ذات يوم فاجأني أحد الأصدقاء بسؤال غريب، لم أكن أتوقع أن أسمعه يوما ما، وخصوصا من صديقي المعروف بقوة شخصيته ورزانته واتزانه وتعففه عن استخدام ألفاظ غير محسوبة، أو أسئلة تقود نحو الحرج والخجل.
سألني: ما الفرق بين ما أنت عليه الآن، وبين زمن كنت فيه طفلا؟
قلت:
بين أعطاف الطفولة كنت أملك حريتي وبراءتي، وكنت أملك كَمًّا من المشاعر المصقولة المهذبة الدائرة في رَحِمِ الحُلم الكرزي، وكنت أتنقل من مكان إلى مكان كدوري فرح سعيد، فالسهول الممتدة موطن رأسي الصغير، والجبال المحتضنة السهول مرفأ صدري ومسكن قلبي، والآفاق كلها ملك يميني وقبضتي، والشارع الفاصل بين مخيمي وقرية “ذنّابه”، الشارع الهادئ الساكن الرائع، المحاط بالبيارات المتكاتفة الأشجار، المُسَوَّر بغابات الزيتون، المتوّج بأزهار الربيع المتفجر كبركان يقذف روائعَ وكُتَلاً من تناسق اللون مع الطبيعة مع الأرض، مع العين، مع النفس، مع القلب، مع الروح، ذلك الشارع الذي نبتتْ براعمُ طفولتي على أرضه وصخره وبلاطه وترابه، ذلك الشارع الذي أسميته منذ الطفولة “شارع الصمت” كان، كما كنت أنا، على موعد مع الانقلاب والتغير والتبدل، كنا على موعد لقاء ذاتَيْنا، لقاء الغريب المجهول للغريب المجهول.
فأنا اليوم، لستُ ذاكَ الطفلَ المملوءَ بالحيوية والنشاط والجذل، لست ذاك الطفل الذي كان يسلّم نفسه للفراش ليغط بنوم عميق عميق، لست ذاك الطفل الذي كان يجوب الجبال والسهول للبحث عن السلاحف المقلوبة على ظهرها ليعيدها إلى وضعها الطبيعي، لست ذاك الطفل الذي كانت قدماه تغوصان بالوحل، وجسده تمزقه رياح الشتاء الباردة، ويغرق في بحر من مياه الشتاء، وهو يقطع المسافات بحثا عن غصن نرجس ليعود به متهللا إلى أُمٍّ أضناها الفقر والجوع والتهجير والتشتيت، ليقبل كفَّها وهو يرتجف من قَـرِّ البرد، كفها الطاهر اللامع بالحنان المغدق علي وعلى طفولة سوف تنتهي لتبدأ رحلة الألم والسجن والعذاب والقهر، لا، لم أعد كذلك، ولا أستطيع أن أجزم ولو لهُنَيْهَةٍ واحدةٍ بوجود صِلَةٍ بين ما أنا عليه الآن، وبين ما كان عليه ذلك الطفل.
أتذكر “ماجد غانم”، ذلك الطفل الذي غرق في بركة سباحة “الحاج قاسم” على طريق قرية “ارتاح”، ذلك الطفل أخذ مني الكثير يوم أنزلناه القبر، قطع من مساحات طفولتي ما يكفي لأتحول إلى كَمٍّ من أَلَمٍ مكبوت ينتظر الانفجار، بكيته بحرقة، وبكته السهول والوديان والجبال والآفاق التي عشت معه في رَحِمِها الواسع الفضفاض، وحين قضى، قضى كَمٌّ من طفولتي معه.
أتذكر “تيسير فضة”، ذلك الجِنّي الصغير، الشقي إلى حد الشقاوة، هل تذكر رأسه الموسوم بالندوب والخطوط من أثر الحجارة والحديد الذي كان يضرب بهما من بقية الأطفال؟ أتذكر كيف كان، ولوحده، يشغل المدرسة والأساتذة، بل المدينة كلها إلى حد الحَنَقِ والاختناق؟ ثم كيف توّج كل شقاوته وعَفْرَتَتِه بحرق نفسه وسط المدينة.
