قلص الدائرة حوله ، وأصبح كل الذين كانوا أصدقاءه سوى أناسا يعرفهم ، أصبح لا يربطه بهم أي شيء . أصبحوا في نظره ينتمون للذين يعرفهم من بعيد . غير حديثه معهم ، صار يتغيب ، ولا يجيب عن رسائل أحد ، سوى قليلا . وحينما يسألونه عن تغيره المفاجئ ، يجيبهم :
-لم تعد لي رغبة في الحديث ولا في مرافقة أحد
جل الذين عرفوه كانوا يعتقدون أنه قد إرتبط بفتاة ما ، وأصبح الحب يستحوذ عليه . الحب يغير الإنسان ، يصبح جل وقته يهبه للحبيب ، يترك أشياء كثيرة من أجل إسعاده ، ينسى الأصدقاء ، والعائلة ، وكل شيء . أما الآخرون الذين يزعمون أنهم يعرفونه أكثر مما يعرف نفسه ، إعتقدوا أنه يعاني من ألم الفراق . في كل مرة يلتقونه ، يخبرونه ضاحكين :
-أنت تعاني . . لقد دمرتك تلك التي كنت تحب .. ما أصعب الفراق ..
كان ينفي كل ما يخبرونه به . لكنهم كانوا يكذبونه . يجادلون في أمره .ولأنه فقد القوة والرغبة في أن يقنع أحدا . كان يصمت ، ثم يوافق كل الذين يتهمونه بأنه في علاقة غرامية
مضى وقت ليس بالطويل ، بدأ يقن أنه لم يعد له إنسانا واحدا يمكن أن يتكئ عليه . وتأكد الذين كانوا أصدقاءه أن صديقهم يعاني شيئا مختلفا من ما كانوا يعتقدونه . تأكدوا أنه قد تغير إلى حد كبير ، ولم يعد ذلك الشخص الذي قد عرفوه .
تنبه أنه أصبح وحيدا بالفعل . وقته كان يمضي مع الأصدقاء ،ولم يكن يشعر بالحزن ، ولا بالآلام . بعد أن جرد نفسه من كل علاقة ، أصبحت الحياة في نظره مختلفة ، صار يراها غريبة . ظل لفترة طويلة يفكر في حياته الماضية ، وفي حياته الحاضرة . يكتشف أنه تغير ، وكأنه نزع عنه جلده القديم . يتحسس جسده بأسره ، يبدو له لم يلبس جلدا جديدا . بقي فارغا ووحيدا . هدم عالمه القديم ، وظل بدون عالم . لم يبن عالما جديدا ليعيش فيه .
الزمن في نظره تغير ، يمضي عليه النهار مثل الشهر ، وفي مرات أخرى مثل السنة . كان يقاوم الفراغ بأي شيء ، لكنه لم ينجح في أن يعيش بدون أن يختنق من فكرة الزمن . هو في واد ، ونفسه في واد آخر . أحس لأكثر من مرة أنه يعيش إغترابا بينه وبين نفسه . حاول التصالح معها . ظل لفترات يقترب منها ، تقترب منه قليلا ، ثم تفر منه هاربة ، وفي مرات أخرى تطير منه مثل طائر يبحث عن مكان أفضل من المكان الذي كان يسكنه
مرة دخل لغرفته ، وذهب للمرآة . حدق في وجهه قليلا ، ثم قال لنفسه :
-لا أنكر أني قد ابتعدت عنك كثيرا . منذ زمن طويل تخليت عن الجميع ، الآن لا أريد سوى العيش معك يا أنا.