قصة:كريستال أربوغاست
وقف روبرت بمواجهة بيته ليتأمل عمل يديه ، ثم قال : ” حسنا ، بإمكانك استخدامها الآن !”.ضغطت زوجته الزر المثبت وراء باب المرآب مباشرة ، و على الفور تسببت هذه البانوراما الساحرة من الأضواء بخروج صيحة استحسان من ولديهما الصغيرين . صفق بريان بيديه الضئيلتين ، و هو يقفز إلى أعلى و أسفل ، و لكن تيم شرع يركض على طول الباحة ذهابا و إيابا ، ليتأكد أن كل مصباح يعمل.
و قال : ” هل ستتركها مشتعلة حتى وقت العودة يا أبت ؟”.
نظر روبيرت لابنه البالغ من العمر ست سنوات ثم نقل بصره لزوجته.
اقتربت الزوجة منه ، و وقفت بجواره ، ثم نظرت إلى البيت بتمعن ، و تبادلت معه نظرات اتهام ، و قالت على سبيل الرد : ” نعم ، سوف نغادر بعد وجبة المساء على الفور. كما تعلم الأولاد يتوقون لرؤية الجدة “.
” أعلم ذلك. و لكن لم يعد بإمكانها أن تتعرف علينا “.
” نعم. و لكن أنت تعرف من هي. إلى جانب ذلك ، هي التي اعتنت بك ، يا للمسيح !. يجب أن تشعر بالخجل من نفسك ، يا روب “.
و هو ينظر بعين ثاقبة ، فيما كانت تعود إلى البيت ،أدرك أن لدى كيت الحق في الغضب. لقد توقف عن زيارة بيت الرعاية من حوالي عام. و إن حادث السيارة الذي مات فيه والداه عندما كان له من العمر إثنا عشر عاما ترك لديه عقدة الخوف من الرحيل ، و هذا شيء لا يستطيع التخلص منه.
لقد فتحت له جدته ( أم والدته ) ذراعيها على وسعهما ، و قدمت له مأوى دائما. كانت تدعوه روبي ، و تسليه برواية الحكايات العجيبة ، و كانت تثني عليه كلما أتقن العمل في المدرسة. و لم تعاقبه بعد أية علامة منخفضة ، بل كانت تحثه على أداء أفضل.
و بعد عدة أعوام . خلال عطلة الجامعة ، لاحظ أنها دخلت في طور النسيان. بدأت تنسى دفع الفواتير ، أو التخلص من النفايات المنزلية لأيام متعاقبة. و هكذا اضطر أن يطلب من الجيران العناية بها. و لكن لم يكن بوسعهم تخطي الأٌقدار المكتوبة . و حينما كان في العام الأخير من الدراسة ، دمرت النار المنزل. فقد تركت الجدة الموقد مشتعلا بعد أن أوت إلى الفراش. و كان الرعب من فقدانها عظيما و لا يحتمل. و مع أن قرار نقلها إلى بيت للمسنين لا يعود إليه ، كان روبيرت يعلم أنه غير قادر على رعايتها. فدمار البيت ، على ما يبدو ، أعادها إلى عالم من سنوات خلت ، إلى أيام أبيها.
و قد أخبره عدد من الأشخاص أن دار الرعاية التي ذهبت إليها مثالية ، و لكنه لم يتوقف عن كراهية المكان .. إن الرائحة ، و الأصوات ، و كل شيء هناك يرتبط بالموت ، أو بانتظاره . ثم ، هذه هي قشرة المرأة التي اعتنت به ، و إن كانت لا تتذكره.
و بعد أن ظهرت كيت في حياته حفلت أيامه بالمتعة و السرور. ثم جاء الولدان. غير أن زيارة تلك الدار كانت تنغص عليه مزاجه. و بهذا الخصوص ، كانت كيت دائما ، تحاول أن تقف له بالمرصاد. و إذا كان في العام السابق ، تستر وراء العمل أو مشاغل أخرى كوسيلة لتحاشي الزيارة ، لم يكن محظوظا في هذه المرة.
بعد زفرة قوية استسلم لدواعي رحلة الزيارة ، و عاد على عقبيه إلى البيت.
في غضون دقائق حزمت كيت ابنها بريان في مقعد الأطفال ، و وفرت للولدين أسباب الراحة. و قالت للآخر : ” تيم ، هذا هو دفتر الرسم. لا تزعج شقيقك . نحن على وشك رحلة بعيدة “.
