الملف الخاص بالعدد 244 من مجلة بصرياثا الثقافية الأدبية
شارك في الملف:
الحسين الحيان
محمد ايت واكروش
عبد المجيد ايت اباعمر
نقوس المهدي
الطايع ميلود
موسى مليح
د. رضوان كعية
لمصدق مصطفى
عبد العزيز لتشيني
عبد الغني نفوخ
عبد الكريم غازي
عبد الفتاح الخرشي
عزيز معيفي
محمد قنطاري
نور الدين بنشقرون
فيصل أبو الطفيل
عبد الكريم العامري
ولنا كلمة- عبد الكريم العامري- رئيس تحرير مجلة بصرياثا الثقافية الدبية
شرف لمجلتنا أن تقدم كاتبا كبيرا، مجتهدا، ومثابرا، وحريصا على منجزه الإبداعي الأدبي، هو المبدع سي حاميد اليوسفي، هذا الإنسان المناضل، والكاتب المتميز، قرأت له ما يصلني من نصوص، قرأت له الكأس المكسورة، ووجوه، وهزّك الماء، فضلا عن الحفريات التي كان يكتبها تحت إسم « وشوم في الذاكرة».. كل ما يكتبه اليوسفي نابع من يوميات عاشها ويعيشها، فهو يغوص في قاع مدنه، وينتقي منها ما يمكن أن يقدمه للقارئ المتلهف لمثل هكذا نصوص.
سي حاميد اليوسفي، كاتب من طراز خاص، اسلوبه ممتع، ومستساغ، وشخوصه قريبة من الناس.. وبالرغم من أني لم أزر المغرب، أبداً ، إلا اني أشعر بوجودي فيها، عرفت تلك البلدات بكل ما فيها من مبانٍ وشوارعَ وأسواقٍ من خلال كتابات عدد من الزملاء، نقوس المهدي، وليلى مهيدرة، وسي حاميد اليوسفي وآخرين من الذين أكنّ لهم كل تقدير واحترام. أقول، تعرفت على المغرب من خلال ما يكتبونه، وما قرأته لهم.. مشيت في شوارعها والتقيت بأناسها، وجلست في مقاهيها، ومن خلال متابعتي لصفحات الأصدقاء من الأدباء المغاربة، وهم كثيرون، أجزم أن تلك البلاد تخطت في ثقافتها كل ما يعرف عن ثقافة مدن عربية أخرى، ويكفي أن أقول أن عدد الكتاب والقراء الذين يزورون مجلتنا هم اضعاف ما يصلنا ويزوروننا من البلاد العربية الأخرى، لهذا فليس غريباً أن تنجب المغرب كتّاباً مبدعين، وما احتفاء مجلة بصرياثا الثقافية الأدبية بتخصيص هذا الملف، واحتفاء المنتدى المغربي للحكامة الاجتماعية القاص الكبير سي حاميد اليوسفي، الا تعبير ا عن القيمة الثقافية والأدبية التي يمتاز بها اليوسفي..
شكرا لكل الأدباء والكتاب الذين شاركوا في هذا الملف المهم.
—————–
السيرة الذاتية- سي حاميد اليوسفي :
سي حاميد اليوسفي كاتب مغربي من مواليد 1954 بقرية الزيتونة (جماعة رأس العين ـ إقليم اليوسفية). يقطن بمدينة مراكش.
والدي مولاي عمر اليوسفي فلاح هاجر إلى مدينة مراكش، رفقة إخوته وجدي (مولاي سعيد بن م عبد القادر اليوسفي) في بداية الأربعينات من القرن الماضي. وقد استقروا في البداية بدرب لالة عويش حومة ديور الصابون. تزامنت هذه الهجرة مع عام البون. وهو الوصف الذي أطلقه المغاربة مجازا على الفترة التي تمتد بين سنتي 1939 و1945. وهي فترة شهد خلالها المغرب أقسى المجاعات. ويُجمع المؤرخون على أن الاستعمار الفرنسي هو من تسبب في ذلك، بفعل نهبه لقوت المغاربة قصد دعم مجهوده العسكري خلال الحرب العالمية الثانية.
اشتغل والدي مع يهودي مغربي بسوق (القزادرية) علمه صناعة الفوانيس..
وبعد الاستقلال عاش ضحية لعدم الاستقرار بين المدينة والقرية والسجن بسبب النزاع حول ملكية الأرض التي تطوع للدفاع عنها والاعتناء بها، فأخذ منه ذلك الكثير من الوقت والجهد والمال..
أهم حدث وشم طفولتي بفقدان لا يُعوض. لم أتجاوز السنة السادسة حتى اختطف الموت أمي في ريعان شبابها، بسبب خطأ في الولادة على الطريقة التقليدية..
لا أتذكر ما هي الكذبة التي غلف بها الكبار غيابها عن البيت، لكنهم رموا في وجهي كلاما كبيرا: (عليك أن تصبح رجلا)؟! سأفهم فيما بعد بأن المقصود منه هو أن أعتمد على نفسي..
لم أعرف بأن لي أختا شقيقة، حتى تجاوزت الرابعة عشرة من عمري..
احتفظ لأمي حتى اليوم بصورة قديمة في الذاكرة، وغير واضحة مثل الحلم. الصورة الوحيدة التي جمعتنا معا، عندما اشترت لي لعبة من السوق، وكنت ألهو بها ساعة الغروب في شرفة الطابق الأول من البيت بمراكش، فسقطت من يدي إلى الأسفل عند الجيران. أطللت من فوق، لكن عتمة خفيفة، حجبت عني الرؤية، فبدا الأسفل مثل بئر عميقة بلا قرار. أغلب المنازل بالأحياء الشعبية في تلك الفترة كانت تُضاء بفتيل اللمبة والغاز. بعدها لا تظهر سوى صورة لمقبرة وضريح، ونساء في سن الشيخوخة ثم ظلام شديد يشبه شاشة سوداء.
ربما أصبحت تلك البئر هي مراكش. وربما حتى فعل الكتابة فيما بعد سيعتبره البعض من منظور علم النفس، مجرد محاولة بحث بطريقة أو بأخرى عن تلك اللعبة الضائعة.
انقطعت عن زيارة القرية ربما بسبب (طُرفة) اقتنع بها والدي، وظل يرددها على مسامعي في جلساته الخاصة، وأمام أفراد العائلة، حتى رسخت في وجداني. كان يسأل:
ـ إذا ماتت أمك فماذا يقرب لك خالك؟!
ثم يجيب:
ـ لا شيء؟!
ربما فعل ذلك انتقاما لما تعرض له من ابتزاز وكذب وخسارة في الشراكات التي أقامها مع أخوالي حول الزراعة وتربية الماشية. ولأنهم أيضا أبناء عمومته اضطر إلى عدم متابعتهم في المحاكم.
وربما كان يفعل ذلك لإبعادي عن مشاكل القرية والأرض حتى لا أكرر نفس الأخطاء التي ارتكبها.
ما تبقى من سيرتي في المرحلة الثانية من الطفولة، ثم فترة المراهقة والشباب، تحدثت عنه بتفصيل في كتاب “وشوم في الذاكرة”.
تأزم وضع الأسرة اقتصاديا بداية من النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، بعد تراجع مدخول الصناعة التقليدية، وتوالي سنوات الجفاف على البلدة.
حصلت على شهادة الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة محمد بن عبد الله ظهر المهراز بفاس عام 1982. عملت في قطاع التربية والتكوين كمدرس لمادة اللغة العربية بالتعليم الثانوي التأهيلي لثلاث وثلاثين سنة بأقاليم ورزازات والجديدة ومراكش.
تزوجت مثل خلق الله، وأنجبت ولدين، هما الآن في سن الشباب. البنت البكر درست علم الفلك، والابن درس علم الاقتصاد.
لم أتفرغ للكتابة إلا بعد أن تقاعدت من الوظيفة والنقابة.
نشرت بعض المقالات والقصص القصيرة في مواقع: الكتابة الثقافي/ انتلجنسيا/ أنطولوجيا السرد/ مكتبة أغردات العامة/ بصرياثا الأدبية/ صدى ذاكرة القصة المصرية وغيرها.. كما فضلت نشر أغلب أعمالي في صفحتي على (الفايس بوك)، إلا أنها تعرضت للاختراق، فاضطررت إلى فتح صفحة جديدة.
وفي الوقت الذي عقدت العزم على الاستجابة لرغبة العديد من أصدقائي، بجمع بعض قصصي القصيرة، ونشرها ضمن مجموعة، جاء وباء كورونا، وأوقف المشروع.
وبمساعدة الكاتب العراقي عبد الكريم العامري الذي تعرفت عليه رفقة الكاتب المغربي مهدي ناقوس في العالم الافتراضي، وبدعم الكثير من الأصدقاء والصديقات في عالم الواقع، تشاء الصدف أن أجمع في نهاية سنة 2022 وبداية 2023 أربعة كتب في ملفات إلكترونية:
ـ وشوم في الذاكرة (حفريات تشبه السيرة الذاتية)
ـ الكأس المكسورة (مجموعة قصصية)
ـ وجوه ( مجموعة قصصية)
ـ هزك الماء (مجموعة قصصية)
لكني فشلت في طبعها وتوزيعها ورقيا على حسابي الخاص، بسبب الكلفة المالية المرتفعة في غياب أي دعم من الجهات المختصة.
مراكش في 04 يونيو 2023
————————————
المنتدى المغربي للحكامة الاجتماعية
نظم حفل توقيع المجموعة القصصية الكأس المكسورة ضمن أنشطة الملتقى الجهوي للقصة القصيرة آيات ورير والذي دأب على تنظيمه المنتدى المغربي للحكامة الاجتماعية. يهدف الملتقى:
– للمساهمة في إشعاع بلدية آيت أورير ثقافيا على المستوى الاقليمي والجهوي والوطني .
– تأهيل شباب الجهة والحوز خاصة للإبداع في مجال القصة القصيرة والاحتكاك بأعلام كبار حاصلين على جوائز وطنية وعربية .
– نشر قراءة القصة القصيرة والقراءة بشكل عام بين الشباب.
ـ تعزيز لغة التواصل وتطويرها والمحافظة على القيم الجمالية.
– تنظيم أوراشا لكتابة القصة داخل دور الشباب والثقافة والمؤسسات التعليمية بالأقاليم التابعة لجهة مراكش آسفي (الحوز – شيشاوة – قلعة السراغنة – الرحامنة – اليوسفية – آسفي – الصويرة ومراكش) يشرف عليها مبدعات ومبدعون متميزون.
– تنظيم لقاءات وفق برنامج محدد حول آليات نقد وقراءة القصة القصيرة بشراكة مع مسلك الدراسات السردية بالجامعات المغربية والجمعيات والمؤسسات الوطنية والعربية والدولية المهتمة بالقصة القصيرة.
– تنظيم لقاء جهويا للقصة القصيرة يشارك فيه أبرز الأسماء في هذا المجال وأبرز النقاد المغاربة والعرب وشباب الجهة.
– إصدار كتاب للملتقى يتضمن النصوص النقدية والابداعية وقصص المشاركات والمشاركين في الورشات وكل المداخلات.
ـ تبادل الخبرات والتجارب بين الملتقيات الوطنية والعربية المهتمة بهذا الجنس الأدبي.
– تنظم الورشات وفق برنامج سنوي محدد ينتهي باحتفال سنوي.
عن مكتب الجمعية وإدارة الملتقى- الحسين الحيان
————
على ضفاف واد الزات.. المنتدى المغربي للحكامة الاجتماعية يحتفي بالمجموعة القصصية “الكأس المكسورة” للقاص السي حاميد اليوسفي
صباح يوم الاحد 21 ماي 2023، على ضفاف واد الزات الذي انتظر عشرات السنين، أعطيت خلالها العديد من الوعود ووضعت العديد من المخططات لكي يتم تجميع ماءه في سد يساهم في سقي عباد الله وبهيمته وأرضه. ومع اقتراب الحلم من التحقق، وبتخطيط من فعل فاعل، والذي لم يكن سوى الحاج موسى مليح ومن معه، وبتواطؤ مع الاخوة والاصدقاء والرفاق الذين قدموا من عدة مدن وعدة جهات، وفي ضيافة ديك جريء coq hardi لم يتوقف عن الصياح، وهو يُكذب المثل العربي “لو صاح الديك او ما صاح النهار حيطلع”. وبتحريض على شكل ابداع طبعا من المتهم الرئيسي الأخ والصديق حميد اليوسفي الذي يحاول البعض وصفه بالخجل، وهو في الحقيقة خجل ناري ذي لهب، كما يحاول البعض وصفه بالتواضع، وهو في الحقيقة تواضع منفجر. خجل ناري، وتواضع منفجر حين يتم عدم الانتباه إلى ما يقتضيه الدخول الى مدينة مراكش العريقة من استحضار لماضي المدينة وتاريخها، وهو كذلك في وجه كل محاولة للمس او خدش المشترك في الصداقة والرفقة والنضال.
وبتهمة لم تكن سوى الإعلان عن كأس مكسورة، جندت الجميع من مخططين ومشاركين حضوريا وعن بعد، وخبراء في الاستنطاق والتشريح والجراحة والتخدير، للبحث عن شظايا الكأس ليتبين للجميع أنه فيما يتعلق بالأخوة والصحبة والرفقة، الكسر لم يكن سوى بلاغا انذاريا. بفعل كل ما سبق تم لقاء سيبقى مشهودا فشكرا للجميع.
محمد ايت واكروش
———-
ايت اورير تحتفي بحاميد اليوسفي.. قاص مشحون بطاقة حكي مفعم بالدلالات
كتب: عبد المجيد ايت اباعمر
على ضفاف نهر “الزات” التئم جمع نخبة من رواد الشعر والقصة والنقد الأدبي على مائدة حفل باذخ، شهد توقيع المجموعة القصصية الموسومة: “الكاس المكسورة” للقاص سي حاميد اليوسفي، في رحاب فندق شهير بمدينة ايت اورير، صبيحة الأحد 21 ماي 2023 .
استهل هذا الحفل بالكلمة الترحيبية للمنتدى المغربي للحكامة الإجتماعية، باعتباره الجهة التي بادرت بتنظيم هذا الاحتفاء على شرف الكاتب والقاص سي حاميد اليوسفي، الذي أجمعت مجمل التدخلات والقراءات النقدية في منجزه القصصي على انتماءه للمدرسة الواقعية الجديدة، وتميز إبداعاته المشحونة بطاقة حكي مفعم بالدلالات، صيغت بأسلوب شائق وآسر، تنتصر للبسطاء والمحرومين والمنسيين… بوعي شقي وجرأة نقدية لواقع اجتماعي مأزوم.
ومن وحي معاشرته لكتابات القاص اليوسفي، قدم الأستاذ موسى مليح مداخلة بعنوان: “موسيقى الكأس المكسورة” مستحضرا المرجع السيميائي في استلهام ايقونات متنوعة متضمنة في النصوص السردية للكاتب، من خلال استعراضها وفق ترتيب موسيقي بصري دال.
ومن زاوية أخرى، تطرق الباحث فيصل ابو الطفيل في مداخلته ل: “شعرية المفارقة في الكأس المكسورة” كتقنية تتكرر بشكل كاسح وتخرج عن المألوف في قصص المجموعة. متوقفا عند انواع المفارقات، وبلاغة الانزياح، وملمح التناص، ومظاهر الدهشة والإثارة، وجمالية السرد بين الذات والموضوع، والدال والمدلول…
وارتكزت مداخلة الأستاذ رضوان كعية حول: ”جدلية الصمت والمعنى في الكأس المكسورة” معددا صور الصمت باعتباره قوة فاعلة في تسلسل الأحداث، أو صيغة من صيغ تدبير المعنى، مؤكدا على أن الصمت دعوة صريحة لحسن الإصغاء، وطرد للعبارات الفارغة من المعنى…
وقدم الشاعر والناقد عزيز المعيفي بدوره مداخلة صاغها على شكل مطارحات هادئة بعنوان: “تقاسيم على مقام الكأس المكسورة” واصفا المحتفى به ب: “قاهر فوضى الحياة، المجيد في ترتيب أولوياته، والمنتصر لقيم الجمال، المنحاز للقاع الشعبي، المنفتح على الكتابة في بعدها الإنساني، الموثق للذاكرة بسخاء فني، يعج بالحركة، ويلتحف لغة باذخة…” وبمبضع الخبير تعقب الناقد عزيز المعيفي مسار البنية السردية للنص التأسيسي”الكاس المكسورة” ضمن المجموعة القصصية، وفق مقاربة تداولية، سبرت أغوار شخصياته، وامكنته، وحبكته الفنية، ورؤاه، واصفا إياه بالنص الدائري الإشكالي الفاتن…
وقد أدار باقتدار مداخلات الجلسة النقدية، الاستاذ محمد ياسين.
هذا وتجدر الإشارة، ان هذا اللقاء يأتي في إطار تحضير المنتدى المغربي للحكامة الاجتماعية لانعقاد الملتقى الجهوي الثالث للقصة القصيرة ـ ايات ورير.
*القاص سي حاميد اليوسفي يؤكد:
اخترت طريق الكتابة لأن للحلم بقية…
القاص سي حاميد اليوسفي أستاذ اللغة العربية متقاعد، مناضل نقابي، اختار في الربع الأخير من عمره أن يكتب – كما قال خلال كلمة بليغة ألقاها في محفل تكريمه وتوقيع مجموعته القصصية: “الكأس المكسورة” بايت اورير- أن يكتب قصصا بتيمات الإخفاق والنجاح، الفرح والحزن…، بعدما قضى زمنا طويلا يستمع لآلام الناس وآمالهم وحماقاتهم..، معبرا عن ذاكرة رفضت أن تنسى أو تنام…
ومن تم اكد قائلا:” اخترت طريق الكتابة لأن للحلم بقية، و”الكأس المكسورة” جزء من هذا الحلم.. واضاف: “أنا لا اكتب لقارئ محدد، اكتب احيانا للبسطاء مثلي، عن واقع قد يكونوا هم أنفسهم ابطاله، اكتب لبائع السجائر بالتقسيط، والبائع المتجول، وعمال المقاهي، وللنساء اللواتي رمتهن ظروف صعبة في جحيم الحياة، وكل المقهورين. لا اعرف أن كانت نصوصي ستصل إليهم ام لا.. اكتب أيضا لأصدقائي، اكتب للمستقبل، ولإرضاء رغبة دفينة في النفس، اكتب لكي لا انسى، أو أنسى بالفتحة والضمة”.
واختتم القاص سي حاميد اليوسفي كلمته، مجددا الشكر لقراءه ومحبيه، متمنيا أن يكون موفقا للمساهمة في نشر عدوى الحكي…
————-
للحلم بقية سي حاميد اليوسفي
نص الكلمة التي ألقاها الكاتب حاميد اليوسفي بمناسبة حفل توقيع المجموعة القصصية الموسومة بالكأس المكسورة الذي نظمه منتدى الحكامة الإجتماعية بمدينة ايت اورير على ضفاف نهر الزات…
نص الكلمة:
للحلم بقية
أود في البداية أن أتقدم بجزيل الشكر لكل الضيوف الكرام، ولفرع جمعية المنتدى المغربي للحكامة الاجتماعية ولمكتبه ولمدينة أيت اورير، ولإدارة وعمال فندق كوك هاردي، مع تحية خاصة ل(للدينامو) الصديق موسى مليح الذي هندس هذا اللقاء، وحفزني على المشاركة فيه.
لست متعودا على المساهمة في مثل هذه اللقاءات، فأنا بطبعي خجول وصموت، وأفضل العمل في الظل. ما شجعني على قبول العرض المعنوي الذي اقترحه علي صديقي موسى هو هذه اللمّة.
اللقاء في حد ذاته يذكرني بالفيلم الإيطالي:
Nous nous sommes tant aimés. Film d’Ettore Scola
. 1974
وهو الفيلم الذي استمتع الكثير منا بمشاهدته خلال الفترة الجامعية في نهاية السبعينات من القرن الماضي.
البعض منا جمعته الدراسة في مراكش، و(ظهر المهراز) بفاس لعدة سنوات بحلوها ومرها. ثم فرقتنا الحياة، ورمت بنا في القرى والمدن البعيدة. ويحضر بيننا أصدقاء آخرين تعرفنا عليهم في هذا الطريق الطويل الذي يتجاوز عمره أربعين سنة. نلتقي اليوم، وكل منا يحمل على كاهله مئات القصص والحكايات، تتأرجح بين تيمات الإخفاق والنجاح، والحزن والفرح.
أنا جد سعيد أن ألتقي بعد كل هذه السنين بهؤلاء الأصدقاء. جد مسرور بأن أتقاسم معكم فرح هذه اللحظة. تقاسمنا بالأمس الكثير من الأحلام، وهي ملح ماضينا المشترك، رغم قسوته، وضغوطه القوية. سرنا في دروب مختلفة، وكان بعضنا شاهدا على انكسار كؤوس كثيرة.
مستني عدوى الحكي، وأنا طفل تجاوز منتصف الربع الأول من العمر، عندما زرت ساحة جامع الفنا لأول مرة. ظلت العدوى راسبة في الأعماق. لذت بالصمت. قضيت زمنا طويلا وأنا أستمع للناس. أستمع لآمالهم وآلامهم وحماقاتهم أيضا.
عندما صعدت عدوى الحكي إلى السطح في الربع الأخير من العمر، قلت الآن جاء دوري لأتكلم. ارتطم رأسي بالعديد من الأرصفة والجدران، لم أكتب لأنصح أو أقدم دروسا في الحياة لأحد. لكن ذاكرتي رفضت أن تنسى أو تنام ، مهما تكالب عليها من محن صغيرة أو كبيرة. اخترت طريق الكتابة لأني ما زلت أؤمن وسط كل هذه الشظايا بأن للحلم بقية. ومجموعة الكأس المكسورة هي جزء من هذا الحلم ، وجزء من هذه العدوى.
أغلب هذه النصوص نشرتها على شكل تدوينات في صفحتي على الفايس بوك.
لم أتوقف عن الحكي في لحظة تعقيد للأحداث، لأطلب من الناس الصلاة على النبي، ومد أيديهم لجيوبهم. لست تاجر كلمات، ولا أكتب لقارئ محدد. أكتب أحيانا للبسطاء مثلي عن واقع قد يكونوا هم أنفسهم أبطاله. أكتب لكل المقهورين، أكتب لبائع السجائر بالتقسيط، والبائع المتجول، وعمال المقاهي، وللنساء اللواتي رمتهن ظروف صعبة في جحيم الحياة.
لا أعرف إن كانت نصوصي ستصل إليهم أم لا. كم فرحت عندما اكتشفت أن عمال بعض المقاهي أخذوا نص (عبدو النادل)، ونسبوه لأنفسهم على صفحات (الفايس بوك). لم أحتج لسبب بسيط، فهم أبطاله، أصحاب المعاناة.
أكتب أيضا لأصدقائي.
أكتب للمستقبل، ولإرضاء رغبة دفينة في النفس.
وأجدد بهذه المناسبة الشكر للإخوة الذين سيشرفون على تقديم بعض القراءات القيمة لمجموعة الكأس المكسورة، وعلى مساهمتهم أيضا في نشر عدوى الحكي داخل هذه اللمة المباركة. والشكر موصول كذلك لكل أصدقائي هنا في القاعة، الذين جاؤوا من مراكش، أو من مدن بعيدة، وأصدقائي وصديقاتي هناك في العالم الافتراضي. شكرا للجميع على التشجيع والدعم حتى أتابع الكتابة في هذا الربع الأخير من العمر.
وأدود في الختام أن أتوجه بتحية حارة للكاتب المغربي الصديق مهدي ناقوس وضيفه الكريم. الصديق مهدي سبق له أن نشر جل نصوص الكأس المكسورة وغيرها في موقع أنطولوجيا السرد. وهو قد تجشم القدوم من مدينة اليوسفية، وأبى إلا أن يكون جزءا من هذه اللمة المباركة، رغم ظروفه الصحية القاهرة.