النار التي أكلت “تيسير” أكلت الكثير من طفولتي يومها، بل ودفعت ملامحي نحو الشباب والبلوغ، فتصادمت الطفولة مع الشباب، فارْتَجَّ كُلُّ كياني، وانصهرت بذاتي أشياء لم أكن أعرف عنها أو عن طبيعتها ولو قليل القليل، تناقض العمر مع الحُلم، وتناقض العقل مع النفس، فانفلتتْ الأشياء مني، انفلاتَ سيلٍ عارِمٍ من سد منهار.
هو الانهيار يا صديقي، انهيار الطفولة أمام الأيام التي كان عليها أن تنتظر ردحا من زمن حتى أعرف طفولتي، وتعرفني أيامُ الطفولة.
قال:
لم أسألك لأَنْكَأَ الجِراحَ، فعذرا وألفَ عذر، ولكني أوَدُّ أن أسألك عن شيء ما، شيء قد يستثير دهشتك واستغرابك، ولكن بي جموح لأن أعرف كيف تعاملت معه، جموحَ خَيْلٍ فقدتْ صوابها، بل هيجانَ قطيعٍ من الثيران يُثير زوابعَ الغبار وهو يدور ويركض دون سبب ودون وجهة.
قلت:
اسأل، فقد أثرت شوقي وتلهفي.
قال:
سؤالي غريب بعض الشيء، لك الحق المطلق بالإجابة أو الصمت والرفض، ولكن تذكّر بأني سأصدقك القول إن أعدتَ السؤال علي، سأصدقك إن أجبت أم لم تجب، ولكن التمس لي أعذارا إذا فوجئت بالسؤال والسائل.
قلت:
اِسأل ما تريد، فصبري محدود، وطاقتي أصغر من أن تسترسل في الأخذ والرد، اِقذفْ سؤالك ولا تنتظر.
قال:
كيف أنت والمرايا؟ كيف حين كنت طفلا؟ وكيف الآن؟ وما الذي تعنيه لك المرايا؟ وهل حين تحدق بالمرآة، ترى تشابها بين من هو خارج المرآة وبين من هو داخلها؟
وصَمتَ؟ ووَجَمْتُ، حدَّقتُ في وجهه، بدأتْ الألوانُ تتداخل وتتشابك، وأخذَ العَرَقُ يَتَفَصَّدُ من وجنتيه وجبهته، غارتْ عيناه نحو الأسفل عميقا واختفى لونهما، وخُيِّلَ إليَّ بأن الشَّعْر بدأ ينبت على كفيه. تراجعت للخلف بتؤدة، أحسست بالعري والانكشاف والخجل والإحراج، اِتكأتُ على الهواء، على اللاشيء، على الفضاء المفتوح، وتراءتْ لي عذريتي وهي تنتهك.
قلت:
مرايا الطفولة، كالطفولة ذاتها، بريئة واضحة، لا تخشى سرا، ولا تخجل من حركة، فما أكثر الأيام التي وقفت فيها أمام الشخص الساكن في المرآة، لأفتح فمي له، من الجانب الأيسر مرة، ومن الجانب الأيمن مرة أخرى، وكم مددت لساني سخرية وهزءً منه، وكم من مرة قبّلته، وكم من مرة مرّغت وجهه بلعابي، كنت أفعل ذلك وأنا وحيد، وكنت أفعله أمام أهلي وأمام الناس، لم أتورع يوما عن كشف نفسي ومكنونات ذاتي أمام كل أصدقائي، وحين كانت أمي تأتي مهرولة وهي تصرخ بأعلى صوتها “يما اسم الله عليك يا حبيبي، إياك أن تعيدها مرة أخرى، دير بالك يا حبيبي من اللمسة، اللي بيعمل هيك بلتمس، هاي كلها وساوس الجن”، ثم تبدأ بتلاوة القرآن. كنت يومَها أضحك في سري، وكنت أيضا أشعر بالخوف، فأنسل للمرآة من جديد لأتأكد أن فمي وأنفي وبقية أعضائي ما زالت سليمة من اللمسة والاعوجاج أم لا؟
وأحيانا كنت أتعرى أمام مرآة الخزانة الطويلة، عريا كاملا، أتفقد أجزاء جسدي وأعضائي، وأقارنها بجسد وأعضاء الآخر الموجود داخل المرآة، كنت أكتشف فروقا هائلة، فيميني هو يساره، وأصابعي أصغر حجما من أصابعه، حتى لون الجلد كان فيه اختلاف واضح، وحين كنت أفكر مليا قبل أن ألمس جزءا من جسدي، كان هو يتحرك بسرعة مفرطة ودون أن يعلم بماذا أفكر ليلمس ذلك الجزء في ذات اللحظة التي ألمسه أنا.