” قد تستغرق فترة أطول من المقرر ، فالثلوج تهطل “.
نظرت إلى وجه زوجها و هو يدخل إلى السيارة و يسحب حزام الأمان. و قالت : ” حسنا ، إذا ، لنجد موسيقا مناسبة تعزف ألحان عيد الميلاد “.
أدار روبيرت زر التشغيل ، و بحثت هي في محطات الإذاعة ، بواسطة المؤشر ، على برنامج مقنع. و ما أن أصبحا خارج نطاق المدينة ، حتى انصبت الثلوج بغزارة وفيرة ، و لكن حركة المرور كانت خفيفة على طرفي الطريق الضيق. كانت جدته تعشق الضواحي ، و قد وضع ذلك في حسابه كعنصر أساسي لاختيار موقع دار الرعاية.
أصبحت الأشجار متراصة على طول طرف الطريق ، و لكنها كانت تنتفخ بأثر الثلوج المتراكمة. و لدى تخفيف السرعة عند منعطف ، شاهدوا جثمان كلب في عرض الطريق. قالت كيت بصوت منخفض : ” يا له من حيوان مسكين”. ثم أخذت نظرة من الخلف ، لتتأكد أن اهتمام الولدين ينصب على موضوع آخر.
و في ساعة الوصول إلى الدار توقف روبيرت بالسيارة أمام المدخل. سبقته كيت و الصبيان في العبور إلى المبنى. و انشغل هو بالبحث عن موقف سيارات. عصفت الريح بوجهه حينما غادر السيارة ، و اتجه إلى الباب. استقبلته هناك باقة الورود التي يعتبرها إشارة على مشهد مـألوف و متكرر ، و كذلك في الداخل ، حلقة القهقهات و أصوات الزوار كانت تختلط في الفضاء مع رائحة البول النفاذة كالعادة. لمست معطفه امرأة مسنة في كرسي متحرك. نظر إليها ، فقدمت له قصاصة من الورق عليها أحد الأرقام. و قالت : ” سيدي ، هل بوسعك أن تطلب لي هذا الرقم ؟”. و مدت يدها بربع دولار ، ثم أشارت إلى الهاتف العمومي القريب في الزاوية. أضافت تقول : ” عيناي ليستا قويتين بعد الآن. بودي لو أتكلم مع عائلتي “.
قال : ” بالتأكيد “. تخلص من معطفه ، و ذهب إلى الهاتف و طلب الرقم. أخذت يد المرأة سماعة الهاتف لحظة جاء الصوت من الطرف الآخر قائلا : ” هنا مركز الشرطة “.
” لحظة من فضلك. أعتقد أنني طلبت الرقم الخطأ “.
و هنا صاحت المرأة العجوز في سماعة الهاتف بأعلى صوتها : ” النجدة . النجدة ! أنقذوني من هنا !”.
و قبل أن يتصرف ، حضرت ممرضة مسرعة و قالت له : ” سأتولى موضوع الهاتف يا سيدي . هذه هي هاتي. إنها دائما تخدع الأغراب ليطلبوا لها الشرطة “. بعد أن اعتذرت الممرضة للمتكلم في الهاتف ، وقف هو ببلادة. كانت الممرضة تدفع الكرسي المتحرك بعيدا ، و المرأة تقول : ” ليس لدى أحد جرأة ! هنا لا توجد جرأة ! ليس لدى أحد هنا أية جرأة !. لو أن أحدا طلب الشرطة سوف يطلق سراحكم جميعا !. و لكن ما من جرأة ! ليس هنا أية جرأة !”.
جاءت كيت من طرف الردهة الآخر ، و بين يديها بريان ، و قالت : ” روب ، ماذا يحصل هنا ؟”. كان تيم في أعقابهما.
” حسنا. على ما يبدو أنني تورطت في طلب الشرطة لسيدة مسنة “.
” ماذا ؟”.
” لا بأس. أين الجدة ؟”.
و هي في غمرة حيرتها ، ردت كيت : ” إنها ترتدي ثياب عيد الميلاد. قالت الممرضة إنها تتابع الموضوع و سوف تأتي بها إلى هنا حالما تكون جاهزة “.