تحية محبة وتقدير لصديق آخر، يعود إليه الفضل في إخراج كتاب وشوم في الذاكرة في طبعته الرقمية. كما أنه هو من وضع أغلفة مجموعات الكأس المكسورة ووجوه وهزك الماء. تحية محبة وتقدير للصديق عبد الكريم العامري المشرف على موقع بصرياثا الأدبية، وابن قرية جيكور مسقط رأس الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب.
شكرا للجميع على المشاركة في نشر عدوى الحكي، ورفض التجارة بالكلمة.
فندق كوك هاردي بآي تورير 21 ماي 2023
————-
تقديم
بعد أن نشر مؤلفه الأول “وشم في الذاكرة “، وبعده المجموعة القصصية الأولي تحت عنوان “الكأس المكسورة” ثم المجموعة الثانية “وجوه”، وبمجرد عزمه على نشر مجموعته القصصية الثالثة التي تحمل عنوان “هزك الما”، طلب مني أخي وصديقي سي حاميد اليوسفي كتابة تقديم لهذه المجموعة القصصية. ولئن كان من الصعب رفض هذا التكليف /التشريف بحكم التقدير الذي أكنه له، والعلاقة المتينة التي ربطتنا ولازالت، فإن القبول به كأصعب مهمة تواجهني في مساري على جميع المستويات، يشكل مغامرة غير محسوبة العواقب بسبب عدم تمكني من معرفة دقيقة بالقصة كجنس أدبي ينضوي تحته مؤلف “هزك الما”، وله بطبيعة الحال خريطته ومفاتيحه، بالإضافة لعدم تمكني من أدوات النقد الادبي، وهو وضع جعلني أخوف ما أخاف عليه أن أجد نفسي أضرب في أرجاء عمل على غير هدي، ولهذا أيضا لم يخطر ببالي أن أقوم يوما بهكذا مبادرة.
ولأن كتابات سي حاميد اليوسفي تحمل في طياتها رؤيته للإنسان وللعالم بحكم الوظيفة التي يراها للإبداع بشكل يعكس تجذر نضجه الإنساني في الدفاع عن البسطاء، ويعكس أيضا وجود مشروع يعلن عن نفسه، ويتجدد باستمرار بحكم متابعاته اليومية للقضايا السياسية والاجتماعية والمجتمعية، او باستحضار مراحل متعددة من حياته بل يمكن اعتبار مؤلفاته ضمن ما يسمى الادب الملتزم مجسدا ما قاله جان جاك روسو “مادام الكاتب لا يتوفر على اية وسيلة للهرب، فإننا نريد منه ان يعانق عصره فهو حظه الوحيد، لقد صنع كل واحد منهما الآخر”
وفي الوقع وجدت نفسي عند بداية هذه المغامرة غارقا في ظلام دامس ما لبت ان انجلى بعض منه لمعرفتي شيئا ما باللغة التي يكتب بها الكاتب. وكما قال أحد المفكرين بأن اللغة هي التي تفكر وتكتب، وأن يد الكاتب هي يد ثانية. وبعد ذلك انجلى بعض آخر من ذلك الظلام لكوني أعرف إلى حد ما ظروف تأليفه، وثم انجلى بعض ثالث منه لاطلاعي على الكثير من حياة الكاتب.
ولكون الجنس الأدبي المعني بالتقديم هو القصة التي لا تعني فقط أسلوبا بل تشخيصا وسردا وحوارا ووصفا وبناء، فإن تجميع 31 قصة تحت عنوان “هزك الما” يثير سؤال دلالة هذا العنوان المأخوذ من الدارجة، والذي يدل على نوع من السخرية من شخص خسر معركة ما، وفي نظري فالعنوان هو تخوف الكاتب من الوصول إلى هذا الوضع لحرصه الشديد على الثبات على مواقفه، وإصراره على مساره الذي اختاره عن قناعة راسخة، وهو تخوف من أن “يهزه الماء “عندما يتمرد السارد سواء كان بضمير المتكلم، او المخاطب، أو الغائب على المسار الذي اختاره له .
وجملة “هزك الما”، اكتسبت عالميتها في القصة التي تحمل نفس عنوان المجموعة القصصية، عندما طالبت الامريكية ايميلي من فاطمة العاملة لديها في “الرياض” شرح معناها لعدد من الأمريكيين، وقامت بهذه المهمة بأسلوب وبمضمون أذهلا المتابعين، وفاطمة في هذا النص القصصي هزها الماء على الأقل أربع مرات، لما لم تستطع إكمال دراستها والحصول على الباكالوريا، وبعد ذلك لما تزوجت رجلا خدعها بمعطيات مغلوطة حول وضعه الاقتصادي، واضطرت للخروج للعمل بعد ان رفضت بقوة مقترحا أولا للزواج، ثم بعد فقدانها لعملها في رياض ايميلي بسبب فيورس كورونا، واضطرارها للقيام بأشغال مختلفة بما في ذلك العمل في الفيلات، وأخيرا بعد أن وجدت نفسها معتقلة في سيارة الشرطة إثر مشاركتها في وقفة احتجاجية ضد الأسعار، وضد التلقيح مع أنها ملقحة مرتين، وتنتظر بشغف الجرعة الثالثة .
وتوزعت عناوين القصص على أماكن وأحداث وحوادث ومواقف وظواهر وأشخاص من الجنسين، ومهام وصفات وأدوار وحيوانات وأشياء واطعمة. وتنوعت أماكنها بين أماكن واقعية: أحياء شعبية وشوارع ومراقص ومقاهي شعبية ومطاعم ومستشفيات ومصحات، وأخرى عن بعد داخل الوطن أو خارجه.
وتناولت القصص أوضاعا اجتماعية: الفقر، البطالة، فقدان الشغل ،أصحاب الشهادات المعطلين، تداعيات وباء كورونا، الوضع الصحي بالبادية، ضعف المرضى أمام جشع المصحات. وتطرقت لظواهر اجتماعية: المخدرات، الهجرة السرية، القوادة، السكن مع الأسرة، العمل في الحملات الانتخابية، تحمل المرأة وحدها مصاريف البيت ،معاناتها مع الزوج السكير، الزواج القسري، اختيار الأم لزوجة ابنها، التشبه بالأفغان، الجنس الجماعي، التحول، البغاء، حضور العادات، الشعوذة، السحر، زيارة الأضرحة، الإدمان على الهاتف.
وبخصوص الحرف والمهام الواردة في القصص، فكانت واقعية من وسط شعبي: عامل، حراك، مغني الحفلات، اسكافي، خضار، مصلح الدراجات، بقال، سمسار، طيابة الحمام، بناء، مهاجر لم يحقق ما كان يحلم به من ثروة، كاتب عمومي، وأستاذ يكتشف بأنه مصاب بمرض السل قبل التحاقه بالوظيفة، بينما مهمة رئيس الحكومة وعمدة مثلا كانتا في الحلم.
ولم تخل القصص من نقل مواقف مثيرة كاشتغال شخص في مطعم لأداء قيمة ما تناوله، ركوع وزير لتقبيل رأس إسكافي، ظهور هذا الأخير على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي. السرقة بالعنف، أب يحاول بطريقة ما دعوة ابنه كيف يعاشر زوجته، ابتزاز مسن من طرف شابة غير بعيد عن زوجته ورضوخه مخافة الفضيحة، عودة الزوج سكرانا ومناديا بصوت مرتفع زوجته للقاء حميمي، استحالة الفصل بين مدير بنك وموظفة بعد لقاء حميمي في المكتب بعد ان فعلها اللولب، وربطه بمتابعة جمهور لنفس الوضع بين كلب وكلبة في الشارع العام، حوار بين قطة وقط حول عزم صاحبها بإدخالها الى البرلمان .
ولئن تضمنت القصص العديد من المقاطع التي تنقل بتفاصيل دقيقة جسد المرأة ومشيتها وطرقها في الاثارة، فان ورود جملة المرأة والحياة وجهان لعملة واحدة قد حسم موقف الكاتب من نصف المجتمع.
من خلال هذه المجموعة القصصية المكتوبة ما بين سنتي 2020 و2022 والتي استعمل فيها الكاتب العديد من الكلمات والجمل والامثلة بالدارجة، ينقلنا الكاتب إلى قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية ممتدة زمنيا ومتنوعة جغرافيا لكنها من صميم الواقع المعيش.
04 أبريل 2023
محمد آيت واكروش
————-
في تقدير الأستاذ المبدع السي حاميد اليوسفي
نقوس المهدي
سعيد جدا بأن يخصص هذا العدد من مجلة (بصرياثا الأدبية) الغراء للاحتفاء بالمبدع السي حاميد اليوسفي.. وبمنجزه الإبداعي، والإشادة بسيرته الناصعة النقاء، وسعيد أيضا بأن أدبج هذه الشهادة المتواضعة في حقه بمناسبة هذا الاحتفاء البهيج.. لعدة اعتبارات.
الأول تولد عن قناعتي بسمو إنسانيته وطيبته الطافحة بالصدق والمحبة التي غمر بها كل معارفه ورفاقه الذين برهنوا على محبتهم واحترامهم له، وراهنوا على الحضور بكثافة حينما علموا بحفل تكريمه بحاضرة آيت أورير بين أحضان الأطلس الكبير، فحجوا من كل فج عميق.. خلان من الجيل الجميل أبوا الا ان بشاركوه فرحته، والقبض على الزمن الضائع.. وكنت أحد الشهود على روعة اللقاء، وحميمية اللحظة ودفئها.
فيما نبع الإحساس الثاني من عاطفة المودة التي غمرني بها برغم حداثة معرفتي به، والتي تعود افتراضيا إلى حوالي أربعة أعوام تقريبا، وهي فترة قصيرة نسبيا ولا تكاد تعطي انطباعا حقيقيا عن معدن الصداقة والصديق، لكن اكدتها اتصالاتنا الهاتفية المتوالية، وعمقتها اكثر مطالعاتي لكتاباته السردية الشائقة التي تستقي نسغها من معين الواقعية الاشتراكية.. لكونه تيارا أيديولوجيا لصيقا بقضايا البائسين وهمومهم ومشاغلهم ومكابداتهم، وتأخذ صلصالها من حياة وسير الناس الطيبين الذين عاشرهم او عرفهم أو شاهدهم، كائنات اجتماعية مغرقة في البؤس، والشقاء، والخصاصة، والبساطة، والعنف أيضا، وفضاءات الحواري المتربة، والحومات الضيقة المعتمة، والساحات المليئة بالفرجة والصخب، وشعرية الأمكنة التي جاس خلالها، أو عاش فيها، وعن العوائد والظواهر الاجتماعية والطقوس الروحانية، والتجارب الحياتية التي عركته، ودفعته الى استنهاض روح المبدع فيه، وبعث أطيافها من تحت رماد الذكريات، ورصد مشاهد قاتمة لحياة البائسين والمعذبين في الأرض.
يعترف السي حميد اليوسفي (أنا لا أكتب لقارئ محدد،.أكتب أححيانا للبسطاء مثلي، عن واقع قد يكونوا هم أنفسهم أبطاله. أكتب لبائع السجائر بالتمسٌط، والبائع المتجول، وعمال المقاهي، وللنساء
اللواتي رمتهن ظروف صعبة في جحيم الحياة، وكل المقهورين. لا أعرف إن كانت نصوصي ستصل إليهم أم لا. أكتب أٌيضا لأصدقائي. أكتب للمستقبل، ولإرضاء رغبة دفينة في النفس. أكتب كي لا أَنسى، أو أُنسى، بالفتحة والضمة.)*
شخوص السي حاميد اليوسفي.تتكون من (العديد من الاشباح القادمين من ازمنة مختلفة)**، تنتعش في معظمها من الهامش والأرباض القصية للمغرب العميق، وبما تجود به من فتات.. حرص على نقلها بأسلوبه الشائق، ولغته المتينة والانيقة.. وقدرته على صهر العلاقات بين اللفظ والمعنى في المتن السردي بكل مهارة ودربة وصدق لا تخطئه الذائقة الأدبية..
السي حاميد اليوسفي مسته لوثة الكتابة بعد تقاعده من الوظيفة والعمل النقابي، كي لا يشغله عشقها عن واجبه المهني، ومهامه النضالية، مشيا على سيرة الخالدين الذين اجترحوا فعل الكتابة بعد سن الأربعين والستين، (النابغة الجعدي، خورخي لويس بورخيس، هاروكي موراكامي، خوسيه سارماغو، ادموند عمران المليح ومحمد شكري)، ذلك أنه لا يشترط أن تكون شابا لتكتب، فالكتابة بعد هذه المراحل العمرية تفرز أنضج الإبداعات الأدبية والفكرية
لمن بعرف السي حاميد اليوسفي.. قبل أن يكون ساردا.. يحبه ويقدره لأصالة خلقه.. وعظمة سلوكه تجاه كل من يجالسه عن معرفة.. ومن قرأوا له من دون سابق معرفة، واختلسوا فقرات كاملات من سروده ونسبوها الى نفوسهم وتناقلوها في تدويناتهم، لإحساسهم العميق بأنها كتبت لهم وعنهم، لأنه في حقيقة الأمر الواقع أحب الناس البسطاء ومحضهم المحبة، وأسبغ عليهم حيوات إضافية في كتاباته، إنسان من معدن أصيل طيب المعشر، خفيض الصوت، تفيض نبرته حنانا وطيبة، دمث الأخلاق، جم التواضع، راجح العقل، هلدئ الطباع من غير صخب، عاشق للحرف والكلمة ومحب للقراءة.. وللإنسان وللمبادئ النضالية التي نذر لها حياته، وتعكسها تلك الإلماعات التي تنبجس من كتاباته، ووجدانه، نفحات من تلك الطفولة البعيدة العابقة بسحر الماضي البسيط، والاخلاص للمبادئ النبيلة التي طبعت مسار حياته التلاميذية بمؤسسات المدينة الحمراء وبعدها في مدينة فاس بين عقدي السبعينات والثمانينات، ومحطات مهنية أخرى حين كان النضال من أجل غد أفضل للجامعة والمدرسة العمومية هو الهاجس المسيطر.. نضال خاضه الطلبة بإيمان مشحون بالصدق ضد الطغيان المخزني، ومحاولاته اليائسة لشق ذات البين بين عموم الطلبة وزرع الشقاق بينهم واستنباث فصائل وكائنات هجينة لضرب التنظيم العتيد لاتحاد الوطني لطلبة المغرب، والتنظيمات النقابية المواطنة..
وسي حاميد على ما نستشف من سيرته علاوة عن كل هذا العنفوان والصفاء لم يكن من هواة الظهور والصخب والأضواء اللافتة للأنظار ، أحب الناس، وعشق كائناته القصصية، بالقدر الذي أدمن فيه القراءة، وآمن بفكرة الكتاب قبل الخبز…
هنيئا للمبدع الألمعي السي حاميد اليوفي بهذا التشريف المستحق، والشكر الكثير لمجلة بصرياثا الأدبية الرائدة بادارة ربانها السي عبدالكريم العامري على حسن الالتفاتة والعناية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الكأس المكسورة: مجموعة قصصية – تقديم – ص5
** وشوم في الذاكرة – تقديم
—————–
اليوسفي كما عرفته
الطايع ميلود*
سأقتصر في كلمتي المقتضبة، في حق سي حاميد اليوسفي، على جملة من المحطات التي تمتد على مدى خمسين عامًا ونيف، والتي كان لها الأثر الكبير على شخصه، فأعطتنا تلك الشخصية الصموت، الخجولة بتعبيره. فهو الذي وصف نفسه بهذه الأوصاف، أثناء تقديمه لمجموعته القصصية “الكأس المسورة”.
سأبدأ من ثانوية “محمد الخامس” بمراكش، التي درس فيها الثانوي التأهيلي. ففي الفترة التي تواجد فيها اليوسفي بهذه المؤسسة كانت فرائص السلطة ترتعد حتى من ذكر اسم هذه الثانوية، خاصة وأن الفترة هي فترة سبعينات القرن الماضي، وهي فترة غليان، وفترة قمع ومتابعات، في حق كل من يحمل فكرًا تقدميا (وبالمناسبة ما طبع الفترة هو هذا الصراع بين الفكر التقدمي وبين الفكر الرجعي). من هنا بدأت المسيرة عند سي حاميد، ليلتحق بمدينة فاس، وتحديدا بقلعة النضال “ظهر المهراز”. انخرط كمناضل في الإتحاد الوطني لطلبة المغرب، المنظمة الطلابية العتيدة، ذات التوجه التقدمي اليساري. بعدها يُعيَن في ثانوية بومالن دادس في إطار الخدمة المدنية. هذه القرية التي حصل لي الشرف بالتعرف عليه، بل ومشاركته إياي “الملح والجنون” على حد تعبيره في إحدى التدوينات، وكان يقصدني بالاسم. واصل مسيرته النضالية إذ انخرط في العمل النقابي كمناضل بموازاة مع عمله كأستاذ. وهنا سأفتح قوسين لأتحدث عن مزيتين يتميز بهما اليوسفي، ولا يعرفهما عنه إلا القليل :
1 ـ الميزة الأولى وهي سعة الاطلاع. لقد كان يخصص مزانية من راتبه الشهري، لصاحب مكتبة ـ وقد تحدث عنه في إحدى قصصه في كتابه ” وشوم في الذاكرة ” ـ فأَحدثُ الروايات التي كانت تظهر في المكتبات تجدها لديه، وأحدث النظريات في النقد أو ما اتصل بالأدب تكون عنده أولاً بأول.
2 ـ الميزة الثانية ـ أظن ان لا أحد سمع بها قبل اليوم ـ وهي شغفه بأعمال الرسامين العالميين، وقد تصادف في تلك الفترة أن كانت تصدر مجلة فرنسية تحمل عنوان “الرسامون الكبار “، وتوزع في بعض الاكشاك المغربية. كانت تخصص عددا شهريا لكل شخصية. ومن حسن حظنا “لأنني ابتليت أنا أيضا بذلك الهوس”، ان هذه المجلة كانت تقدم كهدية منها أربع لوحات من أعمال الرسام. هذه اللوحات كان اليوسفي يصنع لها إطارات من الخشب والزجاج، ويزين بها جدران المنزل الذي كان يسكنه. وبالمناسبة فحياة اليوسفي ليس فيها مكان للفوضى أو العبث كل شيء عنده منظم، حتى وقت فراغه من تحضير الدروس أو القراءة يستغله في شيء يعجبه جماليا.
ارتباط سي حاميد بنضال هذا الشعب، وسعة اطلاعه الفكري هي التي دفعته بعد أن أنهى مساره المهني إلى الاتجاه إلى الكتابة لنفسه أولاً ” حتى لا يَنسى أو يُنسى “، والكتابة للفلاحين وللعمال، للطبقة المسحوقة التي ظل حاملاً لهمومها.
تنتهى فترة بومالن، التي دامت قرابة ثمانِ سنوات، بمحاسنها ومساوئها وتشاء الأقدار أن نفترق، وينتقل الأستاذ إلى “زاوية سيدي اسماعيل “، وبقي على نفس النهج، بل زاد انخراطه في العمل النقابي حد تحمله للمسؤولية في مكاتب النقابة.
بعدها انتقل إلى مراكش، وبقي على هذه الحال، إلى حين إحالته على التقاعد، لكنه قبل ذلك كان يخطط لما يمكن ان يقوم به بعد التقاعد، بدل الاستكانة والخمول الذَين عادة ما يطبعان حياة عدد كبير من المتقاعدين. ففكر في الكتابة، واختار فن القصة القصيرة أداة للتعبير عن هموم كل شخوصه، وما شملته من انتقادات لأوضاع لا تعجبه. لقد تابعت عن كثب الكتابات منذ أول قصة، وكنت فعلا معجبا بما يكتب، اعتبارا لكون اللغة مطواعة لسي حاميد اليوسفي، وهذا راجع لسعة اطلاعه كما ذكرت سابقا، وكذلك اشتمالها على مفردات من الدارجة كمعين لإيصال الأفكار للقارئ البسيط، وكذا وضع معجم شارح لتلك الكلمات لغير المغاربة.
ما قد ذكرته سابقا، ليس سِوى خدش في سطح ـ كما يُقال في اللغة الانجليزية ـ تاريخ عريق محفور بعمق، يحكي قصة مناضل لا يفتر عطاؤه.
الهامش:
*الطايع ميلود عمل كأستاذ درس مادة الفلسفة، وختم حياته المهنية بالاشتغال كمدير ثانوية تأهيلية.
مراكش 07 يونيو 2023
—————-
أيقونة الموسيقى في الكأس المكسورة
وأنا أقلب صفحات المجموعة القصصية “الكأس المكسورة” لسي حاميد اليوسفي، انتابتني مجموعة من التساؤلات. صهرتها في: كيف أقرأ هذا الإنتاج الأدبي؟ وما السبيل لمطاردة المعنى داخل هذه النصوص؟
على وجه الغلاف، كعتبة للقراءة، رسمت بخط واضح عبارة “مجموعة قصصية” دفعتني هذه العلامة إلى استحضار ما تعلمناه من الدرس السيميائي، وخصوصاً السيميائيات السردية. علمتنا السيميائيات السردية أن كل قصة قصيرة تتكون من علامات تتوزع بين إشارات ورموز وأيقونات. وأن هذه العلامات تختلف من حيث قوتها الدلالية، وفاعليتها داخل نسق السرد، وحسب كريماس فإن العلامات تمنح الكلام صفته السردية.
بناء على تتبع هذه العلامات داخل المجموعة القصصية “الكأس المكسورة”، تبين أن علامات التسريد عند السي حاميد تقوم على مقولات بالغة العمومية، حولت بذلك القصة القصيرة لديه إلى وجه مفصل لمقولات مكثفة داخل نسق من العلاقات وظفت بشكل أمثل النموذج التكويني أو المربع السيميائي معيار تحقق الصفة السردية. وقد تجلى ذلك في الحضور القوي لكل العلاقات المانحة للسرد ديناميته/حركته. تتمثل تلك العلاقات في:
العلاقات الضدية: خلقت مجموعة من المفارقات داخل النصوص، وولدت للقارئ الدهشة والاستغراب وهي غاية مرجوة من كل كتابة أدبية.
العلاقات التناقضية: كانت عاملا في بناء مفهوم الصراع، الذي تحول في بعض المواقف لصراع درامي، وكانت غايته توجيه الحكاية إلى تعرية الواقع والتنديد بالمسؤولين عما آلت إليه الأوضاع.
العلاقات الاقتضائية: إن القوى الفاعلة في كل النصوص تنظمها علاقة الاقتضاء فالشخصيات اقتضت بطبيعة وضعها الطبقي، وحالتها النفسية توظيف لغة تناسبها.. لغة بلغت إلى حد اللغة السوقية حملت مجموعة من التداعيات المعبرة عن المعاناة من واقع مزر، وعن أحلام طوباوية كوسيلة لتصريف طاقة المكبوت ووسيلة لتكسر جدار الواقع المزري
إن توظيف سي حاميد اليوسفي المتميز لعلاقات التناقض والتضاد والاقتضاء جعلت القراء يجمعون على أن القصة القصيرة عند اليوسفي معادلة لسانية لغوية تتوكأ على واقعية حقيقية. إن هذه المعادلة مغنم لمن يطارد المعنى سيميائيا، وهي حجة دامغة للوقوف على الأيقونة كعلامة سيميائية، وكعلامة لسانية لها مرجع حقيقي في الواقع. إن الحضور المكثف للأيقونات في الحكي يمنح القصة والرَواية طابعهما الواقعي.
الأيقونات في “الكأس المكسورة” عديدة ومتنوعة. منها ما يرتبط بالمكان: ( مدينة مراكش/ الجديدة/ الحي الشتوي/ عرصة مولاي عبد السلام/ ساحة جامع الفناء المشهورة….)
وما هو شخصي (شخصيات يعرفها المراكشيون والمغاربة عاشت بيننا). غير أن أيقونة أغاني مشهورة، اجتاحت كل النصوص، وعملت على إغناء المعنى في كل قصة من المجموعة، فقمت بربط هذه الأيقونة اللسانية/ الخطية بمرجعها الخارجي فتولد عن ذلك هذا الشريط البصري الناظم للأغاني والأنغام التي وظفها اليوسفي توظيفا ذكيا ومعبرا. أكدت الأغنية كأيقونة الدور الذي منح لها، عندما تعجز العبارة عن التعبير عن حالة نفسية، أو وضعية اجتماعية، إن وظيفتها هي خلق امتلاء للدلالة، وبناء إيحاءات تحول القارئ من متلق سلبي محايد إلى مشارك إيجابي لدرجة بلوغ حد التماهي عند ترديد أغاني عبد الحليم حافظ أو نعيمة سميح أو مجموعة ناس الغيوان أو جيل جيلالة أو أحمد قعبور وفيروز ومارسيل خليفة أو سعيد المغربي أو العيطة الشعبية المغربية وأهازيج الأعراس والأمداح.
