بصحبة ثلاث من زميلات العمل، صعدت إلى عربة قطار الدرجة الأولى، بثوبها الأسود الذي تزيّنَ بجمالها رغم آثار الزمن التي خطّها على تلك القسمات التي كأنها خُلقت لتشرِق.
وضعنَ الحقائب في أماكنها المخصصة لها، وأدار عامل القطار مقعدين، ليجلسن متقابلات، بينما أسندت هي رأسها إلى الخلف، وتركتهن سابحات في أحاديث النساء، ثم دخلت في رحلة شرود.
ارتدّ إليها وعيُها على مرأى رجل في المواجهة، يميل برأسه إلى النافذة الزجاجية، هيئته مألوفة لديها، تفرست لحظاتٍ في ملامحه، لتتسع حدقتاها بغتة.
إنه هو، نعم هو، يحمل آثار السنين على ملامحه، لكنه هو، قامته الفارعة التي لا تخفيها جلسته، بشرته السمراء، أنفه المعقوف، حتى زفرته المعتادة التي يفرغ فيها كل همومه، ملامحه واضحة، رغم التجاعيد، رغم الشيب الذي غزا شعر رأسه ولحيته، رغم تلك العوينات السوداء التي ينظر بها إلى قرص الشمس من النافذة، يا الله، لقاء جديد في هذا الزمن، بل على هامش الزمن.
“هل لا زلت تحفظ ملامحي”؟، حدّثت بذلك نفسها، وبداخلها حُبورٌ لاستعادة ذلك المذاق الغائب، ومعه مخاوف من استدراج الماضي.
اعتدل هو في جلسته، وواجهها بقسماته المتجهمة ونظرته الباردة، فيما كانت هي تحرك شفتيها بحديث خافت: ألا تتذكرني؟ أنت أيها الأحمق، ألم تلفت ملامحي انتباهك؟ أنا هي، تلك التي كانت سماءك وأرضك ونفْسَك وأنفاسك؟
سألتها زميلاتها عن هذا الصمت، فابتسمت لهن، وجعلت تتجاذب معهن أطراف الحديث برهةً، وعينها من حين لآخر تزوره في مقعده، ثم تركتهن واستمرت تطالعه في غيظ مُسْتعِر.
عاتبت نفسها على هذا الاضطراب، لكن غرورها الأنثوي الذي اعتادت أن يشبعه ذلك الرجل في السابق، جعلها تشعر بشيء من الإهانة، أهو تجاهل؟ أم أنه يغاضبها بعدما هجرته؟ أو ربما يكون قد نسي ملامحها بعد هذه السنوات.
كان ينظر تجاهها أحيانا، ثم يُحوّل وجهه إلى النافذة أحيانًا أخرى، فيما كانت تستعيد هي الذكريات، كأس الماء الذي كانا يتناوبان تناوله عمدًا، كبديلٍ عن القُبلة، يُصان به الحياء، أحاديث العيون التي نابت عن كل القصائد وسرديات العشق وفنون الغزل، اللقاءات النادرة التي كانت كفردوسٍ أرضي، عن لحظات الوداع الفاشل الذي كان يلُوحُ منهما مرارًا، ثم يبدوان كطفلين يتخاصمان ثم يتعانقان.
لكنها الأقدار، قالت كلمتها، وغدا الوصال مرادفًا للجحيم، وأضحى العيش في سلام مطلبًا مُلحّا لها، لم يكن يملك رفاهية ردّه، جاهد كثيرًا لكي تتشبث معه بالبقاء، لكن رغبتها غلبته، فاستجاب ومضى يجر أذيال القهر، غير أنه فارقها على عهد ألا ينساها، وأن تبقى كلَّ نصيبه من الحب.
“حتى آخر العمر”، كانت آخر كلمة سمعتها منه قبل الرحيل، وهنا داهمها هاجسٌ مزعج، وأفكار لطالما خشيت أن تكون حقيقية، أن مثل هذه العهود الأبدية لا مكان لها إلا بين دفتي الروايات، هو في النهاية بشر، ينسى ويألف الغياب.
تأففت من هذه المشاعر المزعجة، رغم أنها كانت المُطالِبة بالرحيل، إلا أن استبدادها الأنثوي يأبى أن تُنسى وتغدو مثل كل الأشياء التي تُنسى، تبًا لكل شيء، لا بأس، لستَ سوى عابر سبيل.
توقف القطار في محطة بعينها تعرفها، لأنها مدينته التي يقطن بها، فنهض وبيده حقيبة يد صغيرة، وشيءٌ آخر جعلها تضع يدها على فمها في فزع، لتكتم شهقة كادت أن تفضحها.
تلك العصا الطويلة التي كان يتحسس بها الطريق للنزول من القطار، طرقاتها الخفيفة على الأرض كانت كمطارق تدُكّ حصن قلبها، يبدو أن السنين الماضية قد حدث فيها الكثير، وخلّفت فينا أوجاعًا كنا نحسبها بُعد المشرقين.
نظرت إليه نظرةً، حملت مزيجا من الشفقة والحنين والاعتذار عن الظنون، وودت لو أخبرته عن نفسها، لكن لا، لم تكن لتنكأ جرحًا قديمًا طال على التئامِهِ الزمن، لا وقت للنزف من جديد.
مر إلى جوارها وقلبها يخفق بشدة، جاهدت لإخفاء انفعالاتها عن زميلاتها اللاتي غرقن في إلقاء الدعابات والفكاهات وإطلاق الضحكات.
شيءٌ ما سقط منه على الأرض، جعله يهم بالنزول أرضًا، فالتقطت هي من الأرض على عجل علاقةً للمفاتيح، تأملتها وهي ترفعها من الأرض وطالعت منظرها العتيق، يا الله، يا الله، إنها هي، علاقة المفاتيح التي أهديته إياها ليتذكرني دائما، يا الله، لا أصدق.
وضعتها في راحة يده قائلة بصوت كحفيف أجنحة الملائكة، وبنظرة تشرق بالحنان: تفضل.. علاقة المفاتيح يا…
وضعت راحتها على فمها، وابتلعت اسمه الذي ودت أن تنطق به، قالتها وتركت جسدها يهوي إلى مقعدها بشكل لفت انتباه زميلاتها وهن يتبادلن نظرات الدهشة، بينما هي ترثي نفسها، وترثي الأيام، وإلى جانب هذا الشعور القاتم فرحة غامرة، لأن هناك شيئًا قد بقى ليعلن انتصار الحب.
وفي هذه الأثناء، كان الرجل قد فارق حِذْوها بخطوة، ووقف برهةُ متصلّبًا، قبل أن يشكرها، ثم واصل المسير بدمعة مباغتة لم تُخْفها عويناتُه، وأنفاس متلاحقة تلفت الانتباه، وهو يقول بصوتٍ وصل إلى سمعها كصدى: حتى آخر العمر، حتى آخر العمر.
هنا توقف الزمن، وضاعت الكلمات، لم يعد إلا الصمت، والصمت وحده، قيل فيه كل ما يمكن أن يُقال.
قصة مُلهمة
اسلوب سردي رائع المعنى وسلس الكلمات عميق الشعور
اسمتعت جدا بقراءتها ♥️