بعد أن علق معطفه ، أخذ روبيرت يد تيم. ساروا جميعا إلى ردهة أخرى ، إلى منطقة استقبال. في الزاوية رأى رجلا عجوزا يعزف ترنيمة عيد الميلاد بالبيانو.. و وراءه جوقة من المنشدين. رسمت إحدى العجائز ابتسامة على شفتيها للولدين ، و هو بدوره ابتسم و أومأ لزمرة من المعارف.
في زاوية أخرى جلست امرأة عجوز ، و يداها معقودتان في حضنها ، و لاحظ روبيرت أن عينيها مغمضتان . و في نفس الوقت كانت تحرك شفتيها بكلام خافت . كانت تقول : ” أخبرتهم أن الملفات ليست مرتبة… الملفات غير مرتبة. كنت دائما أعتني بالملفات. أخبرتهم بشأن الملفات. أخبرته أن الملفات غير مرتبة “.
و في الطرف المقابل. كان أحد الرجال المسنين ينهض من كرسيه المتحرك ، و يمسك ببنطاله و هو يسيبر نحو الباب . و لكن كلما نهض كان جرس الإنذار ينطلق و ينبه ممرضة تأتي بسرعة لتعيده إلى مقعده. و حينما كرر المحاولة للمرة الثالثة ، و قف عازف البيانو على قدميه ، و نظر إليه شذرا. في النهاية اقتيد الرجل العجوز و كرسيه بعيدا.
بعد غياب هذا الهارب ، وقعت عينا روبيرت على جدته ، كانت تسير في كرسيها. و على الفور لاحظ كم هي جميلة و ضعيفة. إن الضوء ، في الظاهر ، يلهب شعر رأسها بخيوط مشعة ، و كانت هي تنظر إليه ، مع ابتسامة.
سألته و هو يحتضنها برقة : ” روبي ، أين كنت ؟”.
” هل تعرفينني ؟”.
” و لم لا أعرفك ؟”.
جلس قربها بارتباك تخالطه السعادة ، و قال : ” آه. لا أعلم. مضت فترة طويلة منذ رأيتك لآخر مرة . هذا كل ما في الأمر “.
” و لكن كنت هنا بالأمس !”.
” هذا صحيح . هذا صحيح “.
بعد نهاية الاحتفال اجتمع روبيرت و زوجته و الولدان في غرفة الجدة.كان يراقبها و هي تروي النكات و تبتسم. و كان يصغي باستغراب و هي تسليهم بإحدى قصصها. كانت من قصصه المفضلة. لقد كانت تسردها بنفس الطريقة القديمة التي مضت عليها سنوات. و في وقت لاحق ، ودعت كيت و الولدان الجدة بقبلة ، و تركوه معها وحيدا. جلس على طرف سريرها ، و نظر مباشرة في عينيها الزرقاوين و البراقتين ، ثم قال : ” جدتي ، أزف وقت الرحيل “.
ربتت على رأسه و هي تبتسم و تقول : ” أعلم ذلك ، أعلم ذلك . و أنا يجب أن أرحل أيضا “.
” إلى أين ؟”.
” مع والدتك . حضرت في هذا اليوم لتقابلني. و سألت إذا كنت مستعدة لمرافقتها”.
” و لكن يا جدتي …”.
” آه ، قلت رأيي بصراحة . أنا غير مستعدة للرحيل قبل رؤية ابني روبي “.
من وراء الدموع الغزيرة في عينيه تشكل نوع من التفهم لما يجري. عانقها لفترة مطولة، فأغلقت عينيها ، و غلب عليها النوم. مددها بهدوء على الوسادة. أخذ منها نظرة أخيرة ، و ذهب إلى الباب ، و هناك كانت العائلة بانتظاره.
و ساعة المغادرة ، لاحظوا أضواء مصابيح الشرطة و هي تشتعل و تنطفئ على التناوب. كانت الممرضة تشرح لهم ملابسات المكالمة الأخيرة. ابتسم لنفسه في طريق العودة إلى السيارة ، و قال : هاتي ارتكبت خدعة أخرى.. و حينما كانت الممرضة تعود إلى مكان خدمتها ، سمع أصداء تلك الصيحة في أرجاء الفضاء . كانت تردد : ” ليس هنا شجعان ! هنا لا يوجد شجعان !”.