ملاحظات :
تم عرض شريط مدته خمسة عشر دقيقة تتضمن مجموعة من اللوحات كل لوحة تحمل عنوان قصة من المجموعة وشذرة مكثفة لغويا تعبر عن دلالة القصة والموسيقى/ا لأيقونة الموظفة
*موسيقى لوحات المقدمة الخاتمة وظفت فيهما أغنية أحمد قعبور (أناديكم) كان في المقدمة اللحن فقط وفي الخاتمة الكلمات: أناديكم أشد على أياديكم أبوس الأرض تحت أقدامكم وأقول أفديكم أنا ما هنت في وطني ولا حقرت أكتافي… على أن يردد الحضور/الجمهور الكلمات مع الشريط لينتهي العرض باحتفالية يشارك فيها الجميع.
الهامش:
*موسى مليح : كاتب مسرحي قاص رئيس المنتدى المغربي للحكامة الاجتماعية.
———-
نقوس المهدي – سيميائية العنونة في مجموعة (هزك الماء) للقاص المغربي سي حاميد اليوسفي
العنوان سمة الكتاب
من باب الفضول المعرفي الإشارة إلى أن النقد السيميائي الحديث يشترط فيما يعترف عليه بالخطاب المقدماتي، ويقوم على البحث في “عتبات النص”، بداية من العنوان المركزي مرورا بالعناوين الداخلية والعناوين الفرعية الموازية، وفقا لانساق ظاهراتية وجمالية بات النقد الحديث يوليها أهمية بالغة، انطلاقا من الدرجة الصفر في الكتابة، ومرورا بالمثل العربي المضلل (الكتاب يعرف من عنوانه)، التي لا يكاد يعطينا تفسيرا مقنعا، فجيرار جنيت يعرف العنوان بأنه (مجموعة من العلامات اللسانية التي يمكن أن توضع على رأس النص لتحدده ، وتدل على محتواه لإغراء الجمهور المقصود بقراءته..)، فيما يعرفه ليو هوك مؤسس علم العنونة الحديث على أنه (مجموعة العلامات اللسانية التي يمكن أن تدرجج على رأس نص لتحدده، وتدل على محتواه العام، وتغري الجمهور)
إنه دال لساني يمارس سلطة إغرائية، لكن هذا الاغراء يبقى قاصرا تبعا لنوعية الكتاب ومحتواه وشكله، يقول مصطفى لطفي المنفلوطي: (لقد جهل الذين قالوا إن الكتاب يُعرف بعنوانه، فإني لم أرَ بين كتب التاريخ أكذب من كتاب (بدائع الزهور) ولا أعذب من عنوانه، ولا بين كتب الأدب أسخف من كتاب (جواهر الأدب) ولا أرق من اسمه!)..
والعنوان يشكل العتبة الأهم للولوج الى فضاء النص وإعطائنا فكرة شاملة عن محتواه، وهو بمتابة الباب الرئيسي بالنسبة للبيت تليه عدة أبواب داخلية، ويجتهد الكاتب في منحها أبعادا تشويقية وتسويقية.. واضفاء مسحة جمالية عليها تشد القارئ وتغريه بالقراءة
كما تتيح لنا فرصة الحفر في فصوص النصوص والبحث في عدة شيفرات ورموز محددة نستطيع بواسطتها فهم الدلالات والإيماءات المتعلقة بالكتاب، وفضاءاته واشتغالاته وحمولاته الابيستيمية، وذلك من خلال معرفة: اسم المؤلف، العنوان، الخطوط، اللوحة، دار النشر، تاريخ النشر، الإهداء، المقدمة، الكاليغرام، الحجم، وأخرى تتعلق بجوانب الانزياح والتورية، والخيال، والصور الشعرية، والاستعارات والأحابيل اللغوية والبلاغية، وبالرغم من بداهة هذه الإشارات والإيحاءات الدلالية فإنها تشكل بالضرورة إحدى السمات الإجرائية والتفاصيل البصرية والفنية التي تشكل في مجملها مرجعية مهمة ومفتاحا لفهم آليات معينة والتي وظفها المؤلف لإيصال خطابه للقارئ
وغير خاف على احد بان الأدباء من الأجيال المتقدمة على وجه الخصوص كانوا أشد عناية وعلى أتم وعي بمسألة العنوان والشكل والخط، فحينما نتطرق للعنوان أو مسألة الشكل الظاهري للكتاب لا ننسى الإشارة إلى أن الشعراء منذ القديم اهتموا بإعطاء عناوين جذابة لأشعارهم ومأثوراتهم وأراجيزهم مثل اسم المعلقات والمذهبات والمسمطات والمفضليات والأصمعيات، فيما يفي المطلع في قصائد اخرى بالقصد والغرض، بعكس بعض الذين انتهجوا طريقة عنونة أشعارهم ومصنفاتهم بطريقة جذابة وتفننوا في اختيار عناوين مموسقة ومسجوعة وغريبة في بعض الأحيان. وتحبيرها بخط بديع لرغبتهم في منحها بعدا جماليا لتمييز مصنفاتهم عن باقي الكتب والإصدارات، لما لهذا من أهمية وسلطة إغرائية في اجتذاب القاري وتحفيزه بصورة أو أخرى لقراءة الكتاب واقتنائه
دلالات العنوان الخارجي
العنوان شريك متواطئ بين الكاتب والنص وقارئه. والمدخل الأساسي الذي يعطينا انطباعا أوليا حول مضمون الكتاب. ويبدو جليا أن وظيفته في العمل الأدبي هي بمتابة نجمة القطب التي نستدل على هديها لاستكشافه، ذلك أن اختيار العنوان ليس عملاً شكلياً معزولا عن فضاء النصوص، بل يشكل علامة ايقونية فارقة منتزعة من صميم العمل الابداعي، إنه وان كان يقدم نفسه بصفته عتبة رئيسية كما يعرف ذلك السيميائيون، فانه بالمقابل لا يمكننا باية حال الولوج إلى عالم النصوص دون اجتياز هذه العتبة
هكذا نجد أنفسنا ازاء عنوان المجموعة القصصية (هزك الماء)، وهو عنوان إشكالي ومخاتل يلخص حقيقة مآل كافة شخوصها، تلعب فيه لفظة “الماء” صلة وصل بين وحدات المقول الدلالية، وتساهم استعاريا في صياغة مضمون القصة، فالماء هو أصل الوجود، وواحد من أهم رموز وعناصر الطبيعة، وبه تكون الحياة، (وجعلنا من الماء كلَّ شيء حيّ) [الأنبياء 30]: لهذا لا يقبل الاجسام الغريبة، وسرعان ما يلفظها، بعد ان تطفو فوق صفحته.
وتوظيف عبارة “هزك الماء” بشكلها ونطقها الدارج وبصيغة لعبية ماكرة ساخرة.. نجد لها في بعض القصص أكثر من امتداد ومغزى، وقد وظف الشعراء والكتاب لفظ الماء لتوصيف حالات نفسية شعورية للكناية عن حفظ او اراقة ماء الوجه، وماء الحياة في عود النباتات، وماء الملام كما عبر عنه الشاعر ابو تمام (لا تسقني ماء الملام فإنني … صب قد استعذبت ماء بكائي)، وماء الصبابة كقول الشاعر بشار ابن برد (ماءُ الصَبابَةِ نارُ الشَوقِ تَحدِرُهُ … فَهَل سَمِعتُم بِماءٍ فاضَ مِن نارِ)، أو كقول المجنون: (نظرت كأني من وراءِ زجاجة … إلى الدار من ماءِ الصبابة أنظر)، وما الغمامة كقول ابي الطيب المتنبي: (أريقُكِ أم ماء الغمامة أم خمرُ … بِفِيَّ بَرودٌ وهو في كبدي جَمْرُ)
وعبارة “هزك الما” تعبير مغربي دارج يستخدم للشماتة بالشخص، والاستهانة به، ويعبر عنه بالصيغة التالية: “ضربك الضو وهزك الما”.. وتقال للمرء الخائب الخارج من التجربة بخفي حنين، وهو ما ينطبق على بطلة القصة عائشة سيئة الحظ،.. وتنطقها سيدة الرياض ايميلي بلكنتها الأمريكية المفخمة (عايشة)..
كما يوجز هذا العنوان مآل البطل المستلب المغلوب على أمره الذي يواجه الواقع المازوم غير المخملي في كافة نصوص المجموعة حيث نجدهم يواجهون نفس مصير البطلة عائشة.. مما يوضح بأن القاص السي حاميد اليوسفي نذر نصوصه لتوصيف حال عينة مقهورة من أفراد الشعب يعيشون على هامش الهامش بنصف حياة..
يؤكد الاستاذ محمد آيت واكروش في تقديمه للمجموعة بقوله: (عنوان “هزك الما” يثير سؤال دلالة هذا العنوان المأخوذ من الدارجة، والذي يدل على نوع التهكم على شخص خسر معركة ما)
(….وجملة “هزك الما”، اكتسبت عالميتها في القصة التي تحمل نفس عنوان المجموعة القصصية، عندما طالبت الامريكية ايميلي من فاطمة العاملة لديها في “الرياض” شرح معناها لعدد من الأمريكيين، وقامت بهذه المهمة بأسلوب وبمضمون أذهلا المتابعين، وفاطمة في هذا النص القصصي هزها الماء على الأقل أربع مرات، لما لم تستطع إكمال دراستها والحصول على الباكالوريا، وبعد ذلك لما تزوجت رجلا خدعها بمعطيات مغلوطة حول وضعه الاقتصادي، واضطرت للخروج للعمل بعد ان رفضت بقوة مقترحا أولا للزواج، ثم بعد فقدانها لعملها في رياض ايميلي بسبب فيورس كورونا، واضطرارها للقيام بأشغال مختلفة بما في ذلك العمل في الفيلات، وأخيرا بعد أن وجدت نفسها معتقلة في سيارة الشرطة إثر مشاركتها في وقفة احتجاجية ضد الأسعار، وضد التلقيح مع أنها ملقحة مرتين، وتنتظر بشغف الجرعة الثالثة.)ص5
وهذه النهاية التراجيدية ليست نهاية سلبية أو شامتة أو تهكمية، بل تعمد القاص توظيفها لتبيان مدى ظلم وتسلط الجهاز المخزني الآثم الذي يحاول تكميم أفواه المواطنين وإذلالهم، والقمع الشرس والمسعور الذي اصبح يواجه به المظاهرات والاحتجاجات
– دلالات العناوين الداخلية
كتبت سرود “هزك الماء” للقاص سي حاميد اليوسفي بين عامي 2020 و 2022، وقام بتنسيقها وتصميمها مدير تحرير مجلة (بصرياثا الأدبية الثقافية) الشاعر والمسرحي العراقي عبدالكريم العامري، في إخراج قشيب، وهي المجموعة القصصية الثالثة للقاص، وتتضمن خمسا وثلاثبن قصة قصيرة تتفاوت بين الطول والقصر، على مساحة 95 صفحة، بعناوين مركبة من كلمة، وكلمتين، وثلاث كلمات، كالتالي:
* (الحراك – العمدة – اللقّاط – الجوارب – المتحول – ميمي – المسخ – (التنتنة)
* (في المطعم – صوت الاسكافي – حليمة الطيّابة – الإخوة الأعداء – وجه النحس – نصف مواطن – الرجل الغامض – الشيخ والعروس – الطاكسي يجري – موسم الحرائق – لطمة الجن – لحم العيد – هزك الماء – حبة الشعير – التنوير بالزاي – الأحلام المجهضة – الغمامة السوداء)
* (سلّمت عليك الداودية – الكسر الذي لا يجبر – – يا عبد السلام كفى من الغباء – في وجه الحاجة – الله يسكت لك الحس – أيها الموت تمهل قليلا – لا نورس يلوح في الأفق – نكاية في العالم المتحضر
– إما أن تذبح أو تذبح – برق ما تقشع)
وهي عناوين نصوص تمتح معناها ومفهومها من اللهجة الدارجة المغربية، ومضمنة بجمل عامية عروبية تفيض سخرية وبارودية، تترجم الروح المراكشية المرحة الخفيفة الظل، عمل السي حاميد اليوسفي على تحيينها بطرقات ذكية وفنية لتأخذ إيقاعا ومعنى دلاليا مثيرا للإنتباه، مثل عناوين
– (الحراگ) وهي لفظة دارجة تطلق كناية عن المغامر الذي يعبر الحدود من دون أوراق ثبوتية، أو عبر قوارب الموت التي لا تصل ولا تعود.
ـ حليمة الطَيّابة: (الطيابة) بالدارجة المغربية تطلق على المراة التي تشتغل بالحمام ، تنظف المكان للمستحمة وتنظفها وتخدمها، مقابل أجر..
– (اللقاط) أو الملقاط الأداة التي استخذمها النشال لقرص آذن السائق من اجل سرقته تحت التهديد
– (وجه النحس) تستعمل للكناية عن شخص سيء الحظ ويتطير منه
– (سلمت عليك الداودية) التي تأخذ بعض معناها من الأغنية الشعبية (سلمت عليك الغالية ما بايعة ما شارية)، في أغنية “دابا يجي الحبيبة دابا يجي” للفنان الشعبي بوشعيب البيضاوي، وقد رددها بطل القصة للافلات من لجاجة السؤال
– (في وجه الحاجة) يقع بطل القصة الستيني ضحية عملية نصب من احداهن التي تساومه بين دفع مائتي درهم او تعرضه للفضيحة، فيضطر الى درء الفضيحة كي لا يقع في ورطة مع زوجته الحاجة
– (الله يقطع ليك الحس) قصة زوجين متناقضين، هنية التي ضاقت درعا بتصرفات زوجها العربي الذي يعود للبيت في وقت متأخر من الليل وقد تعتعه السكر، صائحا بأعلى عقيرته في الدرب.. وتضطر المسكينة للخروج لاغلاق فمه بيديها زاحرة إياه، داعية الله بأن يخلصها منه
– (برق ما تقشع) وهي حكاية امرأة تتعرض للنصب والاحتيال والسرقة بطريقة التنويم المغناطيسي، الذي يمارسه النصابون ثم يختفون كالبرق، بعمد الكاتب في هذا النص الى استلهام تقنية توليد الحكي أو الحكاية العنقودية
– (لطمة الجن) استعارة تطلق في المعتقد الشعبي على المس، الذي يعتقد أن الجن يسكن بالاماكن النجسة والخالية، أو تخطي شيء ما
– (التنتنة) وتعني “التمتمة”، يجتهد القاص على إقحام الراوي في عالم الحكي، عبر الفقرة التالية: (سأل الكاتب الراوي هل تستطيع أن تحكي لي قصة تتسم بالغموض، وتكون قصيرة،
وجميلة في نفس الوقت. ولا يستطيع أي ناقد فك شفرتها.
قال الراوي:
ـ ربما أستطيع ذلك، لكني لا أضمن بأن تكون القصة جميلة، لأن الحكم في النهاية
سيكون للقارئ، وأنت تعرف ذلك)
وربما تلخص القصة أن الكاتب الذي يكتب عن الواقع كما تبصره العين لا يضيف شيئا للمشهد.. ف(اللغة بيت الوجود) بتعببر هايدغر.. وغاية الأدب كما الفلسفة هي تغيير الكون، لا الاكتفاء بتفسيره، وهذه تقنية امتلكتها قصص مجموعة (هزك الماء) للمبدع السي حاميد اليوسفي الذي نجح في خلق عوالم ساحرة مغايرة عجائبية أحيانا، تفيض جمالية وتشويقا، بأسلوب سلس، ووصف صائب وجذاب، لا عبر استنطاق شخوصه والاستماع اليهم ونقل معاناتهم واستدرار عطف المتلقي، بل عبر خلق أجواء من المتعة والتشويق والدعابة السوداء، وتحريك شخوصه بطرق ذكية ومهارة.. حتى ان القارئ يتصور روحه ازاء محلل اجتماعي او انثربولوجي من خلال عرض العديد من العادات والمظاهر الاجتماعية الغيبية، والظواهر النفسية المحبطة المهيمنة على عقلية الطبقات الشعبية المسحوقة..
قصص مجموعة (هزك الماء) نصوص صدامية لا تهادن. تفضح المستور وتغوص عميقا في جرح المجتمع المغربي النازف.. مغرب الشعب المقهور والمفقر، ومواطنيه الذين يواجهون مأزقا وجوديا صعبا، فنجد شخوصا يغرقون ارواحهم في طوفان من الخمر والادمان واللامبالاة والجنوح للهروب من الواقع المزري الى واقع أشد ضراوة وقساوة وبؤس كما في قصة (الحراگ)، والإسكافي، أو أبطالا مستلبين يخافون الفضيحة في قصة (في حق الحاجة)، أو الخلاسي في قصة (المتحول)، أو النصاب في قصة (في المطعم)، وقصة (برق ما تقشع)، كما نجد أغلبهم يتهربون من الواجبات الاسرية، تاركين الحمل للمراة التي تشتغل خادمة في البيوت، أو الرياض (عايشة)، أو قصة (حليمة الطيابة) التي تشتغل خادمة في الحمام، ومنخرطة في الفساد السياسي عن طريق المشاركة في الدعاية الانتخابية بمبلغ زهيد. وذلك بعدسة الناقد المتذمر والمحلل الناقم على المنظومة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تتخبط فيها البلاد.. ذلك أنه كما يعبر عنه فرانز كافكا: (إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا، فلماذا نقرأ إذن؟ إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة، التي تجعلنا نشعر وكأننا طردنا إلى الغابات بعيدًا عن الناس، على الكتاب أن يكون كالفأس التي تحطم البحر المتجمد في داخلنا.)
ولنا عودة لدراسة الجوانب الاسلوبية في نصوص هذه المجموعة القصصية الشائقة مع وافر التقدير والمودة للأستاذ المبدع السي حاميد اليوسفي راجيا له كل التقدير والموفقية
————
الصمت والمعنى في الكأس المكسورة
د. رضوان كعية
تمهيد
تكشف الرؤية السطحية للصمت على أنه انعدام لكل أشكال الصوت، بما فيها الكلام. وهو بهذا المعنى لا يعدو أن يكون فراغا مجردا من أي قيمة دلالية. بيد أن تأملنا في أشكال الكلام المختلفة، يجعلنا ننتبه إلى حضوره القوي فيها، إلى درجة عدم إمكانية الاستغناء عنه، فلا يمكن عده فراغا غير ذي أهمية في نقل المعنى.
إن أي تلفظ بالكلام لا بد أن تسبقه فترة صمت مهما كانت وجيزة، تساعد المتكلم على التفكير في ما سيقوله، وفي المخاطبين وكذا في مقام التخاطب… كما أن إدراك المتلقي للكلام هو أيضا رهين بفترة صمت قصد التأمل والفهم. وبهذا يغدو الصمت مكمِّلا للكلام وليس ضده، “فكلاهما نشيط ودال، والخطاب لا وجود له من دون علاقتهما المتبادلة. الصمت إذن ليس فضلة، أو ورما يلزم اقتلاعه أو فراغا للملء” ، وإنما هو جزء من الخطاب، لا يمكن الاستغناء عنه لما فيه من فوائدَ تغذي اللغة وتؤمِّن التواصل وتضيء المعنى الذي يصير معقولا وقابلا للتبليغ.
وبهذا يصير الصمت لغة لا تقل أهمية عن اللغة المعبَّر بها في الكلام، إنه “مثلُ الإيماءة أو الحركة، لا يجسّد سكونية فجائية للسان وإنما تسجيلا فاعلا لاستعماله. إنه يدخل في التواصل بحصة متساوية مع اللغة وتمظهرات الجسد التي تصاحبه” .
إن كون الصمت شبيها بالإيماءة أو الحركة يجعله لغة تواصل مستقلة عن الكلام، وهي قادرة على تبليغ المقصود لوحدها وبدون كلمات، لأن “الكلام لا يستطيع التخلي عن الصمت، عكس هذا الأخير” ؛ فالكلام المكتوب مثلا رهين بلحظات الصمت التي تتخلله، وهو ما تدل عليه علامات الترقيم، التي تسمح بتوقفات متتاليةٍ تساعد تنظيم الجمل وترتيب المعاني. أما الكلام المنطوق فإنه محكوم أيضا بلغة الصمت التي تجعل المتكلم يتوقف عدة مرات ليمنح المتلقي فرصة لفهم المسموع.
من هذا المنطلق، بدا لي من خلال قراءتي للمجموعة القصصية “الكأس المكسورة” للمبدع الأستاذ سي حاميد اليوسفي أن قصص المجموعة يسودها هدوء قوامه لغة رصينة وامتلاك لناصية الكتابة الإبداعية، بشكل يجمع بين الإمتاع الذي يشد القارئ إلى متابعة القراءة، والإقناع المتمثل في قدرة السارد على مناقشة قضايا راهنة، بعيدا عن كل أشكال التعصب أو التطرف. ونتيجة لذلك، تسلل الصمت إلى جل قصص المجموعة، فتعددت صوره واختلفت معانيه بشكل لا يزيد المؤلَّف إلا نضجا إبداعيا وتصويرا فنيا لمفارقات الواقع الاجتماعي وتناقضاته.
وقد تنوعت صور الصمت في “الكأس المكسورة” بين قوى فاعلة أساسيةٍ في تنامي الأحداث، أو أحدِ أشكال الزمن النفسي الذي يمنح فرصة للتأمل وانتقاد الواقع، أو صيغةٍ لتبليغ المعنى وإبانته أو غيرِ ذلك، وسنحاول في هذه الورقة الوقوف عند بعض تجليات الصمت في بناء المعنى انطلاقا من المجموعة القصصية “الكأس المكسورة” للمبدع الأستاذ حاميد اليوسفي.
تطالعنا تيمة الصمت في أول قصص المجموعة والتي تحمل عنوان: “كرامة”، حيث نلمح تركيز السارد على تصوير الزمن النفسي للشخصيات، من خلال تعبيرها بالصمت بدل الكلام، وهو ما يظهر في صمت العرافة وهمسها وإشاراتها، وكذلك في جواب زوجة التاجر المثقف بعد أن أبدى لها إعجابه بالمرأة ذات الشعر الغجري.
وقد اكتسبت كل من العرافة والزوجة _ على ما يبدو _ درجة عالية من الوقار والقدرة على التأمل بفضل الصمت، حيث تمكنت العرافة بعد أن رفعت بصرها وتأملت ملامح الرجل وصمتت قليلا أن تعرف انشغالاته وهمومَه، أما الزوجة فقد أعرضت بصمتها عن مجادلة زوجها مكتشفة أنه “ميت القلب” الذي صرفه المال عن رسالته. أما هو فقد أدرك حجم خطئه بسبب زلة لسانه وتصريحه لزوجته بكل وقاحة: “واللهِ لو رأيتِها لتمنيت أن تكوني مثلها!
وفي قصة “الحي الشتوي”، نقف عند تأمل البطل حينما جلس في المقهى وحيدا وقال في نفسه: “هل أخطأ بعض الوهابيين في وصف هؤلاء الحوريات (ويقصد مومسات شارع فرنسا) بأقذع النعوت؟ (شمطاوات، مومسات، فاجرات، باغيات، داعرات، حطب جهنم…). كل وصف يشبه قنبلة ذرية، يمكن أن تدمر مدينة بكاملها. ولم ينسوا طلب ضرب أعناقهن بالصمصام. هؤلاء الوهابيون مثل القطط إذا لم تجد الطعام، وصفته بأنه نتن” .