كنتُ أشعر بالغيرة منه، بل وكنت أحسده في أحايين كثيرة، لأني كنت أشعر بضآلتي أمامه، فهو يتمتع بمقدرة هائلة في معرفة خفايا نفسي وعقلي، ويستطيع الاختفاء والظهور بطريقة سحرية تمنحه خصوصية الإفلات من العقاب من صفعات أمي وأبي حين كانا يجدانني مُعَرًّى أمامَه، لذلك ثارت نقمتي عليه أكثر من مرة، فكسرت المرايا، مرآة خلف الأخرى، في محاولة للانتصار عليه، لكنه كان يفاجئني بعودته المظفرة وهزيمتي المطلقة.
كنتُ أوجّهُ له سيلا من الأسئلة المتلاحقة في محاولة لإرهاقه وإتعابه، لكنه كان يتمتع بحاسة المرايا، تلك الحاسة القادرة على تعريتنا في كل آن، كان يعلم بماذا أفكر، وكيف أخطط، لذلك كان سيل الأسئلة يرد إلي بقوة دفع هائلة، وما هي إلا دقائق حتى أعلنَ استسلامي وهزيمتي. من هنا، من هنا يا صديقي نشأ غضبي وحقدي على المرايا.
وكنتُ كلما تقدم العمر، كلما ازددتُ غضبا وحقدا، لا لشيء، سوى أنني أعلم تماما بأن المرايا تنقل الحقيقة كما هي، دون تزوير أو تجميل، ولأنها تستطيع دائما أن تعرّيك من إهابِ النفاق والمجاملة، تستطيع أن تناديك للمثول بين يديها لتقديم اعترافات لا تجرؤ على تقديمها إلا أمامها هي.
وكَبِرْتُ، أصبحتُ راشدا، ولكني أَصْدُقُكَ القول، إنني ما زلت حتى هذا اليوم أقف لأمد لساني للشخص الآخر، وما زلت أتفحص وجهي أمامه، قد ينكر كثير من الناس هذه الحقيقة، تعاليا أو خجلا، لكن الحقيقة التي لا يمكن تصديقها أبدا، هو أن يتخلص الناس من سحر الاعتراف أمام المرايا.
المرايا يا صديقي هي النفس، النفس العصية على الاكتشاف والعلم، النفس الموزعة بين ملايين الملايين من المشاعر المبثوثة بالغور العميق للإنسان، بل وللكائنات الحية كلها، فالقط الذي يقفز مذعورا باحثا عن شبيهه بالمرآة، هو في الحقيقة المطلقة، نفس تبحث عن نفسها، وإلْفٌ يبحث عن إلْفِهِ، وذات تبحث عن ذاتها.
والنفس المعقدة المتشابكة المشاعر تأبى على ذاتها أن تكون صادقة مع الكون والإنسان، بل وتتمادى في نَحْتِ وتكوين مصطلحات تبريرية للنوازع التي لا تود الاعتراف بها، مصطلحات مغلفة بستار رقيق لا نستطيع أن نراه، لكن المرايا تخترقه، ثم تستقر في مركز الحقيقة التي تؤلمنا ونرفض الاعتراف بها.