وقف روبرت بمواجهة بيته ليتأمل عمل يديه ، ثم قال : ” حسنا ، بإمكانك استخدامها الآن !”.ضغطت زوجته الزر المثبت وراء باب المرآب مباشرة ، و على الفور تسببت هذه البانوراما الساحرة من الأضواء بخروج صيحة استحسان من ولديهما الصغيرين . صفق بريان بيديه الضئيلتين ، و هو يقفز إلى أعلى و أسفل ، و لكن تيم شرع يركض على طول الباحة ذهابا و إيابا ، ليتأكد أن كل مصباح يعمل.
و قال : ” هل ستتركها مشتعلة حتى وقت العودة يا أبت ؟”.
نظر روبيرت لابنه البالغ من العمر ست سنوات ثم نقل بصره لزوجته.
اقتربت الزوجة منه ، و وقفت بجواره ، ثم نظرت إلى البيت بتمعن ، و تبادلت معه نظرات اتهام ، و قالت على سبيل الرد : ” نعم ، سوف نغادر بعد وجبة المساء على الفور. كما تعلم الأولاد يتوقون لرؤية الجدة “.
” أعلم ذلك. و لكن لم يعد بإمكانها أن تتعرف علينا “.
” نعم. و لكن أنت تعرف من هي. إلى جانب ذلك ، هي التي اعتنت بك ، يا للمسيح !. يجب أن تشعر بالخجل من نفسك ، يا روب “.
و هو ينظر بعين ثاقبة ، فيما كانت تعود إلى البيت ،أدرك أن لدى كيت الحق في الغضب. لقد توقف عن زيارة بيت الرعاية من حوالي عام. و إن حادث السيارة الذي مات فيه والداه عندما كان له من العمر إثنا عشر عاما ترك لديه عقدة الخوف من الرحيل ، و هذا شيء لا يستطيع التخلص منه.
لقد فتحت له جدته ( أم والدته ) ذراعيها على وسعهما ، و قدمت له مأوى دائما. كانت تدعوه روبي ، و تسليه برواية الحكايات العجيبة ، و كانت تثني عليه كلما أتقن العمل في المدرسة. و لم تعاقبه بعد أية علامة منخفضة ، بل كانت تحثه على أداء أفضل.
و بعد عدة أعوام . خلال عطلة الجامعة ، لاحظ أنها دخلت في طور النسيان. بدأت تنسى دفع الفواتير ، أو التخلص من النفايات المنزلية لأيام متعاقبة. و هكذا اضطر أن يطلب من الجيران العناية بها. و لكن لم يكن بوسعهم تخطي الأٌقدار المكتوبة . و حينما كان في العام الأخير من الدراسة ، دمرت النار المنزل. فقد تركت الجدة الموقد مشتعلا بعد أن أوت إلى الفراش. و كان الرعب من فقدانها عظيما و لا يحتمل. و مع أن قرار نقلها إلى بيت للمسنين لا يعود إليه ، كان روبيرت يعلم أنه غير قادر على رعايتها. فدمار البيت ، على ما يبدو ، أعادها إلى عالم من سنوات خلت ، إلى أيام أبيها.
و قد أخبره عدد من الأشخاص أن دار الرعاية التي ذهبت إليها مثالية ، و لكنه لم يتوقف عن كراهية المكان .. إن الرائحة ، و الأصوات ، و كل شيء هناك يرتبط بالموت ، أو بانتظاره . ثم ، هذه هي قشرة المرأة التي اعتنت به ، و إن كانت لا تتذكره.
و بعد أن ظهرت كيت في حياته حفلت أيامه بالمتعة و السرور. ثم جاء الولدان. غير أن زيارة تلك الدار كانت تنغص عليه مزاجه. و بهذا الخصوص ، كانت كيت دائما ، تحاول أن تقف له بالمرصاد. و إذا كان في العام السابق ، تستر وراء العمل أو مشاغل أخرى كوسيلة لتحاشي الزيارة ، لم يكن محظوظا في هذه المرة.
بعد زفرة قوية استسلم لدواعي رحلة الزيارة ، و عاد على عقبيه إلى البيت.
في غضون دقائق حزمت كيت ابنها بريان في مقعد الأطفال ، و وفرت للولدين أسباب الراحة. و قالت للآخر : ” تيم ، هذا هو دفتر الرسم. لا تزعج شقيقك . نحن على وشك رحلة بعيدة “.
” قد تستغرق فترة أطول من المقرر ، فالثلوج تهطل “.