لقد خرج بطل القصة بقراءة نقدية لمجتمعه نتيجة تأمله الذي يعكس شكلا من أشكال الصمت، وهو الذي هداه في النهاية إلى الشك في بعض المعتقدات السائدة في المجتمع، وإلى التساؤل: من سيخفف عن عن هؤلاء النسوة آلام وأوجاع الحياة التي قضينها في الأرض يتألمن من القهر والمرض والجهل والجوع؟ كيف تجازيهن السماء؟ ألا يوجد الحور العين بصيغة المذكر؟ (…)
وفي قصة “الغزال الذي يشرب من النهر”، يغيب الكلام بصفة نهائية باستثناء مقطع قصير يتمثل في قول علال بصوت رخيم بعد أن أُعجب بزينب: “يا إلهي كيف تشرق الشمس بالليل؟”، وهو كلام ما كان لعلاّل أن يقوله لولا المعنى الذي أثر فيه بحركات جسد زينب وبلباسها وبالعطر الذي يفوح منها، كل ذلك وزينب صامتة لم تنبس ببنت شفة. وعليه فإننا نلمس في قصة الغزال الذي يشرب من النهر جنوح السارد إلى رسم عوالم النص بشكل لا يمكن معه إنكار المعاني المتولدةِ عن فترات صمت الشخصيات، وباتخاذها أشكالا تعبيرية أخرى غيرَ الكلام، لأن علاقة المتلقي بالعالم “لا تنسج فقط في استمرارية اللغة ولكن أيضا في لحظات تعليقها، وفي التأمل والخلوة، أي في اللحظات العديدة التي يسكت فيها الإنسان” .
وفي قصة “المقاطعة”، يَبرز شكل من أشكال الصمت الذي ابتدع السارد من خلاله وسيلة للتعبير عن موقفه الرافض لأشكال القمع الممارس على الفئة المقهورة بسبب غلاء المعيشة، الشيء الذي جعلها تقاطع بعض السلع إما احتجاجا على جشع المسؤولين الذين لم يتوانوا في وصف المقاطعين بكل النعوت القدحية، وإما بسب الفقر الذي وُلد معهم ولزمهم طوال حياتهم.
لقد اختارت هذه الفئة الصمت تقيّة من البطش الذي قد يلحقهم من السؤولين إذا احتجوا علناً، فعبّروا بالمقاطعة إما طوعا أو كرها، لكنها لم تجنِ لهم من ذلك سوى تقهقرِها في التصنيف المجتمعي لمن تحالفوا مع التماسيح والعفاريت وسرقوا الوطن.
خاتمة
نخلص مما سبق إلى مجموعة من النتائج نوردها على الشكل الآتي:
1 _ شكل الصمت في المجموعة القصصية “الكأس المكسورة” تيمة أساسية أسهمت في بناء الأحداث بشكل يعكس امتلاك الأستاذ سي حاميد اليوسفي ناصية الكتابة القصصية الحديثة؛
2 _ تنوعت صور الصمت في “الكأس المكسورة” بين قوى فاعلة أو أحدِ أشكال الزمن النفسي أو صيغةٍ لتبليغ المعنى وإبانته أو أشكالٍ للاحتجاج على الواقع؛
3 _ عمل الأستاذ المبدع سي حاميد اليوسفي في مجموعته القصصية المحتفى بها على تقديم نصوص فنية لا تخلو من حس نقدي للواقع الذي يعرف مجموعة من الاختلالات، وقد سخر لذلك الصمت بتلويناته المختلفة… وهذا يجعلنا نعتقد بكثير من الاطمئنان أن المؤلَّف تحكمه نزعة إصلاحية تدعو إلى نبذ كل أشكال التمييز الطبقي بين فئات المجتمع من خلال الاهتمام بالفئات البسيطة والمقهورة.
———————-
سي حاميد اليوسفي المبدع الأصيل
لمصدق مصطفى*
يعتبر يوم الاحد 21 ماي 2023 يوما تاريخيا بكل المواصفات، يوم الاحتفاء بالأستاذ المحترم سي حاميد اليوسفي، من خلال توقيع وقراءات مختلفة ومتباينة، لمجموعته القصصية، المعنونة بالكأس المكسورة والتي لها معاني كثيرة وعريضة وذات بعد انساني.
هذا الاحتفاء يستحقه سي حميد اليوسفي… الانساني العميق في مواقفه الاجتماعية الى ابعد حدود، وفي علاقاته مع أصدقائه، حيث يعتبر كمحطة مركزية لجمع شمل الاصدقاء وتوثيق جميع اللقاءات .
بالإضافة إلى ذلك، فهو مبدع اصيل، له كتابات قصصية غزيرة ومتنوعة، وذات بعد واقعي امبريقي/ تجريبي. والواقع هو أصل السرد المحض.
فكل شخص، يلاحظ المظاهر المتنوعة للواقع، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي، لكن القاص المبدع الحقيقي هو الذي يستطيع، او يمتلك مهارة التقاط تفاصيل، وجزئيات، المظاهر الواقعية في كل ابعادها. وهو الذي له القدرة على القراءة التأويلية للواقع، كي يبنيها رمزيا، بركائز لغوية قوية، عن طريق انتاج المفاهيم التعبيرية الواضحة عن هذه المظاهر الواقعية.
ويعتبر سي حاميد اليوسفي من هذا الصنف، صنف المبدع الأصيل. فكل قصصه توحي بتلك الواقعية التي لها اهمية كبيرة كخلاصة للتجربة والحياة والحكمة التي يعيشها الانسان. وهذا ما عبر عنه سي اليوسفي في مداخلته: “اكتب لإرضاء رغبه دفينه في النفس…”. فمثلا في قصته (كرامة) التي هي قصة رائعة مستوحاة من الواقع، اعتمد فيها لغة قوية بمفاهيمها، واسلوب سلس، وسرد جذاب ومنطقي، فهي قصة مليئة بالرموز… مثل مفهوم الجمال والحب الأفلاطوني المثالي، والانتظار الميتافيزيقي (الذي يأتي أو لا يأتي). كل هذه الرموز يجد القارئ ذاته داخلها… (قمة الابداع). وهذا يسري على جميع قصصه بطرق ومنهجيات مختلفة…
وفي الختام مزيدا من التألق الابداعي سي حميد اليوسفي الذي فعلا كما “قيل” فجّرَ الخجل في مواقفه الإنسانية/الاجتماعية، وفي قوته الإبداعية الرائعة. والخجل سمة أساسية للمبدعين الأدباء والمفكرين والفلاسفة.
ملاحظة:
ـ الاستاذ لمصدق مصطفى: من رعيل هيأة تدريس مادة الفلسفة في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي. وقد درّسني (حاميد اليوسفي) مادة الفلسفة بثانوية محمد الخامس (باب أغمات) بمراكش في موسم 1977 ـ 1978. وقد فرقت بيننا السبل لأكثر من أربعين سنة، حتى نشرت وشما حول درس الفلسفة، فشاءت الصدف أن يتجدد اللقاء في الربع الأخير من العمر.
————–
باقة رسائل من صديق قديم
صلاح الدين الكواكبي*
11 فبراير 2023
لسي حميد صباح الخير…
قرأت لك (العديد مما كنت تتفضل باقتسامه معي عبر الفايسبوك) من وشوم ذاكرتك، وما انحفر فيها عميقا ودالا مما ترسب وتراكب، واستطعت أنت تطويعه واستبطانه بواسطة لغة أدبية جاهدة، هي نفسها لتتملك نفسها وتنهض بمهامها في البناء والصياغة والتركيب المعجمي والبلاغي. وانتهت موفقة إلى مدنا بنصوص حكائية سردية لها قيمتها واعتبارها، تنهل من تجربة حياة مترعة وغنية بالأحداث والوقائع والمصاحبات والمجريات..
أريد أن أهنئك على ميلاد هذا الكتاب وأعدك بأنني سأنكب بالقراءة على متابعة ما فاتني الاطلاع عليه سابقا وسيمتد بيننا الحوار الأدبي والتحليلي والنقدي لتثمين هذا الجهد وإعطاءه ما يستحقه من الاهتمام .
16 ماي 2023
أتأسف عميقا وكثيرا لأني أنقل إليك خبر عدم حضوري ليوم الأحد بأيت أورير ضمن أصدقاء وزملاء أعزاء تجمعهم روابط المحبة والأدب والحنين الدائم إلى ملاقاة بعضهم البعض … طرأ على برنامحي ، إبتداء من يوم غد الأربعاء ، سفر إلى الدار البيضاء والجديدة سيمتدد لعشرة أيام ، وهو ما لم يكن مقررا من قبل ، ولا إستطاعة لي في تعديله لإرتباطه بمهمة عائلية متعددة الأطراف…) أو التصرف فيه وما لي منه سوى التنفيذ … وهكذا سأكون غائبا عن ملتقى تقت ، روحا وجسدا ، أن أنخرط فيه وأساهم في نشاطه ، وقد كنت بصدد التحضير لورقة توسع أفق سؤال طرحته أنت ضمن سياق التقديم لمجموعتك القصصية ” الكأس المكسورة ” ويتعلق ب ” لمن نكتب ؟ ” وقد قدمت أنت بصدده عدة إجابات كنت أنا أتطلع إلى محاورتها وتمديد نطاقاتها في ضوء معنى الأدب ووظائفه ومهماته الجمالية ( بالعلاقة مع الإبداع ومع مسألة اللغة كمادة فنية..
تحياتي.
18 ماي 2023
الأشياء الجميلة والحلوة دائما سهلة الانكسار ، الانشطار والتشظي… ولنا أن نسأل السي حميد اليوسفي فهو خبير فني في ” الكأس المكسورة ” عنوان يلخص كل التباسات الكون والفساد، ما يحدث ويتشكل ويتكون ثم يفسد ويتلاشى .. فعل السياسة وتدبيراتها الماكرة حاضر ومتغلغل ومحايث لكل عمليات الفساد والإفساد.
تحياتي
22 ماي 2023
هنيئا لك بهذا اللقاء الأدبي النقدي الرفيع والسامي في مقامه وعطاءاته.. وللحلم أن يداوي ويرمم ويرتق انكسارات الأحلام والتطلعات الفردية والجماعية.. وما أجمل أن يتولى الأدب والإبداع هذا الحلم ويحوله إلى وعي وإلى رؤية ومشروع تكلله وتتوجه جماليات الحكي والصياغة المروضة والمطوعة للغة ولتراكيبها ومعجمها وبلاغتها.. تحياتي .. ولنا كل البقايا من حلم لن نفيق من لذائذه.
23 ماي 2023
في تعليق على إحدى صور الصباح
كرسيان فارغان واحد لك والآخر لي نجلس ونحتسي إبريق الشاي وسط طبيعة خلابة وفاتنة ونستمتع بحلو الكلام حتى إذا ما استكفينا واصلنا المسير وزاد استمتاعنا بالوسط الجميل والممتد.. ولعل أقوى ما يستميلنا موضوعات وقضايا في الأدب وحكاياته وفتن تآليفه وروائعه. ونأخذ من كل فن طرف..
بالمناسبة لقد كانت الكلمة التي ألفتها وألقيتها بمناسبة توقيع مجموعتك القصصية “الكأس المكسورة” متمكنة من خطابها، قوية وسلسة، تفوح طيبة خاطر وصرامة وإتقان وتماسك.. أعجبتني كثيرا .. أدعوك إلى ادخارها والإحتفاظ بها إلى حين نشرها في إحدى الطبعات التالية لمجموعتك ، فهي جديرة بذلك.. ولنا عودة لها لأنها متضمنة لسؤال نقدي هام “لمن نكتب ” ؟
تحياتي
02 يونيو 2023
براعة في القص وفي بناء شخصية عمر الجن القريب من الأسفل (طبقيا واجتماعيا..) أو المحاذي والملتصق به. وعبر انحطاط مستواه التعليمي وشغبه الزائد والمتجاوز للحدود، استطاعت قصتك أن تصوغ إشكالية التعليم ببلدنا ضمن فترة تاريخية محددة، وقدمت تفاصيل السلوكات والنفسيات ومعالجة القضايا الطارئة والمستعصية (تصرف أستاذ اللغة العربية وهو يتلقى إهانة رميه من الخلف بحبة ليمون، اهتدى بذكائه وخبرته إلى صاحب الفعلة..) ترقى إلى مستوى التوثيق (وأنت لك معرفة واسعة بالموضوع..) بلغة جميلة ومنسابة ومتمكنة مما تسعى إلى تقديمه كأدب رفيع..
شكرا لك.
الهامش :
ـ صلاح الدين الكواكبي: مفتش مادة الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي وصديق من زملاء التعليم الثانوي والجامعي.
—————-
ذاكرة ليست للنسيان
عبد العزيز لتشيني
شهادتي في حق سي حاميد( وهو بالمناسبة كان يفضل ألا نناديه ب ” سي حاميد، بل حاميد حرفية”. سوف تكون بسيطة بساطة القول والمقول عنده ما جعله يصل إلى فئة واسعة من المتابعين الذين صرح لي من اعرفهم من بينهم، انهم يجدون أنفسهم في تضاعيف ما ينشر سي حاميد.
فما عساي اقول عن علاقة عمرت لأكثر من خمسين سنة، وهي ما فتئت تتجدد وتترسخ ما تعاقبت الحقب، بداية من حقبة الإعدادي فالثانوي ثم الحقبة الجامعية فحقبة التخرج. ماذا عساي أن أقول، وقد ابدع سي حاميد في وصل الحقب تلك وبسلاسة فريدة، وفي إطار من التداخل بين الحقب ينم عن براعة في الحكي، وامتلاك نواصيه ولازال لديه الكثير.. الكثير … لذا سوف اختصر شهادتي في :
ان سي حاميد ليس خجولا بالمعنى المتداول بقد ما هو ” حدودي” يأخذ المسافات ولا يتسرع في ربط علاقات جديدة. اي انه لا يندفع .
انه واضح، صريح لا يعرف المجاملة او التزلف، ويكون مؤهلا لإنهاء اي ارتباط او علاقة لا تنسجم ولا تتوافق مع قناعاته ومبادئه. فهو من القلائل الذين ما بدلوا تبديلا.
سي حاميد هو رجل الموقف والمبدأ، والذي لا يتخلف عن المساعدة ان بالنسبة للأصدقاء او الناس العاديين الذين جمعتهم به الحياة. يتم ذلك في صمت ودون رياء.
أن اكثر ما يبغضه هو التهافت وحب الظهور. فثقافة الواجهة لا تعنيه، ويفضل الاشتغال في الظل مع الحرص على تفادي الأخطاء التي قد تحسب عليه، بمعنى أن يصر على أن ” يبقى راسو عريان” .
اخيرا وليس اخرا فسي حاميد اختار طريقة الحرف البسيط كي يعيه البسطاء. وهو موفق في مرماه حتى الان.. وذاك كان القصد والمراد.
تحية للأخ والرفيق سي حاميد اليوسفي وعهدا أن نبقى رفيقين دوما، وموعدنا وشوم اخرى بنخب كؤوس من الوفاء والاستمرار.
مراكش 06 يونيو 2023
————-
الواقع المعيش في “الكأس المكسورة” للقاص المغربي حميد اليوسفي
“سر العبقرية هو أن تحمل روح الطفولة إلى الشيخوخة ،ما يعني عدم فقدان الحماس أبداً”*
من الحقائق الثابتة أن المرحلة التي قضاها الإنسان في الطفولة تبقى راسخة متحكمة في أعماق ذاته. فهو لا يقوى أن ينفلت من قبضتها، ويخرج عن سننها المألوف. تشده إليها بقوة دفينة، لا يفطن إلى حقيقتها، ويدرك جوهرها إلا الذي عاش التجربة، وذاق حلوها ومرها.. وتنهض الذاكرة بمهمة استرجاعها واستحضارها، ثم إعادة بنائها. فهي الخزان لسراديب وقائعها وأحداثها وملامح شخصياتها. تأتي هذه الذكريات كرائحة تلتصق دائما بالأمكنة والأشياء والشخصيات لا يجدي معها نسيان.
من خلال الجانب الاجتماعي والتفاعلات الاجتماعية تنهض الكتابة القصصية عند الكاتب القاص سي حميد اليوسفي للبوح بهذا المخبوء في أعماق الذات. الذات التي تربت وأينع عودها في أحضان المناخ الاجتماعي وسط مدينة عتيقة يقال عنها: مدينة الأولياء والصالحين من الزهاد حيث والدراويش “كل قدم بصالح”. ويمكن للفقير أن يعيش فيها مطمئنا. كما كان يتردد على الأسماع وقتئذ، مراكش مدينة التاريخ، فأسوارها ومساجدها وقصورها ورياضاتها، ودروبها وأزقتها تعبق بأريج التاريخ وعبق السنين الخوالي، موقعها الجذاب كأنها أميرة جميلة في يد الأطلس الكبير، على جنباتها عرصات وحدائق وسواقي تروي عطش أشجار الزيتون والتين والليمون، مدينة المليون نخلة باسقة تشرق وتسطع الشمس من بين جذلاها.. أما الساحة الكبرى “جامع الفنا” فتختصر المدينة بثقافتها الشعبية وعادات وتقاليد أهلها، فيها يجتمع المليح والقبيح..
من مدينة مراكش بفضاءاتها وأمكنتها وشخصياتها، استمد الكاتب القاص حميد اليوسفي أهم موضوعات قصصه في “الكأس المكسورة” كما في “وشوم في الذاكرة”. ظواهر اجتماعية وقضايا سياسية كما عرفها مغرب السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وما شهده من أحداث بليغة الأثر في حياة الناس قصة: بنت الشعب ص55 وما بعدها.. إن تتبعه لهذه القضايا الاجتماعية والسياسية، التي انخرط في بعضها كفاعل سياسي ونقابي، أمدته القدرة على التقاط الظواهر والسلوكات والانفعالات.. كما عاشها وعايشها، وتحويل أحداثها إلى صور أدبية. فقد زاوج بين الواقع المعيش واللغة السردية بأسلوب أدبي وسط بين اللغة العربية العالمة بقواعدها وبلاغتها وصورها الشعرية واللغة البسيطة بتوظيف الأمثال والأقوال الشعبية المحلية. فهو لم يكتب “لقارئ محدد” إنه يكتب “للبسطاء.. لبائع السجائر بالتقسيط والبائع المتجول.. وكل المقهورين..”[التقديم] ..إنه يسافر عبر عالم هذا الواقع، بين الدروب والأزقة والأسواق المحلية وساحة جامع الفنا، عبر شخصيات أشبعها الكاتب وصفا، امتد إلى دواخلها وكشف عن نفسيتها وأوضح ما يجول بخاطرها. شخصيات يتهددها الخوف والقهر والحرمان، ويقطع أوصالها الجوع والمرض.. كل ذلك ليس على حساب الخيال كعنصر أساس في العملية الإبداعية والحفاظ على جمالية اللغة السردية وانسيابها وتكثيفها.
من هذا الواقع صنع الكاتب نسيجه الأدبي في بورتريه فني إبداعي، وبلغة سلسة فيها دفء إنساني، بلغة واضحة العبارة، صادقة المعنى، وبمهارة أدبي..
إن الكاتب اليوسفي شديد الميل للبسطاء والمهمشين المحرومين من أبسط مقومات الحياة وشروطها الكريمة، معذبون في الأرض، يحملون من البؤس والحرمان ما لم يتحمله جبل الأطلس المطل على باحة مراكش.. إنه إذ يكتب للبسطاء، فهو يكتب عنهم ساردا وواصفا. لكنه لا يتوقف عند منطق السرد وحدوده، إنما يتجاوزه إلى الدفاع عن هؤلاء، يطالب بحقوقهم المشروعة. فهم “بشر من آخر درجة” ص36.. لهذا من الإنسانية والأخلاق والمبادئ والقناعات التي يؤمن بها، وجب الدفاع عنهم. إنه بهذا التوجه الفكري والأدبي يمتلك أبطاله وعيا شقيا ضد سياسة التفقير، وصناعة الجوع..
هذا التوجه مصدره تجربة حقيقية وشعور دفين في الذات ورغبة ملحة لانتشال هذه الفئة العريضة من براثين التفقير إلى حد العبودية (قصة: زياد ص42_43 /عتبة الفقر ص47_48).. والكاتب لا يقف عند حدود الدفاع عن الفقراء، بل إنه يقدم بدائل حين يتدخل منتقدا لسلوك ومحتجا ضد الجهات المعنية والمسؤولة خصوصا المنتخبين ونواب الأمة (قصة: الانتخابات ص58).. كما يحمل المسؤولية في تردي الأخلاق وانتشار الرذيلة والكذب، لوسائل الإعلام والتلفزة التي تبث برامج ومسلسلات تحط من القيم الأخلاقية والإنسانية (قصة: الحي الشتوي ص7 وقصة :الوعود الكاذبة ص39)..
بهذا الميل الشديد للبسطاء والمحرومين.. بعتبر الكاتب والقاص حميد اليوسفي امتدادا للمدرسة الواقعية في الأدب المغربي. فكل كتاباته وخاصة “الكأس المكسورة ” و”وشوم في الذاكرة” تمتح من هذا الواقع المذقع لفئة عريضة من أبناء الشعب.. إنه ينضاف لكتاب سبقوه كالروائي الكبير محمد زفاف في: “المرأة والوردة ـ بائعة الورد ـ محاولة عيش..” والروائي محمد شكري في:” مجنون الورد _الخيمة _زمان الأخطاء…” وغيرهما.. فهؤلاء الأدباء يقدمون صورة عن واقع القهر والحرمان الاجتماعي، وما يموج فيه من أعطاب نفسية واختلالات اجتماعية، بكل وضوح وصدق، داعين إلى مجتمع تسوده الأخلاق الإنسانية والعدالة الاجتماعية والمساواة ..
الهامش:
* ألدوس هكسلي
بقلم:عبد الغني نفوخ / المغرب
مراكش 06 يونيو 2023
—————-
مضامين في كتاب الكأس المكسورة
عبد الفتاح الخرشي*
“الكأس المكسورة” مجموعة قصصية للقاص المغربي سي حاميد اليوسفي. الكتاب من الحجم المتوسط يمتد على 95 صفحة، كما يضم 33 قصة قصيرة. كُتبت في فترات متقطعة ما بين 2018 و2022.
مواضيع الكتاب لم تكتمل بعد، فهي متبوعة بمجموعات قصصية أخرى متطورة، ومشروع الكاتب لم يتوقف. مشروع سعى من خلاله لتجاوز ما هو ذاتي إلى التعبير عن وجدان جماعي شعبي.
أبرز في رؤياه للعالم أدوارا للإنسان متعددة العلاقات. قاعدة الارتكاز فيها انتماء أغلب أبطال قصصه للقاع الشعبي مثل احميدة وفاطمة وعبد الله وإبراهيم وغيرهم.
كما توقف في القصص الثلاثة عشر الأخيرة عند شخصية مختلفة عن الآخرين. شخصية تحمل اسم فاطمة وضعها بطلة لهذه النصوص، فخصها بصفات ونعوت صهرتها في بوثقه واحدة لتظهر بهوية المرأة المغربية الأصيلة التي تناضل ضد الفقر والجهل والظلم والقهر.
الخيط النابض في كتاب الكأس المكسورة هو إبراز الكرامة كقيمة من القيم المهيمنة التي ترتبط بوصف اليوسفي للرجل والمرأة في معظم خطابه السردي. ويعود ذلك لانتمائه الثقافي والطبقي، وتنوع مساره النضالي، وكمتتبع للشأن الوطني والحقوقي .
الحكي يرتبط أيضا بتصوير المكان بما فيه وبمن فيه .. وهو تصوير يرتبط في الكثير من الأحيان بنفسية أبطال قصصه كما هو الشأن في قصة القطط السوداء. فالراوي يحكي عن شخصية تخرج من السينما مسطولة بعد منتصف الليل، وقدد تتبعت فيلما مرعبا، فبدا الزقاق معتما بضوء خافت، وبضباب قطرات المطر. ويزيد مواء قطة بالقرب من القمامة المشهد رعبا..
واستعرض اليوسفي مادة الأغنية المغربية لقارئ كتاب الكأس المكسورة. وهو ما يمكن الوقوف عنده في الصفحات 49 و64 وو69 و70 و 71 و79 و95. أغنيات تمتزج كلماتها بالموسيقى الشعبية والموروث الثقافي المغربي، وما تثيره ألحانها من سحر في الوجدان الجماعي لجيل السبعينات، ومازال لصدى كلماتها أثرا عميقا في نفوس المغاربة.