“ماجد غانم”، و”تيسير فضة”، رحلا وهما في سن الطفولة، بقيت علاقتهما مع المرايا، علاقة الطبيعة البكر مع الآفاق والجليد الناصع البياض، وبقينا نحن نتحايل على المرايا، نكذب، نسرق، نحدث أنفسنا بأمور يخجل الطفل منها، نعاني الهزيمة والانكسار، نفقد أحبتنا، نركض خلف الرغيف، نبكي حينا، ونضحك حينا، نبكي ونضحك في نفس الحين، نغالب آمالنا وأحلامنا، نقلب آلامنا وأوجاعنا، نزور المرايا في كل يوم قَسْرًا وكَرْهًا، ونعلن لأنفسنا بوضوح مرفوض وصراحة خَجِلَة هزيمتنا الأبدية أمام مرايا الكون والنفس.
وها أنا اليوم أغادر سطح المرايا لأكون في أعماقها ونواتها، أقابل نفوسا وأفكارا، أعرفهم من حروفهم، من كتاباتهم، أشعُرُ بهم، ألامس أحلامهم وآمالهم وتطلعاتهم، ولكني أعْرِفُهم معرفة الشخص للشخص فقط، وليس علي سوى التسليم بإمكانات معرفتي وقدرتي.
أعرف “ديوجوبنيس”، الذي حمل المصباح وسط الظهيرة، وأخذ يطوف بالطرقات، مفتشا منقبا، دائرا بعينيه بين الناس والأشخاص، وحين سُئل عما يبحث؟ أجاب بثقة الفيلسوف والعالِم: أبحثُ عن إنسان.
أعرفُ “الماغوط” الذي قضى عمره بين أنياب الفقر والاستغلال، فسُرقتْ أعمالُه الأدبية من قِبَلِ ممثل يجيد سرقة عواطف وعقول الناس، ليكدس في البنوك رزمات من أموال هي حق للكاتب المسروق، لكن الناس الذين بحث بينهم الفيلسوف عن إنسان ما زالوا يجوبون الشوارع والأرصفة، وما زال المصباح منيرا وسط الظهيرة دون أن يجد بينهم من يستحق أن يلامسه نوره المنبعث من أزمة فيلسوف مات وهو يقف على شاطئ البحث، دون أن تَدْلِفَ قَدَمُه نحوَ المَدّ، أعرفُ “الماغوط” الذي قال إنه يبحث عن رباط لحذائه، قبل أن يبحث عن بحور الشعر وأوزانه.
أعرفُ “أحمد فؤاد نجم”، الذي قال لـ”القذافي” حين سأله: كيف أستطيعُ دَعْمَكَ؟ فأجاب: بأن تبتعِدَ عنّي، رغْمَ بيته الأسوأ من الزنزانة.
أعرف “البارودي”، منارة القول والعمل، أعرفه منفيا، يتلقى خبر أهله واحدا تلو الآخر، وأراه وهو يفقد بصره، لكنه يظل البارودي، الشاعر الذي أخضَعَ الشعر لرجولته، وألمه، لوطنه ودينه، أعرفه معرفة النفس للنفس، والقلب للقلب، حين “نفض يديه من الزمان وأهله”، وانطوى على ذاته انطواء الإنسان على الإنسان.
أعرف “بيرَم” التونسي و”حافظ إبراهيم”، وأعرف “مكسيم غوركي” و”اشفيتزر”، أعرفهم وهم يَلِجُونَ أعماق النَّوَاةِ المشَكِّلَة لنواة المرايا، أعرفهم جميعا وهم يقفون على حافة اللاشيء والمستحيل، ليصنعوا من أناملهم المرهقة من زحمة القلم والفكرة، أشياء تعجز العقول عن استيعابها أو إدراك خفاياها.
أبكي معهم، أشعرُ بألمهم، أتمنى -ومن نواة القلب وسويداء الروح-أن أتحول إلى مارد يخرج من مصباح الكون السحري، لأنتشل أَنّاتِهِمْ المشروخَةَ الموزَّعَةَ بين الصفحات وبين السطور.