نظرت إلى وجه زوجها و هو يدخل إلى السيارة و يسحب حزام الأمان. و قالت : ” حسنا ، إذا ، لنجد موسيقا مناسبة تعزف ألحان عيد الميلاد “.
أدار روبيرت زر التشغيل ، و بحثت هي في محطات الإذاعة ، بواسطة المؤشر ، على برنامج مقنع. و ما أن أصبحا خارج نطاق المدينة ، حتى انصبت الثلوج بغزارة وفيرة ، و لكن حركة المرور كانت خفيفة على طرفي الطريق الضيق. كانت جدته تعشق الضواحي ، و قد وضع ذلك في حسابه كعنصر أساسي لاختيار موقع دار الرعاية.
أصبحت الأشجار متراصة على طول طرف الطريق ، و لكنها كانت تنتفخ بأثر الثلوج المتراكمة. و لدى تخفيف السرعة عند منعطف ، شاهدوا جثمان كلب في عرض الطريق. قالت كيت بصوت منخفض : ” يا له من حيوان مسكين”. ثم أخذت نظرة من الخلف ، لتتأكد أن اهتمام الولدين ينصب على موضوع آخر.
و في ساعة الوصول إلى الدار توقف روبيرت بالسيارة أمام المدخل. سبقته كيت و الصبيان في العبور إلى المبنى. و انشغل هو بالبحث عن موقف سيارات. عصفت الريح بوجهه حينما غادر السيارة ، و اتجه إلى الباب. استقبلته هناك باقة الورود التي يعتبرها إشارة على مشهد مـألوف و متكرر ، و كذلك في الداخل ، حلقة القهقهات و أصوات الزوار كانت تختلط في الفضاء مع رائحة البول النفاذة كالعادة. لمست معطفه امرأة مسنة في كرسي متحرك. نظر إليها ، فقدمت له قصاصة من الورق عليها أحد الأرقام. و قالت : ” سيدي ، هل بوسعك أن تطلب لي هذا الرقم ؟”. و مدت يدها بربع دولار ، ثم أشارت إلى الهاتف العمومي القريب في الزاوية. أضافت تقول : ” عيناي ليستا قويتين بعد الآن. بودي لو أتكلم مع عائلتي “.
قال : ” بالتأكيد “. تخلص من معطفه ، و ذهب إلى الهاتف و طلب الرقم. أخذت يد المرأة سماعة الهاتف لحظة جاء الصوت من الطرف الآخر قائلا : ” هنا مركز الشرطة “.
” لحظة من فضلك. أعتقد أنني طلبت الرقم الخطأ “.
و هنا صاحت المرأة العجوز في سماعة الهاتف بأعلى صوتها : ” النجدة . النجدة ! أنقذوني من هنا !”.
و قبل أن يتصرف ، حضرت ممرضة مسرعة و قالت له : ” سأتولى موضوع الهاتف يا سيدي . هذه هي هاتي. إنها دائما تخدع الأغراب ليطلبوا لها الشرطة “. بعد أن اعتذرت الممرضة للمتكلم في الهاتف ، وقف هو ببلادة. كانت الممرضة تدفع الكرسي المتحرك بعيدا ، و المرأة تقول : ” ليس لدى أحد جرأة ! هنا لا توجد جرأة ! ليس لدى أحد هنا أية جرأة !. لو أن أحدا طلب الشرطة سوف يطلق سراحكم جميعا !. و لكن ما من جرأة ! ليس هنا أية جرأة !”.
جاءت كيت من طرف الردهة الآخر ، و بين يديها بريان ، و قالت : ” روب ، ماذا يحصل هنا ؟”. كان تيم في أعقابهما.
” حسنا. على ما يبدو أنني تورطت في طلب الشرطة لسيدة مسنة “.
” ماذا ؟”.
” لا بأس. أين الجدة ؟”.
و هي في غمرة حيرتها ، ردت كيت : ” إنها ترتدي ثياب عيد الميلاد. قالت الممرضة إنها تتابع الموضوع و سوف تأتي بها إلى هنا حالما تكون جاهزة “.
بعد أن علق معطفه ، أخذ روبيرت يد تيم. ساروا جميعا إلى ردهة أخرى ، إلى منطقة استقبال. في الزاوية رأى رجلا عجوزا يعزف ترنيمة عيد الميلاد بالبيانو.. و وراءه جوقة من المنشدين. رسمت إحدى العجائز ابتسامة على شفتيها للولدين ، و هو بدوره ابتسم و أومأ لزمرة من المعارف.