كما حاول توظيف بعض الكلمات والتعابير من اللهجة العامية، وحصر دلالتها في الهامش، حتى يسهل على القارئ فهم ما توحي به في اللهجة المحلية. ويلعب هذا التهجين اللغوي دورا في تواري السارد، ومنح الشخصية الحق في أن تتحدث بلغتها مما يضفي على النص ارتباطه الوثيق بالمعيش اليومي الذي تتحرك ضمنه الشخصيات انطلاقا من أبعادها الثقافية والاجتماعية والعاطفية والإنسانية والنفسية.
وحتى لا أطيل فالخيوط الناظمة لعالم سي حاميد اليوسفي يمكن إيجازها فيما يلي:
1 ـ أغنى المكتبة المغربية القصصية بمجموعاته “الكأس المكسورة” و”وجوه” و”هزك الما”، فدخل عالم القصة القصيرة من بابه الواسع فارضا نفسه ككاتب له قيمته المعرفية في المجال السردي.
2 ـ ساهم في إظهار الهوية المغربية بتنوعها الثقافي من خلال كتاباته القصصية التي استوحى موضوعاتها من الأماكن التي عاش أو عمل بها كأستاذ للغة العربية.
3 ـ شرف عالم القصة بتميزه الدائم، وحضوره الإنساني المتدفق، وقدرته على تعرية الظواهر السلبية في حياة الفرد والجماعة.
4 ـ اختزل في كتاباته بعدي الزمان والمكان في نفس تاريخي.
5 ـ اختار أغلب أبطال قصصه من أسفل الهرم الاجتماعي، واهتم بتحليل واقعهم الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والثقافي ونقده.
6 ـ تميزت كتابته بثروة لغوية خصبة وذكاء وخفة روح ودعابة.
7 ـ تجاوز الكتابة التقليدية والطريقة النمطية للقصة القصيرة.
الهامش :
ـ عبد الفتاح الخرشي قارئ ومتتبع لكتابات سي حاميد اليوسفي.
———————
العبور إلى عوالم اليوسفي القصصية
عزيز معيفي
المرور إلى عوالم سي حاميد اليوسفي القصصية يقتضي مصاحبة ومصادقة شخوصه، لاستكناه رؤاها للحياة، ومن تم التعرف على ما يميز منجزه القصصي من عمق فلسفي وإبداعي.
اليوسفي بدأ مشواره القصصي بمذكرات عما عاشه وعايشه طيلة أزيد من نصف قرن، لكنه كتب ولم يتوقف على حد تعبير (فولكنر) الذي سئل مرة: متى أصبحت روائيا؟ فأجاب حين كتبت عن قريتي ولم أتوقف.
مخيلة اليوسفي واسعة إلى درجة أنه يغزل من فيضها خيطا رفيعا يرتق به ما تمزق من ثوب عالمنا المليء بالمتناقضات. وهو بذلك يمتح من رصيد السخرية – الذي راكمه عبر مراحل- ، وقوة عزيمته في مواجهة الزوابع التي مرت به، والتي واجهها بصبر وشموخ قل نظيرهما.
ولعله يحدو حدو القصاص التركي عزيز نيسين في جعل السخرية مبدأ أساسيا لمواجهة الظلم والفقر والضياع.
هكذا نصادف في عوالمه القصصية شخصيات مثل رحمة ويامنة وفاطنة وعدنان جعلت لها النمذجة الفنية وجودا أقوى وأرسخ من الوجود الفعلي الامبريقي.
شخصيات ذات نفس شعبي، تملك عبره القوة على اختراق مخيالنا، وغزو ما تيبّس فيه من ثوابت أيديولوجية.
وهنا نكتشف أسلوب اليوسفي ـ كما في نص الطعم ـ الذي يسائل البداهة، فالفقر يستوجب المكر في مواجهته، وكذلك ما ترسخه الدولة المتخلفة من علاقات مبنية على الرضوخ والاستسلام لقدر اجتماعي.
أكثر من ذلك نجد ما يفضح ويعري أفعالا ظاهرها خير وباطنها بهتان وكذب كما في نص الرقم 1212
توفق اليوسفي إلى حد بعيد من خلال مجموعته (وجوه) من اعتصار البعد الدرامي من موزاييك الحياة ، بحيث تتحول النصوص إلى (بوزل) ويكون عليك باستمرار أن تقوم بتفكيك صور الحياة لإعادة تركيبها في أفق ما تأمله وما تَملّه.
ولعلنا هنا نكتسب الكثير من التواضع ، لأن صور الحياة المقدمة لنا من صنع شخصيات شعبية تتحول ضآلتها الاجتماعية إلى ثقل فني وازن، وتكتسب قدرة كبيرة على الإقناع والتأثير في المخيال.
أجمل ما يميز هذه النصوص هو انفلاتها مما أسماه الناقد غالب هلسا ب(الروح الأسيرة) وتتمثل في انشداد الكتاب إلى نماذج جاهزة من الحياة الغربية مبنية فنيا على مفارقة لواقعنا الاجتماعي. اليوسفي عمل جاهدا على رسم شخصيات نابعة من تمثلاتنا لواقعنا الاجتماعي المغربي بما يحبل به من سمات سوسيولوجية.
ومن الجدير بالذكر أن هذا العمل نجح في مواجهة الازدواج في السلوك الذي تحبل به حياتنا المجتمعية. فالاختيارات التي تنهجها الشخصيات ترفع من قيمة المواجهة وليس الخضوع والخنوع.
المجموعة القصصية (وجوه) مغامرة لذيذة في اكتشاف الذات والآخر.
عزيز معيفي
مراكش 12 مارس 2023
——————–
تقاسيم على مقام المجموعة المجموعة القصصية “الكأس المكسورة” لسي حاميد اليوسفي- مطارحات هادئة
عزيز معيفي
ببالغ السرور أقبل على المشاركة في حفل توقيع المجموعة القصصية “الكأس المكسورة ” لسي حاميد اليوسفي تلبية للدعوة التي وجهها لي المنتدى المغربي للحكامة الاجتماعية.
مشاركتي تسعى للنهل من المعرفة والإبداع والشعور الإنساني المتبادل.
لم يكن موعدنا كداء، بل ايت اورير، فقصدنا الإبحار فيما حفرته يد اليوسفي من بحار القص، نمخر عبابها في سبيل المغامرة من أجل اكتشاف “أطلنطيس” الجديدة التي شيدها هذا القاص العجيب. أقول عجيب لأنه تمكن من ترتيب حياته بمهارة قل نظيرها. فمن العمل الشاق على تربية وتعليم الأجيال إلى المساهمة في رحلة النضال النقابي، وفي فترة منه التقينا، إلى التفرغ للكتابة والتأليف في عالم القصة القصيرة.
استطاع أن يتغلب على فوضى الحياة، ويرتب أولوياته ضمنها بمنظور فلسفي يتعالى على الصغائر، ويُعلي من شأن الصحيح، عملا بالحكمة التي تقول : “لا يصح إلا الصحيح”…
استطاع اليوسفي أن يعديني ببليته، فقررت أن أناوشه في حرب إبداعية جميلة، همنا أن ننتصر للقيم الجمالية التي ترتكز على القيم الإنسانية النبيلة.
ملحوظة:
ركزت على نص تأسيسي لتجربة اليوسفي القصصية ـ كما أعتبره ـ وهو “الكأس المكسورة ” مع التأكيد على أن قراءتي لها طابع شمولي استنادا على مقاربة تداولية.
حين يطرح الكاتب السؤال لمن أكتب ؟ يعني ذلك شروع الكتابة في وعي ذاتها، وهي عملية معقدة وشاقة، تستوجب توفر عوامل متشابكة قد تتجاوز الطموح للنهوض بالكتابة.
اليوسفي يطرح نفس السؤال ضمن خطابه المقدماتي، مجيبا بانحياز واضح للقاع الشعبي :
“أكتب لبائع السجائر بالتقسيط، والبائع المتجول، وعمال المقاهي، وللنساء اللواتي رمتهن ظروف صعبة في جحيم الحياة، وكل المقهورين” ص 4 .
في نفس الآن، لا يمكن القفز على واقعنا، حيث شروط عدة ـ تراجع دور المدرسة / ضعف النشر/ ضعف الاهتمام الرسمي بالثقافة والفنون والآداب.. كل ذلك يؤدي حتما إلى ضعف المقروئية. من تم يستدرك انفتاح الكتابة على بعدها الإنساني ” أكتب لأصدقائي” ص 4. ثم ينفتح على الذات: أكتب لإرضاء رغبة دفينة في النفس، لكي لا أنسى ولا أُنسى”..
ويمكن هنا أن نسجل ملاحظتين:
ا) الملاحظة الأولى تتعلق بتوثيق الذاكرة، وقد توفق فيها اليوسفي من خلال منجزه القصصي باعتباره دشنه ـ المنجز القصصي ـ بما عنونه ب”وشوم في الذاكرة”.
ومن نافل القول أن ما يعيشه مجتمعنا من تحولات اجتماعية سريعة مرتبطة أساسا بشيوع نمط الاستهلاك، وعدم اهتمام مؤسسات الدولة بمختلف أنماط الذاكرة: سمعية / بصرية / لغوية / احتفالية / معمارية / مظهرية (اللباس) ـ للحفاظ عليها وصيانتها، يبقى مجهود اليوسفي لتضمين عمله الحكائي أنواعا من الذاكرات عن طريق توظيف الوصف: وصف الخلفيات، وصف الشخصيات، توظيف الأمثال الشعبية، توظيف الأسماء، هذا المجهود يبقى متميزا.
يصبح النص القصصي بمثابة وثيقة تاريخية تحمل بصمات مرحلة، وكأن الزمن عاد إلى الوراء بالقارئ الذي عايش فترات ماضية ليتلذذ بما تتضمنه من تحف جمالية.
وفي نفس الآن تخلق هذه النصوص ألفة بين الماضي والأجيال الحالية، لتتعرف عليه وتحبه وتنهل منه..
ب ) الملاحظة الثانية، تتعلق باستبدال الحياة بالكتابة، حسب تعبير كيليطو، بحيث تتحول الكتابة إلى حياة على الورق. حياة لها قدرة هائلة على النفاذ من مسام الروح إلى قلب المخيال. هنا تشتعل حرائق الأيام، وزوابع الزمن، يتلظى بها المعذبون في الأرض ـ وربما نحن منهم لأننا اخترنا أن نحب الأدب الذي يقدس الإنسان ..
عملية الاستبدال هذه تتم بسخاء فني رفيع لدى اليوسفي: لغة سردية بسيطة تقع في الحد الأدنى من تركيب الجملة، وكأنها لغة سيناريو يعج بالحركة، لكنه يستطيع أن يسجل دواخل النفس عن طريق وصف الإحساس وربطه بباقي أنواع الوصف.
يقول عمر في نص الكأس المكسورة ص 29:
“نعم أنا محظوظ لأني كل يوم جمعة أقضي حوالي ساعتين أو ثلاث مع فتاة جميلة في السينما، نتبادل الهمس والقبل، وهذا هو النصف المملوء من الكأس. لكن حظي أيضا سيء. عندما تلمس يدي فخذ نرجس الأيسر، لا تلمس غير الحديد البارد، فأحس بخوف رهيب…”
السخاء الفني يستهدف المخيال بعفويته، ولا يفترض أي نوع من أنواع التأهيل الثقافي الباذخ الذي تتطلبه الكتابة النفسية مثلا عند جبرا إبراهيم جبرا في روايته “البحث عن وليد مسعود”. بل نجد تأثرا واضحا بحنا مينه في أعماله الروائية: حكاية بحار مثلا، أو علاء الأسواني في عمارة يعقوبيان.
هي لغة سردية تثقيفية، توظف التهجين بغاية الاقتراب من القارئ، وانتشاله من براثين الشفهي الصرف، باعتبار أن التهجين يتضمن توظيف الشفهي الدارج ضمن الفصيح المكتوب: (دراجة ميني / بائع الديطاي..)
يمكن إضافة المؤشرات التي تحملها النصوص على هامشها، وتساهم في شرح كلمات دارجة لتقريبها من القارئ الشاب الذي لم يعايش فترات الزمن الماضية، أو شرح ما قد يلتبس على القارئ العربي، باعتبار أن رغبة الانفتاح على العالم العربي، واردة بالنسبة لليوسفي.
دلالة العنوان:
(عنوان النص يحيل على نص دائري) الكأس المكسورة.
الكأس في جميع الحضارات ترمو إلى اللمة والجماعة بحيث تقع في صلب الأفراح، حيت يتم تشارك رمزية الشراب كمسوغ لتبادل الأحاسيس وجعلها تخرج من نطاق الذاتي إلى الجماعي.
الكأس تُملأ إلى نصفها أو أكثر أو أقل بشراب مسكر دلالة على الضيافة والاستقبال ومشاركة الأحزان والأفراح: (كأس شاي مثلا..). وقد تدل على الخمريات بما هي خروج عن المألوف وبلوغ مرتبة الانتشاء والدخول في حالة ثانية من الطبيعة البشرية، حالة قد تتميز بالشفافية والرغبة في التعبير عن مكنون الأفئدة. أما الدليل “المكسورة” فهو يحيل على انقطاع الصلة لم تتصدع الأسباب الداعية إلى الاجتماع.
الكسر في حد ذاته يدل على استحالة الجبر وتمزق الأحاسيس الإنسانية.
إذا كان النص يحمل كعنوان “الكأس المكسورة” ـ العنوان وجه النص ـ فقد وردت العبارة الكاس المكسورة في آخر النص.
يمكن القول إن النص يحمل عنوانا يقدمه كوجه دال عليه وممهدا له، ولكنه يحمل نفس العبارة كخاتمة له، فيصبح بذلك نصا دائريا إشكاليا.
ولعل هذا المعمار الدائري يخفي في الحقيقة مسارا من الحكي، ما أن ينتهي حتى يبدأ من جديد كناية عن تشعب أسباب الحياة ودروبها ومرتفعاتها ومنخفضاتها.
والبعد الدرامي يحتاج في استجلائه لمعمار قصصي متعرج ومتشابك، وغني بما يطرحه من ضرورة الخوض في النفس البشرية.
ولعل جمالية التعقيد هاته مستمدة من أن الكاتب يتعامل مع نوع أدبي يحتاج لقدرات متقدمة من الإقناع الجمالي، وإلا سقط في الدعوة الأيديولوجية التي يكون ظاهرها التبشير الأخلاقي الفج، وباطنها عدم الاقتناع بدور الرسالة الفنية في تغيير قيم ومعتقدات وأفكار مسبقة جاهزة.
مبدأ الديالوجية :
مبدأ الديالوجية principe du dialogisme ، ركز عليه باختين في تحليل أعمال دوستويفسكي، بما هي سبر لأغوار رؤى ونفسيات شخوصه، ومعاناته الحقيقية في الوقوف على الأسباب التي تشل العدل الإنساني والرفح والحب والأمانة.
مبدأ الديالوجية يعني أن السارد والكاتب من ورائه لا يملك أحكاما أخلاقية جاهزة للتحكم في الشخصيات، بل يقع تداخل في الرؤى واختلاط لحدود الشر والخير وامتزاج للأبيض والأسود إلى درجة التيه، بحيث يحير المرء في تصنيف الأدوار، لأن المجتمع والشخصيات المستمدة منه قد تحمل من المتناقضات ما يجعل الحلول لا تشبه الوصفات الطبية أو الأخلاقية.
وعلى مستوى الخطاب الفني نجد تداخلا بين مكونات عدة تجعل الحكي يسير في اتجاه تجاوز سطح الحياة إلى عمقها : (تداخل بين النمذجة والرؤية وأنواع الوصف والحدث الخ ) كل ذلك يؤدي إلى التحول في المواقف.
اليوسفي في مجموعته القصصية، وفي نصه التأسيسي “الكأس المكسورة” لم يركن لما هو جاهز في تصور علاقة حب بين فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة ـ نرجس ـ وشاب من الحارة ـ عمر ـ بل أدرجها ضمن غير المعتاد وغير المألوف في التعامل بين شاب وشابة نشبت بينهما بعض الوشائج العاطفية.
ولإغناء هذا البعد، ستدخل شخصية نرجس في موجة من التمرد الفني على الدور الموكول إليها وتناقش وتحاجج، وتتهم السارد، بل تتعداه إلى الكاتب ، دفاعا عن حرمتها الإنسانية. ولذلك تمسكت بتجاوز إعاقتها ، وبرفضها، ليقتنع السارد في النهاية بحقها في ذلك، وليعبر عن ذوبان الحب كقطعة السكر.
هنا سيعلن السارد انكسار قيمة الحب ونسبيتها أما الجمال الحقيقي المتمثل في الاعتراف باختلاف البشر، والاعتراف بأن التعايش ضمن الاختلاف هو ما يجعل المجتمعات تتعايش، رغم ما يثقل كاهلها من عوائق، وفي مقدمتها الكراهية، العزلة، الجشع، الفقر، الأمية، المرض…
مبدأ الديالوغية عند اليوسفي اتضحت معالمه لأن شخصية نرجس ثارت على وجودها ككائن تافه، وخاضع لمصير حطّ من قدرها.
وفي آخر المطاف ينهزم الجمال كمعطى جاهز أمام رفعة القيمة المطلقة للمرأة ككائن مستقل ومتحرر من السلاسل التي تكبلها بها الرؤية الذكورية.
عند ذاك يمكن القول إن الإقناع الجمالي من خلال الثورة على توزيع الأدوار في النص، أصبح من القوة بحيث ارتوت بقعة متيبسة في الذهن بالمطر الآتي من أفكار التقدم والحرية، وفي مقدمتها أن جمال المرأة يمكنها من أت تتكامل مع ذاتها لا أن تكون فقط موضوعا للشهوة المستهلكة.
يستطيع الكاتب أن يخلق علاقة متخيلة مع الحياة، ويخلق صورة من الحياة، إلا أنها حياة من ورق، لا يمكن اعتبارها إلا كذلك بحجة تجاوزها أحيانا للحياة الفيزيقية، واكتسابها قوة الوجود الفني أكثر من الوجود الامبريقي. أليست شخصية مدام “بوفاري” في رواية تحمل نفس العنوان لفلوبير ، أقوى من أي امرأة لا ترضى بحدود الأسرة التقليدية، إلى درجة أن ظاهرة البوفارية في علم النفس تم استيحاؤها من هذه الرواية بالضبط.
ورغم هذه القوة التي يملكها الكاتب لخلق شخصيات وأحداث وأمكنة وأزمنة، إلا أنه لا يستطيع تحريكها إلا من خلال السارد.
ولذلك فالسارد يمكن اعتباره أداة تنفيذ ما يعتمل في مخيلته، ويجعله يسعى لإبراز عيوب المجتمع وعيوب البشر، وما يجعل الإنسان يسهو ويتعلق بالأمل ويساهم في تغيير الحياة، أو يخبو وتمزقه زوابعها. غر أن العلاق بين السارد والكاتب بقدر ما تتشعب وتتعقد تجعل الشخصيات تملك القدرة على التمرد، بل قد تصل مستوى اختراق القدر الفني الذي يطوقها به الكاتب، بقدر ما يتميز العمل الأدبي بغناه ، وبتعقد الصراع فيه بين الرؤى، وباتساع رقعة الصراع المجتمعي داخل النص.
في نص “الكأس المكسورة تدخل نرجس في صراع مع مبدعها وتتحداه، وتحاججه في أن المصير الذي اختاره لها، لا يمكن أن يصادر حقها في الوجود. فهي ابنة الحلم ومن حقها أن تنال إعجاب عمر، لا أن يهجرها، لأنه لا يتحمل “النصف الفارغ من الكأس” : ( ص 29) ، والفراغ يدل على الساق الحديدية.
وقد بلغ الأمر بهذه الشخصية أن أعلنت رغبته في رفع قضية ضد الراوي، بمعنى إثارة الشك المنهجي في البناء الفني نفسه، وفي العلاقة مع الراوي..
هكذا يتلاعب اليوسفي الكاتب بمخيال القارئ، وهو بذلك يهيئ شروط إقناع عميق بقيمة الاختلاف. فلا يمكن اعتبار “نرجس” فتاة ناقصة وهي تملك من الجمال القدر الكبير .. بل حقيقة “أخطر إعاقة نعاني منها هنا” إشارة إلى رأسه وكناي عن الوعي وتصبح بذلك الكأس المكسورة دالة على الوعي المكسور، الوعي الناقص، المتحيز “للأسوياء” مقابل “الناقصين” أو هو تقابل مرفوض يدعو اليوسفي إلى رفضه بإشعال ثورة داخلية في وعي كل واحد منا.
استبدال الأدوار فنيا: من هو بطل القصة؟
في نص “الكأس المكسورة” احتلت شخصية “عمر” حيزا رئيسيا في مساحة الحكي، وبالنظر إلى أن الشخصية الرئيسية تكتسي هذه الصفة انطلاقا من درجة التأثير في تحولات الحدث، غير أن الخطاب الفني في هذا النص عرف ظاهرة متقدمة من حيث التجريب القصصي: وهي تخطي شخصية نرجس لدورها التقليدي، والاضطلاع بدور آخر يتسم ببعدها الإشكالي، بحيث ثارت على مصيرها كفتاة تعاني من الإعاقة، لتفرض نفسها وأنوثتها كما هي، ولتتخلص من الدونية وتواجه الإعاقة الحقيقية التي باح بها الشخصية الوهمية أي السارد، وتتمثل في قصور الوعي في إدراك أن الاختلاف والتعايش بين الأجناس والطوائف والديانات هو ما يسمح بوجود المعنى الحقيقي للمجتمع الحداثي.
النمذجة : مدح قدرة الكاتب على انتقاء شخصياته.
يدل المنجز القصصي لليوسفي على عين ثالثة تمكنه من رؤية ما لا يُرى بالعين المجردة. ومن نافل القول إن النظر يحتاج إلى ثقافة، كأن يملك المرء القدرة على تمييز الألوان والفروقات بينها، والأشكال ودلالاتها، والخطوط ومعانيها.. لن يتحقق ذلك إلا بسبر أغوار عالم التشكيل وخبر دروبه وشعابه.
لذلك يبدو من الطبيعي أن نستمتع بالروائي العالمي “يشار كمال” في ثلاثيته “العشب الذي لا يموت”، ونحن نلج رؤوس الفلاحين الأكراد في المجتمع التركي، وكأننا نعيش بين ظهرانيهم.
ما كانت هذه القدرة الفائقة على الإقناع الجمالي تتحقق لولا أن يشار كمال امتلك قدرة هائلة على اسكناه صور من الحياة اليومية لهؤلاء، ومزجها في فضاء فني روائي.
ينحو اليوسفي هذا المنحى، بقدرته المتميزة على اختيار شخصيات قريبة منا، ونكاد نجد أنفسنا فيها، ولكنها شخصيات من ورق، تستطيع أن تدعونا للسفر في ذواتنا، ومحاولة كسر حدود الطابوهات والحواجز التي يكبلنا بها الجاهز. بل يمكن القول إن العمى الجزئي الذي نعانيه ونحن قد ألفنا طبائعنا، وعاداتنا ، وما يجب أن يكون، وما لا عيب أن يكون، هذا العمى يخفي عنا القدرة على إدراك حاجاتنا الحقيقية، ومن نحن. وإلى أين نسير؟..
الكأس المكسورة وثقافة الحاجة: La culture du manque
يبدو أن ما يلف الحياة اليومية من ضروب الاستيلاب، تجعلنا لا نحس بأي نوع من الفراغ الإيجابي، أو ما يطلق عليه “ثقافة الحاجة”. فقراءة نص “الكأس المكسورة” تجعل القارئ يتساءل عن معنى الجمال في بعده الشامل، وهل فعلا يتحقق الحب دون إدراك حقيقي للذات ومدى تقبلها “لعيوب” الآخر؟ وهل حقيقة يمكن للمرء أن يوجد مكتملا بدون عيوب؟ لعله سؤال فلسفي يغنينا الرضى عن الذات عن الغوص فيه ، على اعتبار أن الحياة اليومية تطوقنا، وتجعلنا عميانا كما في رواية جوزيف سرامكو “العمى”.
