغرب».
ويؤكد الباحث أن الدراسات التي تناولت موضوع يهود المغرب متعددة ومتنوعة بل ومتداخلة ومتشابهة في طرح القضايا، وأنها وإن كانت نظرت إلى العلاقات اليهودية الإسلامية نظرة تقارب وتعايش، فإن الزعفراني نظر إلى تلك العلاقة نظرة أعمق، حيث بحث عنها في العادات والتقاليد التي يشترك فيها اليهود والمسلمون، بما تجلى فيها من مظاهر ثقافية مشتركة، (زيارة الأضرحة، الحكايات والأمثال الشعبية، والأغاني والموسيقى، والشعر…)، وإن ما ميز كتابات الزعفراني، أنها تتضمن موروثا فكريا يهوديا كان القصد منه إعادة إحيائه وبعثه والحفاظ عليه ونفض الغبار عنه ورفض ما يسمى بالتاريخ المليء بالدموع، أي أن الرجل كان صاحب مشروع غايته بعث وإحياء التراث اليهودي في الأندلس والمغرب وحث بني جلدته على العودة إلى الماضي والتمسك بموروث الأجداد، لأنه هو الأساس في صناعة التاريخ وإثبات الهوية والحفاظ على الذاكرة الجماعية المعرضة للضياع، وهو ما يبين أنه مشروع نهضوي تبناه الزعفراني ولا يتحقق لليهود المغاربة إلا بالرجوع إلى السلف اليهودي في الأندلس والمغرب. ويذهب الباحث إلى أن الزعفراني كان يرغب في التأكيد للقارئ أن اليهود يمتلكون حضارة لا يقل تاريخها عن ألفي سنة، وإن كان قد حصر جل كتاباته في مرحلة لا تتعدى خمسة قرون، من القرن الخامس عشر حتى القرن العشرين الميلادي.
على سبيل الختم
إن كتاب «يهود المغرب من خلال كتابات حاييم الزعفراني»، يعد مساهمة علمية كشفت الغطاء عن الأبحاث التي قدمها حاييم الزعفراني عن اليهودية المغربية، وقرب إلينا هذا المخزون العلمي الذي حظي بالاهتمام والدرس. خاصة وأن الزعفراني انكب على البحث منذ خمسة عقود من الزمن بهدف بعث فكر يهودي ظل حبيس سنوات طوال، وضِمنه سعى إلى إثبات الهوية اليهودية، انطلاقا من كتابات خلفها يهود مغاربة، سواء تعلق الأمر بالتربية أو القانون أو الإبداع الشعري أو التفسير التلمودي أو النثر الفني أو الكتابات الصوفية والسحرية. فقد شكلت كل هذه الكتابات مادة قيمة يجتمع فيها ما هو تاريخي بما هو اجتماعي وديني وفكري.
وإن اكتفاء الزعفراني بمهمة البحث في الموروث اليهودي جعل الباحث عبد السلام شرماط في ختام الكتاب يتساءل كيف سيتحقق المستقبل الذي تمتد جذوره بعمق في ماضي يهود المغاربة؟ وكيف ليهود الشرق والمغرب أن يعيشوا حياتهم كما في الماضي، وهم بعيدون عن أوطانهم؟ وهل دراسة أشكال المعرفة اليهودية والتعرف بها كافية لإعادة اليهود إلى أوطانهم وإقناعهم بالرجوع إليها؟
بهذه الأسئلة يختم الباحث عبد السلام شرماط كتابه، وبذلك يفتح أبواب البحث على موضوعات أخرى جد مهمة تحمل في طياتها أسئلة تظل عالقة، تحتاج مزيدا من البحث والدراسة، لأنها أسئلة تستشرف المستقبل وتنظر نحو الأمام لتشكل تصورا لواقع تلبي فيه نزعة التشبث بالموروث المعرفي والديني ومسؤولية الحفاظ عليه رغبة العودة إلى وطن يمثل بالنسبة لليهود الهوية المغربية التي دائما ما تقبل التعدد الثقافي والانفتاح والتعايش في ظل قيم الإسلام السمح وقيم وثوابت الوطن.