في زاوية أخرى جلست امرأة عجوز ، و يداها معقودتان في حضنها ، و لاحظ روبيرت أن عينيها مغمضتان . و في نفس الوقت كانت تحرك شفتيها بكلام خافت . كانت تقول : ” أخبرتهم أن الملفات ليست مرتبة… الملفات غير مرتبة. كنت دائما أعتني بالملفات. أخبرتهم بشأن الملفات. أخبرته أن الملفات غير مرتبة “.
و في الطرف المقابل. كان أحد الرجال المسنين ينهض من كرسيه المتحرك ، و يمسك ببنطاله و هو يسيبر نحو الباب . و لكن كلما نهض كان جرس الإنذار ينطلق و ينبه ممرضة تأتي بسرعة لتعيده إلى مقعده. و حينما كرر المحاولة للمرة الثالثة ، و قف عازف البيانو على قدميه ، و نظر إليه شذرا. في النهاية اقتيد الرجل العجوز و كرسيه بعيدا.
بعد غياب هذا الهارب ، وقعت عينا روبيرت على جدته ، كانت تسير في كرسيها. و على الفور لاحظ كم هي جميلة و ضعيفة. إن الضوء ، في الظاهر ، يلهب شعر رأسها بخيوط مشعة ، و كانت هي تنظر إليه ، مع ابتسامة.
سألته و هو يحتضنها برقة : ” روبي ، أين كنت ؟”.
” هل تعرفينني ؟”.
” و لم لا أعرفك ؟”.
جلس قربها بارتباك تخالطه السعادة ، و قال : ” آه. لا أعلم. مضت فترة طويلة منذ رأيتك لآخر مرة . هذا كل ما في الأمر “.
” و لكن كنت هنا بالأمس !”.
” هذا صحيح . هذا صحيح “.
بعد نهاية الاحتفال اجتمع روبيرت و زوجته و الولدان في غرفة الجدة.كان يراقبها و هي تروي النكات و تبتسم. و كان يصغي باستغراب و هي تسليهم بإحدى قصصها. كانت من قصصه المفضلة. لقد كانت تسردها بنفس الطريقة القديمة التي مضت عليها سنوات. و في وقت لاحق ، ودعت كيت و الولدان الجدة بقبلة ، و تركوه معها وحيدا. جلس على طرف سريرها ، و نظر مباشرة في عينيها الزرقاوين و البراقتين ، ثم قال : ” جدتي ، أزف وقت الرحيل “.
ربتت على رأسه و هي تبتسم و تقول : ” أعلم ذلك ، أعلم ذلك . و أنا يجب أن أرحل أيضا “.
” إلى أين ؟”.
” مع والدتك . حضرت في هذا اليوم لتقابلني. و سألت إذا كنت مستعدة لمرافقتها”.
” و لكن يا جدتي …”.
” آه ، قلت رأيي بصراحة . أنا غير مستعدة للرحيل قبل رؤية ابني روبي “.
من وراء الدموع الغزيرة في عينيه تشكل نوع من التفهم لما يجري. عانقها لفترة مطولة، فأغلقت عينيها ، و غلب عليها النوم. مددها بهدوء على الوسادة. أخذ منها نظرة أخيرة ، و ذهب إلى الباب ، و هناك كانت العائلة بانتظاره.
و ساعة المغادرة ، لاحظوا أضواء مصابيح الشرطة و هي تشتعل و تنطفئ على التناوب. كانت الممرضة تشرح لهم ملابسات المكالمة الأخيرة. ابتسم لنفسه في طريق العودة إلى السيارة ، و قال : هاتي ارتكبت خدعة أخرى.. و حينما كانت الممرضة تعود إلى مكان خدمتها ، سمع أصداء تلك الصيحة في أرجاء الفضاء . كانت تردد : ” ليس هنا شجعان ! هنا لا يوجد شجعان !”.
** كريستال أربوغاست : كاتبة أمريكة من أصل إيرلندي. ولدت عام 1954 . متزوجة من فرانك و لها أربعة أولاد. تنشر في عدد من المطبوعات الدولية الشعر و القصة القصيرة. و تعمل حاليا مديرة أعمال لمكتب محاماة.
** المصدر :
** December, by : Crystal Arbogast, CyberWit magazine, India, 2007 .
** الترجمة باتفاق خاص مع الكاتبة.