إن القدرة على خلخلة الجاهز، واستفزاز السؤال الفلسفي في ذهن القارئ بشكل أقرب إلى تعليمية المسرحي الفذ “بريخت”، لا شك تدعو القصاص اليوسفي إلى الانتقال إلى سرعة أكبر في الإبداع عن طريق خوض غمار العالم الروائي، بما يتيحه من مساحات شاسعة من الحكي تتحرك فيها شخوصه وتتصارع، وتصنع أحداثا ومصائر ـ وتعبر وتثور ـ وهي بلا شك دعوة إلى أن نستمتع أكثر كقراء ونقاد بجرأة اليوسفي وجدارته وحب المغامرة ومن أجل دعوة المتلقي إلى المشاركة في هموم ثقافية جديدة.
التهجين في عالم اليوسفي القصصي:
التهجين مصطلح نقدي يدل على توظيف الدارجة في سياق اللغة العربية الفصحى. ولعل الموضوع من الزاوية اللسانية يتشعب ويتطلب مساحة فكرية محترمة لتناوله، غير أن توظيف الدارجة ضمن ما يصطلح عليه أدبيا ب”التهجين” ينطلق من انحياز ثقافي للثقافة الشعبية كمصدر للرواية وليس الملحمة. وقد حلل هذه القضية المفكر اللامع ميخائيل باختين، وبرهن عليها من خلال دراسته ل”رابليه”. فرغم أن المرحلة التاريخية التي عاش فيها “رابليه” جعلت أدبه يتحرك ضمن حدود التصور الكلاسيكي الإقطاعي للرواية، فقد انتقد الإقطاع موظفا الثقافة الشعبية.
في الرواية العربية، اتخذ هذا التوجه منحى عميقا في أعمال نجيب محفوظ، الذي تضج عوالمه الروائية بشخصيات مستمدة من القاع الشعبي. وهو ما نلمسه في أعمال الروائي الكبير حنا مينه. وهذا الأخير نهل كثيرا من الأدب التركي وخاصة من يشار كمال.
نقل عوالم القاع الشعب، يتطلب قدرة كبيرة من الروائي أو القاص على تشرب مختلف التجارب الحياتية، وامتصاص لبها وتوظيفها. ولذلك يصعب توظيف شخصيات شعبية، دون توظيف نبض الحياة الاجتماعية الشعبية، بما تعيش خلفياتها المكانية ومعمارها، وأصواتها وضجيجها وصراعاتها وأفراحها وأحزانها..
لا يمكن مثلا حذف الدارجة التي تحقق قرب القارئ proximité من نبض الحياة الشعبية في رواية “البئر الأولى” لجبرا إبراهيم جبرا.
إثارة هذه المعطيات، يعيدنا إلى البداهة التي تفرض نفسها: لم وظف اليوسفي الدارجة في حوارات شخصياته؟
بالعودة إلى تقديمه للمجموعة “الكأس المكسورة” يتساءل عن الداعي إلى كتابة نصوصه.
يبدو بأن السؤال مثقل بما يحاصر الثقافة عموما ويجعل المقروئية ضعيفة. ففي مجتمع سليم إذا طرح أحدهم سؤالا حول الداعي إلى كتابة القصة، كمن يشك في ضرورة الهواء للتنفس!!..
ورغم ذلك يؤكد اليوسفي: :أكتب أحيانا للبسطاء مثلي عن واقع قد يكونوا هم أنفسهم أبطاله” ص 4. هنا يعبر بوضوح على أن صناع الثقافة والأدب يعيشون بين ظهرانينا، نصادفهم ونتعامل معهم، ولكن وحدهم الكتاب المبدعون يستطيعون الإمساك بالخيوط العميقة التي تحركهم في حياتهم ومنها يستمد أبعاد درامية الحياة..
توظيف التهجين الغاية منه ليست مجرد تأثيث فني صرف، وإنما استكناه مختلف أبعاد الحياة، ونقل ما خفي منها إلى القارئ في صيغ جمالية فنية، تجعله يفسرها بطريقته الخاصة ضمن ذائرة مخياله.
توثيق ذاكرة الحكي:
سبق أن أثار الناقد الأدبي غالب هلسا مفهوما عميقا لقياس درجة الإخلاص في ارتباط مخيال الروائيين والقصاصين العرب بمجتمعاتهم وحضارتهم التي نشأوا فيها، أو الابتعاد عنها والنهل من غيرها، فكان المفهوم هو (الروح الأسيرة ). ومعناه أن ما يصوغه الروائي أو القاص من أحداث وشخصيات، يكون قد تشربها من النماذج الغربية وكأنها مادة جاهزة. ولذلك تبدو الكثير من القصص والروايات وسياريوهات الأفلام العربية والمغربية مُفوّتة ومُثقلة بما هو مفارق لواقعنا.
القاص اليوسفي هنا، رمى سهمه وأصاب.. بحيث بدأ بتوظيف صور من حياته الماضية وأطلق عليها عنوانا دالا: “وشوم في الذاكرة” ثم نهل منها وأخضعها للتخييل الفني لتتحول إلى أعمال قصصية مشعة. قصص اليوسفي تحبل بتصور ولوحات من الحياة الاجتماعية قبل نصف قرن، وقد طالها ـ اللوحات ـ النسيان، لولا أن تلقفها بحسه وهمه الأدبيين، ونسج لها خيوطا متينة لوصلها بالحاضر..
ورغم ضمور المقروئية، واشتداد الاهتمام بالصورة وسيطرة الوسائط الاجتماعية على التواصل، فإن راهنية الحفاظ على المحكي كذاكرة تبقى ملحة، لأن من لا يستطيع أن يصنع نماذج جمالية وفنية من الوقائع اليومية في الماضي ، لن يتمكن من صوغها في الحاضر.
———————
شغف.. ـ جولة في عرصة اليوسفي القصصية ـ
عزيز معيفي* (المغرب)
أعادتني قراءة نصوص اليوسفي القصصية إلى المتعة التي كنت أستشعرها، وأنا أقرأ في السجن خلال السنوات التي أمضيتها هناك كمعتقل رأي.
كانت الروايات والقصص، تعيد صلتي بالحياة المجتمعية التي انقطعت عنها. لم أعد أرى الناس.. أصبحت بعيدا عما يجري، وعن المصائر المختلفة.. وكأن فراغا مهولا خلقته الجدران والأقفال والأبواب الموصدة دون جداول الحياة.
الروايات والقصص أصبحت توفر لي متعة زائدة، وتعيد لي ارتباطي بذاتي وبالآخر.. غير أن لهذا الارتباط بعدا ثقافيا، لأنه نابع من مخيال قصاص، أو روائي.. ارتباط يتيح لي متعة مشاركة الكتاب آرائهم ومشاعرهم وعوالهم، ويحفزني على التمسك بالقيم والقناعات التي أومن بها..
المعاناة الإنسانية التي تابعتها عبر هذه الأعمال، عمقت إحساسي بقيمة الحرية والكرامة الإنسانية. ولذلك حين اطلعت على نصوص اليوسفي القصصية، أحسست وكأني أعود إلى السنوات الطويلة التي أمضيتها كسجين سياسي، ولكن سجين يقرأ، ويحب أن يقرأ، ويجب أن يقرأ الأعمال القصصية والروائية من مختلف الاتجاهات والمشارب.
فيما بعد غادرت السجن الصغير، وابتلعني السجن الكبير بطلاسمه. ولم أعد أقرأ بنفس الوثيرة السابقة.. وانقطع حبل السرة الذي كان يربطني بقمم الاستمتاع الأدبي والثقافي.
غير أن أعمال اليوسفي، أيقظت الكائن الخرافي الغارق في سباته بداخلي، وجعلته يحفزني على السعي في براري الإبداع بحثا عن الجميل والإبداعي قراءة ونقدا.
وكما يقول ماريو بارغاس يوسا: “الأدب هو أفضل ما تم اختراعه من أجل الوقاية من التعاسة”*، فاليوسفي بنى تجربته القصصية على البحث المستمر عما يمكن تسميته بالتجربة البيوقصصية. وهي تشبه “الجنان” حيث تتجاور مختلف أنواع المزروعات والأشجار. فبعض النصوص تشبه أشجار الجوز في قوتها وضخامتها، وبعضها تشبه النخيل في رشاقتها. إلا أنها تتميز في الأعم بطاقة دلالية تجذب القارئ، لأن القصاص “الفلاح” الذي أنتجها يعيش في نصوصه، كما يتنفس الفلاح الحقيقي عبق عرصته. فكيف تنشأ القصص عنده؟
اليوسفي عاش في مدينة مراكش، مراكش الشعبية البسيطة المضيافة. نشأ وهو يتطلع إلى أشعة الشمس من ظلال الحياة الشعبية بما تحمله من أفراح وأحزان ومعاناة.. الشمس التي ينشدها هي شمس الوطن للجميع. ومن حق الجميع أن ينعم بدفئها.. ولذلك فشخوصه لا يستسلمون دائما للمعاناة.. يكابدون من أجل العيش، وهم بذلك يجعلوه مقتنعا بأن تجربته القصصية تخصهم هم أيضا.. إنهم بمصائرهم جزء منه..
هذه التجربة تحولت إلى دودة شريطية حسب تعبير ماريو بارغاس يوسا، تسكن أحشاءه وتجعله يعيش من أجلها.. فإذا حدث وانقطع عن تغذيته، آلمته واضطرته للاستمرار.. ولا نكاد نعثر على الخط الفاصل بين ما يقنعنا به من حياة مبتكرة، وتفاصيل الحياة الواقعية.
فلنأخذ نص “حبة شعير” من المجموعة القصصية “هزّك الماء”، ونتفحص مليا مساحته الفنية، وما يقدمه من صور نابضة بالحياة في البادية المغربية، وكيف تتصرف أم مع ابنها بعد أن لاحظت ما أصاب جفنه من التهاب. فرغم اقتناعها بضرورة الالتجاء إلى المستوصف مع أخذ ما يُقدم كرشوة للممرض، فإن ظروف عمل زوجها منعتها من ذلك. عندها التجأت الى المعتقد السحري، ويتمثل في وضع حبة شعير تحت سبع أحجار، وانتظار من يسقطها لينتقل إليه المرض، وينجو منه ابنها المصاب..
هذا النص يتميز بتحقيق انشداد سردي عجيب إليه، كما أنه يجعل المتلقي غير مدرك تماما لمآل المسار السردي. فبمفهوم كمال أبو ديب في كتابه جدلية الخفاء والتجلي، تحدث المفاجأة، بحيث يصبح والد الطفل هو الضحية بعد أسقط الحجرات دون وعي منه.
وحسب باروني في كتابه شعرية الرواية ، تلعب الخدعة الفنية دورا هائلا في تحويل النص السردي إلى لوحة جذابة عن طريق الخدعة الفنية.
القارئ من جهته ينتظر تحقق الحل السحري، وانتقال المرض إلى طرف آخر، فإذا بالسحر ينقلب على الساحر، ويصبح ضحية له.
وتبقى الرسالة القيمية من النص، هي أن الطب هو الكفيل بحل مشاكل المريض، وليس الشعوذة والسحر. وكم نستلذ عودة اليوسفي إلى هذا المعتقد لمحاربة التصورات السحرية المختلفة في وعي المتلقي.
يشبه ملريو بارغاس يوسا عمل القصاص والروائي بما تقوم به(المحترفة) التي تخلع ملابسها أمام الجميع لإظهار جسدها عاريا. وهو مثال يبدو عاديا في التجمعات الفرجوية الغربية. إلا أن عمل القصاص ـ إذا كان ناجحا ـ يعتمد آلية عكسية، فهو ينطلق من نقطة بدء، من بؤرة سردية يبدأ بها نصه، ثم يخفي هذه النقطة تدريجيا باستعمال مكونات الخطاب الفني القصصي( خلفيات زمانية ومكانية/ شخصيات/ حبكة/ حوار/ وصف إلخ.. ). وفي النهاية يقدم لنا صورة من الحياة مخترعة، ولكنها مقنعة.
نص آخر سكن اليوسفي قبل ولادته، وخرج إلى الوجود حاملا عنوان “المسخ”، وهو موسوم بردود أفعال كاتبه بامتياز.
في بدايته وبحركة مسرحية تتقدم شخصية هامة و”خطيرة” حسب وصفها. لا تحمل اسما، ولكنها تحمل صفات تدل عليها حركاتها. هنا يتدخل وبدقة كبيرة، وصف الحركة، فيُسفر عن عرافة تُرقّص الحجر، ويخفنها النساء.
التعاقد الذي تجريه معها زهرة هو كسر شوكة زوجها العربي، والحد من تسلطه، ومن قهرها عن طريق مسخه، وتحويله إلى جرو..
جسد القصة مليء بالتفاصيل التي تمزج بن حركات زهرة وهواجسها، واقتناعها بالواقع الجديد: أي تحول زوجها إلى جرو..
لإنضاج الترقب تدخل زهرة في مونولوغ يعبر عن خوفها من تصرفات ستصدر عنها بعد تحول زوجها.. تقتنع بقوة السحر حتى يكاد المتلقي ينساق معها.. ثم فجأة تستفيق من حلمها، وتفحص زوجها فتجده لم يتحول مطلقا..
النص في حد ذاته انقشع كالفقاعة، وكشف عن واقع مرير، يتمثل في عجز المرأة عن حلول واقعية لما تتعرض له من مآسي، ولذلك تلجأ إلى الحلول السحرية رغم عدم قابليتها للتحقق.
نصوص جميلة ترصع تجربة اليوسفي القصصية التي تُحوّل صورا من الحياة إلى قطع أدبية شيقة ، يبقى الحديث حولها ، وكأنه خيط له بداية وليست له نهاية.
الهامش :
* عزيز معيفي: ناقد وشاعر وصحفي
* ماريو بارغاس يوسا : رسائل إلى روائي شاب ص 17
مراكش31 ماي 2023
———————-
بين ضفاف واد الزات والكأس المكسورة
ذ. محمد قنطاري*
خاطرة جميلة جادت بها قريحة الاستاد محمد ايت وكروش الدي خبر الاستاد سي حميد اليوسفي في مسيرته الابداعية التي تنساب في هدوء، ومسيرته النضالية التي تميزت بالرزانة والعطاء ونكران الذات. وهذه كانت ولازالت شيم المناضلين والمثقفين العضويين الدين يوثرون العمل في الظل بعيدا عن البهرجة والاضواء. شعاره العريض تدبير الاختلاف بأسلوب حضاري راق بعيدا عن النظرة الايديولوجية الضيقة للدفع بالعمل الى الامام. وهدا ما جعل سي حميد رفيقا حميما ومقربا من الجميع. وهدا كذلك ما يفتقده الكثير دونه في جميع المجالات..
اقول الاستاذ ايت وكرش خبر سي حميد اليوسفي في ابداعه ونضالاته، وخبر واد الزات في خصبه ونماءه، واحلام صغار الفلاحين في انتظار صبيب مياهه من خلال سد يحقق هده الاحلام المؤجلة عند الساكنة، ليعم الخير والخصب والنماء، وتتحسن الاوضاع المادية لساكنة القرى والارياف المتناثرة على ضفافه..
تحدثني نفسي، وبعض حديثها يقين، انه كما استطاع سي حميد ان يجمع تلك اللمة الجميلة على ضفاف واد الزات، والتي باعدت الظروف بيننا وبين العشرات من افرادها لعقود ثلاثة او اربع، فتجدد اللقاء، وتم الو صل بين الماضي والحاضر. اهمس للأستاذ ايت وكروش بان وادى الزات سيفي يوما بوعده، ويحقق احلام الجياع وصغار الفلاحين وساكنة الحواضر كذلك، لأنه عندما يتجاور كريمان لا محالة سيجودان، فكما جاد سي حميد اليوسفي في حضرة (الشيخ) موسى مليح. سيجود واد الزات يوما ليحقق انتظارات الساكنة، وسنكون ان شاء الله من المستفيدين الدين سيتفيؤون ظلال اشجاره، وينعمون بخيراته بمعية الحاج موسى مليح اطال الله في عمره، ولا حرمنا من خفة دمه.
الهامش : محمد القنطاري أستاذ متقاعد اشتغل مع اليوسفي بثانوية يوسف بن تاشفين التأهيلية في بداية الألفية الثالثة.
——————-
سي حاميد اليوسفي.. ذاكرة خصبة
نور الدين بنشقرون*
معرفتي بالأستاذ سي حاميد اليوسفي حديثة لا تتجاوز الست سنوات. تعرفت عليه بحكم ارتيادي نفس المقهى المفضل عنده، وبحكم علاقته القديمة (أيام الدراسة بفاس) مع صديقي المرحوم الأستاذ عبد الصادق العرعوري.
حينها أصبحت اقرأ له قصصه التي ينشرها على صفحته في الفيس بوك، وعند لقائي به نناقش مواضيع عدة، ويبدي في بعض الأحيان ملاحظاته لقصائدي الزجلية التي أنشرها على صفحتي في الفيسبوك.
وخلال هذه المدة القصيرة، اكتشفت في الرجل خصالا قل مثيلها في أيامنا هذه. فهو ينصت أكثر ما يتكلم، إلى درجة أنك تخاله خجولا لكن عندما تتعمق معه في النقاش تكتشف ان هذا الخجل يخفي ثورة دفينة على وضع الفقر والقهر والظلم الذي عايشه، وكان شاهدا على أحداثه في الحي الذي سكنته أسرته بمدينة مراكش منذ سبعينات القرن الماضي. هي أحداث بقيت لاصقة في ذاكرة الرجل رغم أنه لم يعشها شخصيا بل عايشها فقط، لأن سي حاميد اليوسفي ينتمي لأسرة عريقة معروفة بخيراتها وكرمها .
وهذه الذاكرة الخصبة للرجل نكتشف اغوارها من خلال سرده لأدق تفاصيل الأحداث عند قراءتنا لقصصه، قصص تشد القارئ وكأنه أمام مسلسل تلفزيوني مشوق.
لا يسعني إلا أن أقف احتراما وتقديرا لهذا الكاتب القصصي الفريد من نوعه، واتمنى له مزيدا من التألق والعطاء إن شاء الله.
الهامش:
ـ نور الدين بن شقرون إطار بنكي متقاعد وشاعر زجال.
مراكش 06 2023
———————
القصة القصيرة عشق اليوسفي الأخير
محمد آيت واكروش
شكلت القصة القصيرة خلال العقود الأخيرة إلى حد ما ديوان المغاربة، وذلك بتزايد عدد اللواتي والذين واصلوا أو التحقوا بالكتابة والابداع في هذا المجال من أجيال وفئات عمرية مختلفة وعديدة من جهة، وكذلك لتزايد الاهتمام بها نقدا وتنظيرا وتنظيما للمهرجانات والتظاهرات الثقافية الخاصة من جهة أخرى.
وقد بادر سي حاميد اليوسفي مباشرة بعد تقاعده كأستاذ للغة العربية إلى استثمار وسائل التواصل الاجتماعي من أجل نشر ما سماها وشوما، تلتها مجموعة من القصص القصيرة مدرا بذلك ما عنده، لنجد أنفسنا أمام كاتب يمطرنا بنصوص إبداعية متميزة، وليجد نفسه بعد ذلك من المبدعين الذين انغمسوا في هذا الجنس الأدبي، وأبدعوا فيه بشكل متميز.
وقد اختلفت علاقة القصاصين بالقصة القصيرة، إذ هناك من اعتبرها أما ترضعه حبا بكل أشكاله، وتحيطه حنانا، وتطعمه وتربيه وتخاف عليه. وهناك من اعتبرها النار المقدسة التي ارتأى لنفسه أن يكون من عبدتها. كما أن هناك من ارتبط بها بعلاقة صداقة غريبة الاطوار والتجليات تتسم تارة بالارتياح والتماهي بالانتساب والشوق والانجذاب، وتارة بالاستفزاز والمناوشة، وحرق الأعصاب، ليجد اليوسفي نفسه بعد عشقه للحياة والنضال والأسرة مع القصة كوسيلة تعبير جمالي وفني، أمام عشق أخير يشكل الهواء والدواء والحلم والهم بعد الغم.
واليوسفي الانسان بحضوره الطهراني، البسيط بتواضعه، والرافض لكل موقع مشبوه ولإيكال الأمور لكل معتوه، لم يجذبه الانسحاب، وبقي صامدا أمام كل محاولات التجريف وعلى كل المستويات. وتشبت بفضل كتاباته بالوقوف أمام محاولات غسل دماغ الفئات المحرومة الى جانب تفكيك الواقع، وكشف تناقضاته كما يكشف عورات مختلف الزعامات المعينة منها والمنتخبة ظلما وعدوانا. وقد وجد وهو اليوسفي ابن مدينة مراكش في القصة القصيرة وهي وليدة المدينة والحداثة بأناقة حجمها وسهولة قراءتها دون استصغار قوتها، ما يستثمر به قدرته الفائقة على الانصات لكل الوقائع التي تصل مسامعه، وكذلك قدرته الاستثنائية على تحليلها، وفحصها وإعادة تدوريها في شكل فني، يمكن ايصاله إلى القارئ المتلهف، ليؤكد بذلك التقاؤه مع أب الكيمياء الحديثة لافوازييي: “لا شيء يضيع، الكل يتحول”، ويقوم بهذا التدوير في كتابة القصة، كما يقوم بإعداد “الطنجية”* بالتدقيق في مقادير توابلها والسهر على ضمان طبخها في أحسن الظروف واستحضار القارئ الذي سيتذوقها.
ورغم ازدهاء الرواية بنفسها بفعل امتلاء جسدها بالأحداث والحكايات وقامتها الفارعة، وتربعها على عرش الأدب منذ بداية القرن العشرين، كما يتربع علم البيئة على البيولوجيا، ورغم ايماء العديد من الأصدقاء سواء بالغمز أو اللمز بأهمية وجدوى الارتماء في حضنها، فإن اليوسفي لم يفعل ما فعله العديد من القصاصين حين هجروا ديار القصة القصيرة نحو ديار الرواية. وربما يحضره ما قاله الشاعر إبراهيم ناجي:
“أدعي أني مقيم وغداً ركبي المضني إلى الصحراء سائر”
ولم يظهر بذلك عنده ما يشير إلى تغيير الديار مؤكدا شعاره “أحب المشي على الرصيف ولا أرغب في تجاوز علامة الأربعين”
بين انشغالاته اليومية، ومسؤوليته الأسرية المعتادة، وباستحضار طفولته وشبابه وتجربته المهنية والنضالية والإنسانية، وما بين بيته الموجود بحي يرادف اسمه العربي كلمة “إضاءة”، ومقهى باسم فرنسي يعني “رومانسي”، ومقهى آخر باسم أمازيغي يعني “بساتين”، يستمر الاهتمام بالكتابة. فكانت بداية عبارة عن حفريات حملت اسم وشوم في الذاكرة، لتتبعها ثلاث مجموعات قصصية “الكأس المكسورة”، ثم “وجوه”، و”وهزك الما”. وبذلك صارت الكتابة عند اليوسفي انشغالا حيويا يوميا، يخرجه من هذا المألوف، ليكتب دون توقف، كما يسوق دراجته الهوائية بكل العناية اللازمة، وهو مستمر في الدواسة. فالكتابة بالنسبة إليه هوية أساسية، وضرورة حتمية من أجل البقاء. بل هي الوجود في حد ذاته “أنا أكتب إذن أنا موجود”. واختار اللغة العربية ليعبر عن الحياة بحلاوتها ومرارتها، ويفجر ما بداخله من انشراح وانزعاج، من تفاؤل وتشاؤم، من تهلل وتجهم، من رضى وحذر، وليسعي في نهاية المطاف إلى إعادة ترتيب حروف “ألم” إلى “أمل”.
وعلى الرغم من صعوبة كتابة القصة القصيرة ،بالنظر لصغر حجمها وتنطعها، واشتراطها الدقة والتركيز والحذر الشديد لكون اللجوء إليها كمن يستعمل جرعة، قليلها منشط وكثيرها قاتل، فإن اليوسفي استطاع أن يروضها ويجعلها ناطقة باسم المجتمع بكل تفاصيله وإشكالاته وقضاياه ،ومعبرة عن الاخطار المحدقة به في كل المجالات .
وأمام صعوبة النشر، وتعقيدات الطبع، وهزالة الدعم، ورفض الصدقة، ونفوره من تكرار مشهد بعض الكتاب وهم يطوفون كالشحاذين على دور النشر والمكتبات والاكشاك، لجمع ما خسروه في طبع مؤلفاتهم، تكونت لدى اليوسفي قناعة بأن الحصول على رقم ايداع، واسم مطبعة وعدد الطبعات قد يكون مضللا خادعا وليس دليلا على السطوع الحقيقي. وأن العديد من الانتاجات لا تحمل في الحقيقة إلا هذا الرقم والاسم. ولهذا فضل تقاسم إبداعاته مع كل اللواتي والذين تجمعه بهن وبهم روابط الابداع عبر وسائط التواصل الاجتماعي ثم بالطرق البسيطة الممكنة.
ولا غرابة ان تلتقط مجلة من بلاد الرافدين والقرامطة، وأخرى من منطقة انسان (ايغود)* الذي عاش بالمغرب منذ 300 الف سنة على الاقل، أهمية ما يكتبه اليوسفي من اجل العمل على نشره الشي الذي شكل مسحة خاصة.
الهامش:
ـ محمد آيت واكروش : رجل تعليم متقاعد ومسؤول نقابي سابق ومهتم بالشأن التربوي والثقافي والسياسي.
ـ الطنجية : وجبة محلية تتفرد بها مدينة مراكش عن باقي المناطق المغربية.
إيغود: موقع أثري يعود إلى العصر الحجري القديم يقع في الجنوب الشرقي لإقليم اليوسفية. وقد عُثر به على أقدم بقايا عظمية يقارب عمرها ثلاث مئة ألف سنة.
مراكش 09 يونيو 2023
————————————–
شعرية المفارقة في المجموعة القصصية: “الكأس المكسورة” للقاص حاميد اليوسفي
وجهة نظر نقدية
ذ. فيصل أبو الطفيل
الكلية متعددة التخصصات-خريبكة/ جامعة السلطان مولاي سليمان
على سبيل التقديم:
لا يوجد إنسان لا يمارس الحكي، لا يسرد الوقائع، ولا يتلقف الأخبار، إلا إذا كان إنسانا مفرّطا في إنسانيته. لا ينتمي سي حاميد اليوسفي إلى هذه الفئة ولا يمكن أن يكون نصيرا لها طالما أنه يتحصّن بتجربة أدبية غنية تتسربل نسيجا من السرد الخصيب، لتورق مجموعة قصصية من أبرز سماتها التنوع والغنى في سبك المباني وتدفق المعاني.
وعند هذا المدى، ترصد هذه الورقة أضمومة مختارة من المنجز القصصي لسي حاميد اليوسفي من خلال دراسة وتحليل نماذج بعينها مستقاةٍ من متن فريد تتلاطم داخله أمواج المفارقة لتسفر عن عنوان هذه الورقة: “شعرية المفارقة في المجموعة القصصية: الكأس المكسورة”. ولتستعلن مدخلا من المداخل الممكنة التي تسمح بها القراءة، إنها تقنية المفارقة التي تتكرر بشكل يكاد يكون كاسحا في لحظات التوتر الشديد التي تفرزها أنماط التشابكات في جملة من قصص “الكأس المكسورة” التي عليها مدارُ هذه الورقة.
تشتمل المجموعة القصصية الكأس م لسي حاميد اليوسفي على 33 قصة، كُتبت خلال فترة زمنية امتدت لأربع سنوات (2018-2022)؛ أي بمعدل 8 ثماني قصص في السنة. ويمكن الاطلاع عليها في جلسة قرائية واحدة أو في جلستين على الأكثر. كما أنها تحمل طابعا مزدوجا من حيث ارتكازها على خلق متعة قرائية مسنودة بعمق دلالي يفتح بوابة المعنى على تأويلات مفتوحة وأحيانا غير متوقعة.
الإطار النظري:
تمثل المفارقة “إحدى الوسائل الفنية التي يلجأ إليها القاص لإبراز التناقض بين طرفين متقابلين، ومن خلال السرد المحكم يتولى إبراز المفارقة”. إنها إذن تتأطر نظريا ضمن بلاغة الانزياح وجمالية الخرق.
ثانيا: المستوى التطبيقي:
وقع اختيارنا على ست قصص من مجموعة “الكأس المكسورة” لسببين رئيسين:
*الأول: اشتمال عناوينها على تقنية المفارقة التي تكسر توقع القارئ وتحدث الدهشة والإثارة
*ثانيا: اشتراكها جميعا في إعادة تشكيل الواقع بحسب مرجعياتها الثقافية والاجتماعية
المفارقة في ثلة من عناوين المجموعة القصصية: الكأس المكسورة : قراءة خاطفة
4-الرجل الذي يكره حماته
7-القبلة المسحورة
9-الكأس المكسورة
10-المرأة الشبح
13-الوعود الكاذبة
18-غادي الهاوية
تتضمن هذه العناوين من ناحية ترميزا وتكثيفا للمعنى، كما أنها من ناحية أخرى تشير إلى نوع من المفارقة بين الصفة والموصوف المقترن بها.
4-الرجل الذي يكره حماته
(الرجل الذي يكره حماته: يتوقع القارئ مثلا أن هذا الرجل يكره شيئا يكرهه جل الناس، فتخرج المفارقة هنا عن النمط المألوف والتقليدي الذي يمكن أن يتشكل على النحو الآتي: الرجل الذي يكره الانتظار/المدينة/الانتهازيين… إلخ.. وقد تسمح المفارقة أيضا في هذا العنوان باستحضار ملمح تناصي مع عنوان رواية حنا مينا: الرجل الذي يكره نفسه (وباستعمال شيء من القياس: من يكره حماته سيكره زوجته ومن ثم سينتهي به الأمر إلى أن يكره نفسه). وعلى أي حال، تدل المفارقة في عنوان القصة الرابعة من المجموعة على وجود توتّر اجتماعي داخل عالم مصغر هو الأسرة، تتولى فيه الحماة إشعال نيران المشكلات بما يفضي إلى زعزعة الاستقرار المنشود عند هذا الرجل الكاره لحماته. من الطريف جدا أن الجملة السردية الأولى من القصة تنضح بالمفارقة. يستهل سي حاميد اليوسفي هذه القصة بقوله: “إبراهيم موظف صغير، استقبلته حماته أثناء فترة الخطوبة بحفاوة”. 16.
تعدّ هذه القصة بالنسبة لي من أجمل وأجود ما صاغته أنامل القص عند سي حاميد اليوسفي. فباستنطاق دلالة الجملة الافتتاحية يصدمنا الكاتب بسلوك غير متوقع هو أساس المفارقة المتمثلة في “حفاوة استقبال الحماة” لموظف محدود الدخل. فهل يا ترى كانت تعوّل على الاستفادة من زيادة محتملة في مرتبه يعم نفعها الزوجة وأمها؟ أم أن هذه الحفاوة إنما تختص بفترة الخطوبة (الوعد بالزواج) في انتظار خاطب آخر يستحق أن يظفر بابنتها المصونة؟. تحمل المفارقة هنا بعدا دلاليا أيضا يتمثل في هذا التناقض القائم بين “قصر ذات اليد عند الموظف الصغير” وما يقابلها من “حفاوة” لا تناسب المقام، ولا يمكن أن تحمل إلا على المجاز الذي يشوش على توقعات القارئ ويقحمه في دائرة الحيرة والغموض… تنتهي القصة بموت الحماة، لكن العقدة هنا لا تجد طريقها للحل، طالما أن مفارقة أخرى تمسك بزمام القارئ، وتقوم على طرح سؤال/هاجس هو: لماذا يزور إبراهيم أسبوعيا قبر حماته التي أذاقته العلقم في حياته؟ تعددت التأويلات وبقيت المفارقة قائمة تعبر عن نفسها بأسلوب ممتع ورشيق..
7-القبلة المسحورة
أستحضر هنا قولة جميلة لأدونيس يمكن أن نتخذها مطية لاستكشاف المفارقة في هذا العنوان. يقول أدونيس: القبلة هي الانحناء الوحيد الذي يمكن أن يسمى علوا. لنتفق بداية على أن القبلة المسحورة ليست قبلة عادية،
9-الكأس المكسورة
تمثل هذه القصة وسما خاصا للمجموعة، لأن عنوانها يتصدر الغلاف، ولأنه يعبّر في تكثيف واقتضاب عن مجموع القصص كنسق متكامل لا كبنية مفككة. ترمز الكأس المكسورة في بناء المفارقة إلى الأشياء التي تنشد الكمال والقدرة على التمام فتجد نفسها مجبرة على الاعتراف بالنقص؛ ذلك النقص الذي يمثل النصف الفارغ من الكأس.
عمر الشخصية الرئيسة في القصة صديق فتاة جميلة اسمها نرجس. تعاني من إعاقة في إحدى ساقيها. يجد عمر نفسه بين نارين: فهو يحب هذه الفتاة (أو يميل إليها) ويشفق عليها بسبب الإعاقة. هذه المفارقة النفسية تدخله في حالة من التوتر وتجعله يقيم بين برزخين متعارضين: يكون تارة في كامل صحوه، وتارة، يتناول مخدّر “المعجون” فيصير في أوج لهوه. يهرع إلى تفريق العقل بالمخدر حتى لا يصطدم بواقع مر يفسد عليه لحظاته الحميمة مع نرجس. تلك إذن تميمته في التمرد على وضعه الشائك. في النهاية، على حافة الجنون وشيء من المنطق يصدح في وجه محبوبته بحكمته الرصينة: “كلنا نعاني من إعاقة ما يا نرجس”.34.
خاتمة:
محمولا بثقافته وتاريخه الشخصي ومحمّلا بقناعاته ورؤاه، يرسم سي حاميد اليوسفي شخصياته بتأن وروية، بحيث إن صورة هذه الشخصيات تتحدى القارئ وتصدمه ولا تكاد تفارق ذهنه. ذلك أنها تناقش قضايا تناسب العصر الذي أنتجت فيه، وتحدث بتقنية المفارقة التي تستظل بظلها مسافة إضافية لإضافة الدهشة إلى مسار القصص. يبرز ثراء الكتابة وتنوعها عند سي حاميد اليوسفي من خلال المخزون الكثيف من التجربة والخيال التي تعضدها طاقة كتابية كبيرة وتجربة إبداعية فريدة، تضمن لها الغنى والتجدد والاستمرار، وتتلألأ فيها الصور السردية مشحونة بالدلالات ومحتشدة بالتأويلات، وتبعث بصيصا من الأمل في قلب كل قارئ يدنو منها، ويحسن الإنصات إليها.
—————————————
نصوص سي حاميد اليوسفي
أزرق من لون السماء ؟!
سي حاميد اليوسفي (المغرب)
قصة قصيرة
فتحت محلبة* جديدة بجوار مقهى الحي. ارتفاع ثمن مشروباتها جعل القليل من العمال والموظفين الصغار والطلبة والعاطلين من أبناء الحي يقصدونها في المساء، يدخنون القنب الهندي أو الحشيش، ويتبادلون أخبار الكرة والانتخابات الجماعية. قال ابراهيم عامل الفندق الموسمي:
ـ هؤلاء المرشحون يأتون كل خمس سنوات إلى الحي، ويكررون نفس الوعود التي قدموها من قبل دون أن يتحقق منها شيء؟!
وافقه عبد السلام الرأي، وناوله عود (السبسي) بعد أن أشعله، وأخذ منه نفسا عميقا. سعل ورشف جرعة صغيرة من كأس شاي بارد. وعندما استعاد توازنه قال:
ـ هذه المرة جاؤوا بمرشح غريب إلى الحي. وقيل بأنه خطب أخت العربي. المسكينة لو لم تطارد الشرطة أخاها، ويهرب إلى الشمال، لما سمح لهذا اللعين بالضحك عليها.
تدخل مهدي الملقب بنشرة الأخبار موضحا أكثر:
ـ الديمقراطية عندنا مشبوهة، والتصويت شكلي. الجهات المعلومة تتحكم في اللعبة. والمرشح الذي تتحدث عنه قيل بأنه موظف ومثقف، ينشط بإحدى الجمعيات. سيتقدم تحت مظلة الحزب الإداري الجديد الذي يراهن عليه أصحاب الحال لاكتساح الانتخابات. ويُشاع عنه بأنه في كل مرة يترأس جمعية، يسرق الدعم الذي تتوصل به من وزارة الثقافة أو المجلس الجماعي. وعندما ينكشف أمره يؤسس جمعية جديدة.
الرجل غريب لا يعرف سكان الحي. ربما أسرّت إليه حماته أو خطيبته بأن المجموعة التي تجلس في المحلبة إذا استطاع استقطابها إلى جانبه يمكن أن يكسب ثقة الحي. فهم يعرفون السكان، والسكان يحترمونهم، بحكم أنهم من أسر قديمة ومعروفة.
في مساء اليوم الثامن من الحملة الانتخابية، قرر التواصل معهم. جاء مرتديا قميصا بلون السماء، ويحمل في يده ملصقات بلون البرتقال تعلوها صورة حصان. تبادل التحية مع بعض الشباب الواقفين بجانب باب المحلبة، ثم ولج إلى الداخل. مد يده للسلام على الأشخاص الجالسين. تنازل له صاحب المحلبة عن كرسيه. ألح عليه عمدة المجموعة أن يشرب شيئا، فطلب له كأس عصير بالموز. تبادل مع أبناء الحي القليل من المجاملات. عبد الرحيم أطلق عليه شبان الحي لقب العمدة، لأنه الأخ الأكبر لفتوة الحي، ويحظى باحترامهم، ثم إنه موظف صغير بإحدى الوزارات.
عندما أحس المرشح بأن الوقت يداهمه، وقف ووزع الملصقات على الجالسين، ثم أخذ الكلمة، ودخل في الموضوع مباشرة:
ـ أخوكم موظف ومخرج وكاتب، جئت من أجل خدمتكم، وخدمة السكان. إذا وقفتم بجانبي ودعمتموني، يمكن أن أطور هذا الحي إلى ما هو أفضل. وسأضغط على المجلس لوضع برامج لتزفيت الأزقة، وإصلاح بالوعات الواد الحار، وتنشيط الحياة الثقافية والرياضية، وتشغيل الشباب العاطل. وكل هذا يحتاج إلى مساندتكم، وتصويتكم على أخيكم، وأعاهدكم الله بأني لن أخيب ظنكم.
احتد النقاش بين بعض الطلبة والمرشح حول المسلسل الديمقراطي في البلد، والجدوى منه. نظر العمدة إلى الشباب، ثم تدخل لحسم الموضوع:
ـ أنت رجل غريب عن الحي، ولا نريد أن نكذب عليك، سنكون معك صرحاء. نحن لا نريد مطالب من هذا النوع. جاء قبلك العديد من المرشحين، وكرروا نفس الأسطوانة. ذهبت انتخابات وجاءت انتخابات، ولم يتغير شيء. ولن يتغير شيء معك، ولا مع غيرك.
فتر حماس الرجل، وبدا له بأن الاستمرار في الحديث مضيعة للوقت. وهو يهم بالوقوف بادره كبور بعد أن غمزه أحد الطلبة:
ـ ممكن أن نساعدك، ولكن بشرط؟!
انفرجت أسارير المرشح فسأله:
ـ وما هو ؟!
أشار كبور إلى العمدة ، فأخذ هذا الأخير نفسا من سيجارة، ثم قال:
ـ لدينا صديق من أبناء الحي معتقل في قضية شيكات بدون رصيد، ونريد أن نقف بجانبه.
تدخل المرشح طلبا للتوضيح:
ـ وما المطلوب مني؟
قال العمدة:
ـ المطلوب هو تبادل المصلحة. أنت في حاجة إلى من يساعدك في حملتك الانتخابية، ونحن في حاجة إلى من يساعدنا في إخراج زميلنا من السجن. بالواضح نحن نحتاج إلى مبلغ من المال قدره عشرة آلاف درهم.
لم يوافق، ولم يرفض. نهض من مكانه، وأحس كأن شخصا أذكى منه قرصه في أذنه، وقبل أن يغادر التفت وقال:
ـ يكون خيرا إنشاء الله.
يمر الأسبوع الأول باردا، وكأن المرشحين يجسون نبض الهيأة الناخبة. في الأسبوع الثاني يبدأ الوقت يضيق، ولا بد من رفع وثيرة التعبئة، وإلا فقد المرشح الأمل في الحصول على عدد مرتفع من الأصوات.
بدأ المخرج يفكر مع نفسه:
ـ لا بد أن أجد طريقة أحتال بها على هؤلاء الطماعين. فأنا مثقف ومخرج. ما الفائدة من تجربتي في الإخراج إذا لم أقدر على تحريك هؤلاء الشياطين مثل الكراكيز؟! اتفق مع خطيبته على خطة، وتركها طي الكتمان.
جاء في المساء إلى المحلبة. قدم للعمدة شيكا بمبلغ عشرة آلاف درهم، وطلب تأخير صرفه إلى نهاية الشهر لأنه بدون رصيد. أمر العمدة كبور بجمع أطفال الحي، ومرافقة المرشح لمساعدته في توزيع ولصق مناشيره وصوره على الجدران.
في أقل من ربع ساعة اجتمع حشد من الأطفال، وهم يرددون الشعارات وراء المرشح، ويطوفون معه الأزقة والدروب.
بعد يومين عاد إلى المحلبة، وأخبر الشباب بأنه يريد عقد اجتماع في منزل أصهاره، ويستقبل فيه سكان الحي، ويتحدث إليهم. نصحوه بأن يهيئ الشاي والحلوى للضيوف، واتفقوا على أن يكون الموعد بعد صلاة المغرب.
(الفَندق)* المقابل للمقهى يسكن ويعمل به العديد من الصناع التقليديين القادمين من الجنوب. وهم أصلا غير مسجلين في اللوائح الانتخابية. في المساء بعد آذان المغرب عندما ينتهون من العمل والصلاة، يجلسون بالمقهى المجاور، لشرب براد شاي، أو آنية من (الحريرة)*، ومشاهدة التلفزيون.
سألهم بعض شبان الحي إذا ما كانوا يرغبون في تناول الحلوى، وشرب الشاي بالمجان، فليس بينهم وبين ذلك سوى مسافة مئة متر.
استقبل المرشح ضيوفا أغلبهم تجاوز سن الأربعين. سحناتهم ولباسهم يدل على بساطتهم وفقرهم. رحب وقدم الشاي والحلوى وخطب ورقص فرحا.
سقط المرشح الغريب عن الحي في الفخ.
مرت أيام الحملة بسرعة، وانتهت مع منتصف الليل. غدا سيحصل على أكبر عدد من الأصوات، ويحظى بعضوية المجلس. لا بد أن تتدخل قيادة الحزب وتضغط على الجهات المعلومة لفرضه رئيسا. جفا النوم عينيه. قال مخاطبا نفسه:
ـ آه يا عمر لو سارت الأمور على هذا الشكل، لتغيرت حياتك رأسا على عقب. في وقت وجيز ستبيض بشرتك، وتركب سيارة من آخر موديل، وتسكن فيلا فخمة، وتتمنى أي فتاة جميلة من أسر أعيان المدينة أن تكون عريسا لها. لا بد أن تهجر أحياء الذباب والجردان. لا يليق بك، وأنت المثقف والمخرج والممثل أن تعيش بين هذه الحشرات المريضة بالفقر والجهل، وأولهم هذه البعوضة التي تنام بجانبك على الفراش!! أنت يجب أن تصعد إلى الأعلى!!
تم التصويت، وأعلن عن النتائج في المساء، ونجح مرشح من اليسار بفارق كبير.
أما المرشح الغريب فقد حصل على أقل من أربعين صوتا. أحس بأن يدا خفية ذبحته من الوريد إلى الوريد، واغتالت كل ما كان يحلم به ليلة أمس.
ظل الكثير من الناس في هذه الحقبة، يشكون في نزاهة الانتخابات. ورغم ذلك يذهبون إلى مكاتب التصويت إما عن طيب خاطر، أو بضغط من أعوان السلطة. البعض منهم سيعلم فيما بعد، بأن جهات عليا كانت تُفصّل وتَخيط الخرائط بتفاوض مع القادة الكبار. أما المرشحون في الأسفل فكان دورهم يقتصر على تسخين الطعارج*، وإيهام الهيئة الناخبة بأهمية المسلسل الديمقراطي. واعتبر الجميع ذلك سرا من أسرار الدولة.
في اليوم الموالي جاء المرشح المهزوم رفقة خطيبته إلى المحلبة متذمرا. عاتب المجموعة على أنها خدعته، ولم تشارك في التصويت أصلا. يبدو أنه أجبر خطيبته على مصاحبته، لأنها وقفت صامتة، ولم تنبس بكلمة.
أجابه عبد السلام بهدوء: نحن لم نتفق معك على التصويت لصالحك.
تدخل عبد الرحيم موضحا أكثر:
ـ اتفقنا معك على القيام بحملة انتخابية. تم تعليق صورك. جاب معك الأطفال أزقة أحياء الدائرة عدة مرات. نظمنا لك تجمعين مع السكان.
أضاف مصطفى:
ـ لم نتفق على تمكينك من الفوز بمقعد الدائرة. هذا يتطلب مبلغا كبيرا يفوق خمسة اضعاف المبلغ الذي قدمته.
استمر في المساومة من أجل استرجاع الشيك أسبوعا بالكامل. انتهت المفاوضات بالتنازل عن ألفي درهم تقديرا لتدخل حماته وابنتها، وتقديم شيك جديد بقيمة ثمانية آلاف درهم.
عشية سحب الشيك اجتمع أبناء الحي من الشباب في المحلبة. كان قد حصل اتفاق قبل ذلك على أداء مبلغ خمسة آلاف درهم لإخراج عزوز من السجن بسبب تقديم شيكات بدون رصيد.
ظل النقاش يدور حول المبلغ المتبقي. ثلاثة آلاف درهم في بداية ثمانينيات القرن الماضي، تعد مبلغا كبيرا، يضاهي أجرة موظفين صغيرين أو ثلاثة. رسا الاتفاق على المساهمة به في حفل زفاف أحد أبناء الحي الذين توظفوا حديثا. وكان سيعقد قرانه على بعد شهر تقريبا. وبما أن الجميع سيحضر العرس فأجمل هدية يمكن تقديمها له، هي المساهمة بهذا المبلغ. كما تم الاتفاق على إقامة الحفل في منزل العمدة.
أغلب المرشحين الغرباء عن الأحياء يظهرون في زمن الحملات الانتخابية، يقدمون وعودا كاذبة، وقليلا من الحلوى والطعام، ثم يختفون بعد إعلان النتائج، سواء كانوا من الفائزين أو الخاسرين.
بدا لمصطفى أن وضع هؤلاء المرشحين يشبه وضع الشبان الذين كانوا يتوافدون على التسجيل في نادي الكوكب المراكشي. وقد أشرف آنذاك على انتقائهم وتدريبهم أحد قدماء لاعبي الفريق.
يبدأ العملية باختبار بسيط، وهو أن يقذف الكرة، ويطلب من اللاعب الشاب استقبالها، وترويضها أمامه. فإذا نجح قدم له نسخة من بذلة الفريق لارتدائها، والانضمام إلى التداريب. أما إذا فشل، سأله عن لون السماء. يرفع المسكين بصره، ويقول بأنها زرقاء، فيطلب منه أن يذهب للاستحمام بها.
المعجم :
ـ محلبة: متجر يشبه مطعم صغير، يقدم وجبات سريعة مثل عصير التفاح او اللوز او الموز بالحليب، مع خبز بالجبن. وقد يعرض أيضا الشاي والقهوة ورقائق الخبز بالزبدة والعسل.
ـ الفندق : بفتح الفاء هو مكان واسع يحتوي على العديد من الغرف، ويتكون من طابقين وحوش كبير في الوسط. كانت تقيد فيه الدواب، بالإضافة إلى مرحاض وأنبوب ماء مشتركين. وقد تحول إلى ورشة للصناعة التقليدية في النهار وفندق للمبيت في الليل.
ـ الحريرة : حساء شعبي يعد وجبة رئيسية في فطور شهر رمضان.
ـ تسخين الطعارج: الطعريجة : طبلة صغيرة، وتعد آلة إيقاع موسيقية، أصلها مغربي، تصنع من الطين والجلد. ولكي يصدر عن جلدها صوت قوي أثناء الضرب عليه بالأصابع لا بد من تسخينها فوق نار دافئة.
مراكش 25 ماي 2023
————
الخابية والغُرّاف؟
حاميد اليوسفي
قصة قصيرة
يقف الشبان كل مساء بجانب مقهى الحي، ينتظرون غروب الشمس. كل يوم في فصل الصيف يمر أحرّ من سابقه. لا حديث لمن لا عمل، ولا بحر له الا عن ارتفاع درجات الحرارة. الجو حامض، والعطالة قاتلة. الأيام تمر قاسية وبطيئة مثل الآلة التي تضغط على الزفت، وتسويه مع الأرض. البعض يجلس، ويُسند ظهره على الحائط، ويتابع ما يشد انتباهه من فتيات ونساء يسرن في الزقاق، خاصة من يلبسن الجلباب والشبشب، ويتغنجن في مشيتهن مثل البط أو الحمام.
دخلت امرأة تجاوزت الأربعين دكان سليم مصلح أجهزة التلفاز، وبائع الأسطوانات.
سليم بنى سدة مفروشة يصعد إليها من أسفل عبر سُلّم من خشب. ما يستغرب له من يعرفه حق المعرفة، هو أن يستقبل نساء في دكانه لغرض لا علاقة له بمهنته. الرجل معروف عنه هوسه بالغلمان، أو أن أنفه أعوج بتعبير أهل المدينة القديمة.
وضع ميثاقا اعتباطيا مع أبناء الحي. يُسمعهم ما يطلبونه من أغاني بمكبر الصوت، مقابل احترام زبائنه من الغلمان.
قال علال لشبان يجلسون بجانبه:
ـ سبحان الله! هذه المرأة التي دخلت دكان سليم، جسدها جفّ من الماء، ويبست عيدانها، وسليم لا يحب النساء؟!
رد عليه ولد العطار:
ـ أعرف أمها. تزور دكان والدي من حين لآخر، تقتني الكثير من الأعشاب والبخور. تعتقد المسكينة بأن إحداهن سحرت لابنتها بدافع الحسد أو الانتقام، فتأخر عنها قطار الزواج. وهي تسكن في الحي المجاور، وتقول بأن ابنتها معلمة تشتغل بمنطقة تامصلوحت.
كل مساء تمر من الحي، وتدخل دكان سليم. الشيطان لا بد أنه فك عقدتها من غير بخور ولا حرز*. لم يكد ينتهي فصل الصيف حتى ذاع في الحي خبر زواجها من عليوة السياق*. عليوة المسكين يشتغل طيابا بالحمام طيلة السنة. ويعمل (رشايشي)* مع الطبالة في المواسم والأعراس.
الحمقاء أفتى عليها سليم والغلمان الذين يزورون دكانه بين الفينة والأخرى، أن تراسل النيابة الإقليمية، وتطلب الانتقال إلى مدينة مراكش قصد الالتحاق بزوجها. وهو ما فعلته.
لم ينجز عليوة شهادة العمل حتى رأى النجوم بالنهار. ولولا تدخل سليم وأصدقائه لما ظفر بها.
بعد أيام انتشر الخبر بين الموظفين في النيابة مثل النكتة، وهو ما جعلهم يتغامزون بتناقله بينهم حتى وصل إلى النائب الإقليمي. عندما اطلع النائب على الطلب استدعى المعلمة وزوجها في بداية الموسم الدراسي.
مكانة النائب في بداية الثمانينات من القرن الماضي لا تقل قيمة عن مكانة عامل الإقليم. وزيارة النيابة من طرف عليوة أو حتى زوجته المعلمة لم تكن بالأمر السهل في ذلك الوقت. أحسا برهبة وخوف من المقابلة. وكانا يطلبان من الله أن تمر بخير، ويجمع النائب شملهما.
انتظرا حوالي ساعة ونصف قبل أن يأمرهما الكاتب بالدخول. وجدا المكتب كبيرا وفارغا من سيده. وقفا متوجسين، وكأنهما ينتظران عبور الصراط المستقيم، والوقت ولد الحرام يمر مثل السلحفاة. فجأة خرج النائب من باب داخلي، وتقدم للجلوس في مكتبه. أخذ قلما، وشرع يلعب به بين أصابعه، ثم رفع بصره إليهما سائلا ماذا يريدان.
فتحت المعلمة حقيبتها، وأخرجت ورقة، وقدمتها له بيد ترتعش من شدة الخوف.
تفحّصها ثم سأل عليوة ماذا يعمل، فأجاب:
ـ طياب* نْعَماس*!
رد عليه النائب بقسوة:
ـ ألا توجد حمامات بقرية تمصلوحت؟
لاذ بالصمت، فأعاد عليه السؤال:
تلعثم عليوة، أجاب هذه المرة، وفرائصه ترتعد:
ـ موجودة (نْعَماس)*!؟
ثم نظر إلى المعلمة، وخاطبها بنفس القسوة:
ـ من يجب أن ينتقل عند الآخر؟ الخابية أم الغراف*؟!
بقيت صامتة للحظة، ثم أجابت بارتباك:
ـ الغراف أسيدي!
المعجم :
ـ الحرز: ورقة يكتب فيها المشعوذون بعض الطلاسم ويطوونها في كيس صغير من جلد أو نحاس، ويُشد بخيط في العنف مثل العقد.
ـ رشايشي: يغني مع المجموعة، ويعزف مثلهم بضرب كفيه على بعض.
ـ السيّاق أو الطيّاب : عامل بالحمام يحك، ويغسل للزبائن مقابل أجر، يقل أو يكثر حسب وضع الزبون وكرمه.
ـ نعماس : نعم سيدي باللهجة المحلية.
ـ الغُرّاف: الكأس
مراكش 02 يونيو 2023
—————-
الكأس المكسورة
1
تناول عمر يوم عطلته ملعقتين كبيرتين من مخدر (المعجون)*، وذهب إلى السينما صحبة نرجس.
تركب نرجس دراجة (ميني)* تخفي إعاقة في رجلها اليسرى. تقف بعيدة عن المقهى ببضعة أمتار. عندما يراها بعض أبناء الحي الواقفين بالجوار، يلتفتون يمينا وشمالا بحثا عن عمر. يعرفون مسبقا بأن اللعين سيظهر لا محالة، ولو من تحت الأرض. يقف معها مرتين أو ثلاث يتحدثان مثل عاشقين لمدة ساعة تقريبا، قبل أن تستجيب للذهاب معه إلى السينما يوم الجمعة.
نرجس فتاة جميلة، ذات وجه صغير مدور مثل القمر، وعينين واسعتين. في المساء يوصلها قريبا من الحي الذي تسكنه، ويعود بمفرده. عيناه شديدتا الاحمرار، ينظر بخجل إلى الناس في الزقاق. ربما يفعل ذلك بدافع تأثير (المعجون).
يدخل إلى المقهى، ويجلس مع ثلة من الأصدقاء. يسأله إبراهيم، وكأنه يريد أن يفتح شهيته للحديث:
ـ قضيت وقتا ممتعا في السينما؟ لا بد أنك قبلتها في الظلام!؟ وعبثت بشعرها الجميل أيها الشيطان!؟
لم يجبه. بقي فقط ينظر إليه، ويبتسم كأنه يوافقه الرأي.
التفت ناحيته عبد الله المرشد السياحي المزور*، وقال مبتسما:
ـ نهدا صديقتك مثل رمانتين نضجتا حتى تشققت قشرتهما. أنت محظوظ يا عمر! لست مثل هؤلاء المكبوتين الذين لم يسبق لهم الذهاب مع فتاة إلى السينما
طلب قطعة خبز محشوة بالبيض والجبن، وفنجان قهوة بالحليب، وأشار للنادل بأن يُكثر من الكمون، ويقلل من الملح، ويناوله كأس ماء بارد.
تناول الوجبة، وهو يستمع لتخيلاتهم عما فعله مع نرجس في السينما.
عندما انتهى من الأكل، نادى على بائع (الديطاي)*، وطلب سيجارة (مارلبورو).
أشعل إبراهيم عود ثقاب، وقربه من السيجارة. اتكأ عمر، وأخذ نفسا طويلا، ثم نفث سحابة دخان كثيفة أمامه، وقال بصوت منخفض:
ـ كلامكم جميل، لكنه غير واقعي. علاقتي بأي فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة مثل كأس، نصفه مملوء، ونصفه فارغ.
نعم أنا محظوظ لأني كل يوم جمعة أقضي حوالي ساعتين أو ثلاث مع فتاة جميلة في السينما، نتبادل الهمس والقبل، وهذا هو النصف المملوء من الكأس. ولكن حظي أيضا سيئ. عندما تلمس يدي فخد نرجس الأيسر، لا تلمس غير الحديد البارد، فأحس بخوف رهيب، وأتخيل وأنا مسطول، ِرجلا ضخمة تسقط من سماء مظلمة فوق رأسي، فأسحب يدي، وأتمنى أن ينتهي الفيلم بسرعة، ونخرج من السينما. أسبوعان أو ثلاثة وأضطر إلى إنهاء العلاقة.
قال إبراهيم وهو يغمز عبد الله:
ـ عمر أصبح غاوي الفتيات من ذوي الاحتياجات الخاصة، وينتقي أجملهن بعناية.
رد عمر بصوت يمزج بين الفخر والحسرة:
ـ نعم في البداية أشعر بلذة وسعادة، ويدي تتحسس نهديها، أو تلعب في شعرها، أو عندما تضع شفتاها على عنقي، أو تلعب أناملها بشعيرات صدري، ونستسلم لبعضنا في النهاية، كما يفعل بطلا الفيلم في السينما، وتنام على كتفي. لكن أشعر بالرعب عندما أتذكر بأني أجلس في الظلام مع فتاة بساق من حديد بارد. وعندما أتخلى عنها ينتابني إحساس بألم فظيع، وأخشى بألا تخرج عاقبتي بخير. ربما سأدفع يوما ثمن هذا الجرم الذي ابتليت باقترافه، وهذا هو النصف الفارغ من الكأس.
نفث سحابة كثيفة من الدخان وقال مداعبا ومغيرا الموضوع:
ـ بكم هزمت البارصا الريال؟
لم يجب أحد. انصرف عبد الله إلى طاولة لعب الورق، وبقي إبراهيم يحملق في شاشة التلفزيون.
جاءت نرجس ثلاث مرات في الأسبوع التالي. وقفت على بعد عشرة أمتار من المقهى، تنتظر عمر. يمضي الوقت بطيئا. تمر ساعة قاسية. وعلى غير العادة لا يظهر عمر. تعود إلى البيت، والألم يعتصر قلبها. لا تريد أن تصدق بأن عمر ذاب مثل فص ملح، واختفى إلى الأبد. تبكي في صمت. تتضرع إلى الله، وتسأل بمرارة، لماذا لم تمنحها السماء حناحين أبيضين، مثل جناحي ملاك تُحلق بهما بين الطيور؟ ولماذا لا ينظر الناس إلا إلى النصف الفارغ من الكأس؟
2
لا يدري كيف تراقص شبح نرجس أمام عينيه. يحدث في بعض الأحيان أن يتكلم همسا مع بعض شخصياته، ويُصغي إليها بإمعان عندما تتحدث معه. وقد يبتسم لبعضها، ويعقد حاجبيه، وهو ينظر إلى بعضها الآخر. وقد تشاجر مرة مع شبح رب عمل جشع، يُمعن بدون حياء في السرقة والكذب، حتى شك بأنه ربما أصابه مسّ. وفكّر في أن يسأل بعض الكتاب: هل يحدث معهم ما يحدث له؟ فخشي أن يسخروا منه. والآن ظهر شبح نرجس أمامه، من غير أن تتكئ على دراجة (ميني)، أو تقف على بعد عشرة أمتار من مقهى الحي، وهي تنتظر أن يظهر عمر، وتذهب معه إلى السينما، فتوقّف عن الكتابة.
نظرت إليه بملامح غاضبة ، لكنها خاطبته بصوت هادئ:
ـ لا أتفق معك حول المصير الذي رسمته لي فيما كتبته، وأكره الشفقة.
ثم أضافت بنبرة يغلب عليها مزيج من الحزن والاحتجاج:
ـ من قال للراوي إن إحدى ساقي من حديد؟ وإن صديقي عندما وضع يده عليها، وجدها باردة مثل الثلج؟ ومن منحه الحق في أن يتجسس علينا؟ أنا لا أحب أن يقدمني كواحدة من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولا أحب أن أتعرف على شاب فقط من أجل أن يعانقني في ظلام قاعة السينما، ثم يتخلى عني عندما نخرج إلى الشارع، لأثير شفقة القراء. لا، ليس هذا ما أريده.
ابتسم بدهشة، ورد بهدوء:
ـ وماذا تريدين يا نرجس؟
هزت ردفها الأيسر، وفتحت ذراعيها أمام صدرها، ثم أجابت بحركة مسرحية، وهي تبتسم:
ـ أريد أن يقدمني الراوي برجلين من لحم ودم. أليس الراوي صديق يعمل معك؟ أطلب منه أن يطلق العنان لخياله، أو اعمل له نظارات بثلاث زجاجات ليُبصر جيدا؟ وجهي مثل القمر، فأنا يمكن أن أمشي أحسن من أي فتاة سوية، وألتفت متوجسة مثل أية غزالة، أنتقي أجمل العطور، وأختار ألوانا ساحرة لملابسي، وأرقص هكذا!
ثم جرت في ساحة خالية، يرتفع جسدها، وينخفض، تنظر إلى أعلى، وتقف على أصابع رجليها، ويداها ممدودتان مثل جناحين، كأنها فراشة تؤدي رقصة باليه.
استوت في وقفتها، ثم أضافت:
ـ تخليت عن دراجة (الميني)، ولم تعد ساقي تؤلمني.
همس الراوي للكاتب في الخفاء دون أن تحس نرجس بذلك لأنها كانت مشغولة بتسوية كسوتها:
ـ ثمة شيء غريب يحدث! ولا أعرف ما هو؟ نرجس تكون الآن قد تجاوزت الستين سنة. وإذا ما تزوجت، وما زالت على قيد الحياة، فسيكون لها أبناء، وربما أحفاد، أو أنها رحلت عن هذا العالم، وتنام اليوم في قبر بارد. وقد يكون ما تراه مجرد خيال تهيأ لك بأنه يشبه نرجس!
ابتعد شبح نرجس قليلا، ثم استدارت ناحيته، وهي تهدده:
ـ سأرفع قضية ضد الراوي. قدم لك معلومات ليست كلها دقيقة، وكان عليه، قبل أن تكتب وتنشر، أن يتصل بي، ويأخذ رأيي في الموضوع. الحقيقة لها وجوه معددة تناقض بعضها أحيانا. عمر ليس شابا سيئا كما جعل الراوي القراء يعتقدون. أحببت عمر لأنه إنسان لطيف عشت معه لحظات جميلة، ولو لفترة محدودة. السعادة مثل قطعة سكر لا تحلو إلا عندما تذوب. وعندما ذابت قطعة السكر افترقنا، لأنه كان يجب أن نفترق، لنحلم بما لم نفعله، أو نحققه ونحن في أحضان بعض. أليس هذا هو الحب؟
نظر إليها مليا حتى يتأكد من أنها هي نرجس، التي هجرها عمر بسبب النصف الفارغ من الكأس، كما أخبره الراوي، ثم قال:
ـ ربما أخطأ أحدهم التقدير! مجتمع بكامله أصبح بعضه أعرج، وبعضه أعمى، وبعضه أبكم، وبعضه أحمق. كلنا نعاني من إعاقة ما يا نرجس!
ووضع يده على صدغه مشيرا إلى عقله، ثم أضاف:
ـ لكن أخطر إعاقة نُعاني منها هنا. وهذه هي الكأس المكسورة!
المعجم :
ـ (المعجون) مخدر يصنع من القنب الهندي الذي يطبخ مع السمن ويخلط بالمكسرات ودقيق المحمر و(رأس الحانوت) وهو عبارة عن مجموعة من التوابل التي تسخن الجسم.
ـ دراجة (ميني): دراجة قصيرة ظهرت كموضة في مغرب السبعينات والثمانينات من القرن الماضي .
ـ المرشد السياحي المزور : المرشد الذي لا يتوفر على رخصة قانونية.
ـ بائع (الديطاي): بائع السجائر بالتقسيط.
———–
الفولة والكيّال- قصة قصيرة بقلم: سي حاميد اليوسفي/ المغرب
كل شيء جري معك بشكل سلس. أحببت والديك وإخوتك مثل أية فتاة وُلدت في أسرة متوسطة. درست ونجحت وعملت، واستقللت بحياتك الخاصة. اقتنيت شقة، واشتريت سيارة. لم يعد ينقصك سوى الزوج المصون؟! هذه مهمتك أنت. العمر يجري، ومعدل سن الزواج في بلدك ارتفع إلى ما فوق الثلاثين سنة. والضغط النفسي يرتفع في محيطك، لكن العريس مازال في علم الغيب.
تقدم الأول فقلت غير مناسب. اختلاف في طريقة التفكير، وأسلوب الحياة، لكن العمر يجري.
الثاني يكبرك بأكثر من عشر سنوات. طلب منك ترك العمل، والجلوس في البيت. أحسست كأنه يريد أن يقطع رجليك من الركبة. رفضت العرض، والضغط يزداد. قالوا الزواج قسمة ونصيب.
تقدم الثالث بدا وسيما. العرسان لا يدقون الباب كل يوم. بين العريس والعريس قد يطول الوقت سنتين أو ثلاث أو أكثر. ظهر في البداية كممثل بارع. الحمقاء لولا الضغط النفسي لكشفته في وقت مبكر. الرجل لا يكف في حديثه عن البزنس. من يستمع إليه، ولا يعرفه يعتقد بأنه رجل أعمال كبير.
للتعرف عليه عن قرب، قضيت معه شهرين. أصبحت قاب قوسين من السقوط في حباله. أعمتك الحاجة إلى زوج. عليك أن تصطادي فارس أحلامك قبل فوات الأوان، وإلا داسك قطار العنوسة.
هذا العالم موحش ومخيف. بعد الأربعين عليك أن تقبلي بأي طارق جديد حتى ولو كان في سن والدك، أو موتي وحيدة في جُحرك مثل فأرة جرباء؟! أو اشتري قطا واعتني به. اختاري له اسما جميلا. داعبيه.. العبي معه.. تفتحين الباب، تجدينه أمامك، ينتظر بشوق، يتمسح بذيل ثوبك. هو أيضا وحيد انقطعت صلته بعالم القطط.
دعي أوروبا جانبا. أنت ولدت في بلد العجائب، ورضعت خير وشر بداوته. كل مظاهر التقدم والتحضر التي ترين مجرد قشور، تخفي الحقيقة المرعبة. عليك أن تعثري على زوج. لا يمكن أن تنامي وحدك الحياة كلها. سيأتي عليك يوم يطول فيه الليل حتى يخنقك. تتقلبين في الفراش. تكرهين وضع رأسك على الوسادة. تأتيك الوساوس من الجهات الأربع. تمدين ذراعك على الجانب الفارغ من السرير. لا أحد بجانبك. وحدها الريح تعوي في الخارج. الله خلق الرجل والمرأة في أمريكا واليابان وبغداد ومراكش وسوس ليؤنسا بعضهما. عومي ببحرك. لا يصلح أن تتصرفي كمومس تقدم جسدها في كل مرة لمن يغمزها، ويوهمها بأنها إنسانة رائعة تقدم خدمة جليلة للبشرية، وفي الصباح يدير عنها وجهه، ويرتدي سرواله ويختفي.
الناس لا ترحم. سيتحدثون خلف ظهرك خاصة بنات جنسك. بعضهن ستقول:
ـ يشويني فيها. من سيطلب يدها ؟! أنظري إلى وجهها! كيف جف من الماء، واحترق!
المجتمع قاس وظالم. الناس لا يتوانون عن القبول بالأمر الواقع. سيقولون لكل فولة كيال. هل تقبلين أن تكوني فولة معروضة في السوق، تنتظر من سيقدم على شرائها وطحنها، ثم طبخها وأكلها؟!
قضيت معه شهرين. بدأت تكتشفين بعض البوادر الأولى لعلامات النقص في الرجولة. يقود سيارتك ولد الكلب، ولا يؤدي ثمن البنزين. كان عليك أن توقفيه، وتقودين السيارة بنفسك، وإذا لم يعجبه الحال تدفعينه من الباب. يختار المطعم الذي ستتناولان فيه وجبة العشاء، ويدفعك بالفن لأداء الثمن. افتحي عقلك.. التقطي الإشارة.. لا تتغابي!
قلت لنفسك لم يعد هناك مجال للتراجع. إذا أضعت هذه الفرصة، فالضغط النفسي سيشتد عليك أكثر. أحيانا تكتشفين بأنك أنت أيضا طماعة، تشبهينه. تريدين زوجا وسيما، وبمظهر لائق أمام الأسرة الصغيرة والعائلة والصديقات، وهو يمثل هذا الدور بإتقان، وكأنه نجم في مسلسل تركي. كل صديقاتك يمدحنه، ويطلبن منك أن تعضي عليه بنواجدك. لا يمكنك العودة إلى الوراء. ماذا ستقول عنك أمك وعماتك وخالاتك والجيران؟
لا بد أن تصبري وتتحملي. اكتمي غيضك. قودي المركبة نحو العرس. كل شيء سيسير على ما يرام. والدك سيقيم لك عرسا ولا في الأحلام. كل الفتيات اللواتي سيحضرن العرس، سيتمنين لو حظين بنفس اللحظة.
ما أجمل أن تتربع العروس مثل ملكة فوق العمارية. يطوفون بها في الباحة وسط الزغاريد والأهازيج الشعبية. تجلسين إلى جانب العريس في منصة عالية. يُلبسك الخاتم، ويُشربك الحليب، ويقتسم معك الثمرة، ويُقبّل خدك. تأخذين الصور مع صديقاتك والأهل والأحباب. وقبل الذهاب إلى الفندق ترمي لهن باقة الورد. المحظوظة من تضع يدها على الورد قبل غيرها. بشارة خير بأن فارس أحلامها قادم في الطريق. وفي الصباح تجلسان في الشرفة تتناولان الفطور، وتفتحان عُلب الهدايا والتذكارات. لحظات قصيرة وجميلة مثل السحر تمر كالبرق. ولا تحدث إلا مرة واحدة في العمر.
سينتهي أسبوع قطف المشمش، وتظهر الحقيقة عارية مثلك. ستقولين ولد الكلب كان يمثل؟! ها هو الآن سيبتزك. في كل يوم سيخترع كذبة، ويسرق من راتبك. في الحقيقة هو لا يسرق. أنت التي ستفتحين الحقيبة، وتمدين له ما يطلب. بعد ذلك سيطمع أكثر، ويطلب منك أن تقترضي له باسمك مبلغا كبيرا من والدك. ولد الحرام سيُقبّل جبينك. والطمع لن يتوقف. سيدفعك إلى بيع الشقة والسيارة، ويسرق العقد وخاتم الزواج؟! ضعي عينيك في عينيه!؟ العيون تفضح أصحابها!
حتى الآن أنت لم تعملي في القدر ما يُحرق. عليك أن توقفي المسلسل قبل فوات الأوان. هذه حياتك الخاصة. أنت الوحيدة المسؤولة عما سيحصل لك. ستذوقين العذاب الأليم وحدك. ماذا سيفعل الأهل؟ سيتأسفون ويتألم الأقربون، ويقولون بأنك لم تحسني الاختيار. وإذا تأزمت حالتك أكثر، سيعرضونك على طبيب نفسي.
أنظري إلى نفسك في المِرآة.. أخبريهم بالحقيقة الآن.. لا تنسي بأنك لا زلت قريبة من المرفأ.. يمكنك النزول إلى المركب الصغير، قبل أن تزداد الثقوب اتساعا، وتغرق السفينة في أعماق المحيط.
مراكش 08 يونيو 2023