أعرفُ أولئك الموزَّعين في القارة السوداء، على مساحات العَوَز والفاقة والموت والفناء، وأراهم وهم يحملون أنفسهم على أقدام تبدو عظامها قابلة للتكسر والتَّشَظِّي والتفتت والتناثر، وأَغُصُّ قهرا من أولئك المثقفين المتشدقين بالمتوارث من الحِكَمِ الفارغة الفحوى والمضمون، أكاد أتميز قهرا وغلا حين أسمعهم يرددون: “بأنه لا أحد يموت من الجوع”.
أحاول -وبكل طاقتي وطاقة “البارودي” و”الخنساء”-أن أتوغل في نفوسهم المطمئنة لمقولة يُكذّبها ويَنْسِفُها واقعُ أُمٍّ جَفَّ ما في نهدها الممصوص من الحياة كل ما يتصل بالبقاء، ومن طفل يجول الموت حوله بتأن وتُؤَدَة، وكأنه يعذبه عن سبق إصرار وترصد، عن سبق يقين وتعمد، وهو يذوي قليلا قليلا، والناس المصابة بالتخمة والنقرس تعلن تعاطفها مع طفل تَمَنَّعَ الموتُ والفناءُ عن الإسراع إليه.
أعرف شوارع العراق، حاضرة الخلافة العباسية، حاضرة “الرشيد” و”المعتصم” و”المأمون”، أعرفها وهي تستقبل الجثث والدماء والدمار والخراب، أعرف نهر دجلة الحزين الحزين، وشارع “أبي نواس”، والرصافة المتفجرة بعين ماء الحكمة والشعر، أعرف كل هذا وهو يَئِنُّ أنينَ حَشْرَجَةٍ تَخْجَلُ من الظهور.
أعرف ثوار فلسطين البواسل، وهم يملأون السماء بالرصاص، سماء الوطن المجروح والمُدْمَى، وأعرفهم وهم يملأون صدور أنفسهم بالموت والانتقام والدمار والخراب.
أعرف الآباء المُقْعَدِينَ عَجْزًا وقهرا وذلا حين يتعالى نَشيجُ رضيع لا يملك والده ثمن علبة حليب جاف. وأعرف قلب الأم التي تستقبل ولدها المذبوح برصاص الوطن وسكين المقاومة.
أعرف “علماء” الأمة الأفاضل، وهم يلوكون القضايا والمسائل كما تلوك النساء حبة علكة، أعرفهم وهم يتقدمون نحو العروش والبنوك، حاملين الفتوى المفصلة في مخيطة الهزيمة، تاركين المقاس دون نمرة أو تحديد، منتظرين حجم الرضا وحجم المدفوع، ليمدوا مقاس الفتوى أو يختصروه، حسب امتداد الرضا وتضخم المدفوع.
أعرفهم وهم يغادرون بالطائرات من سماء إلى سماء، من سماء العلم إلى سماء أمريكا، ليصافحوا هناك من مهمتهم صياغة العقل المسلم بطريقة العصر والديمقراطية التي تفشت في العراق وفلسطين ولبنان والسودان.
نعم هي المرايا، مرايا الطفولة التي كانت تحاول وبطريقتها الخاصة أن تنبهني بالمستقبل، وكانت حين تجعل يميني شمالا، وشمالي يمينا، تحاول تمرير رسالة ما، سهلة الوصول، لكنها عصيّة على العقل الصغير الذي كان يرى بإمام المسجد الغارق بالجهل عالما لا يشق له غبار، وفي المعلم، شخصية لا تخضع للخطأ أو الانهيار.
هي المرايا يا صديقي، ذاتها، التي قادتني نحو السجون، لأعرف هناك أصناف الرجال وأصناف الذكور، لأعرف هناك من قدم روحه للوطن والانتماء، ومن قادته الصدف العمياء المغلفة بالجهل واللاإرادة، ليصبح البطل صامتا، والجاهلَ المُقادَ بالصدفة إلى نَبّاح يطلب أمر الحل والعقد، فتأتي المرايا بكل ما فيها من مصقول الحق لتعكس أشعة الشمس والحقيقة، فتفشل، وتتحول بأيدي المدعين النابحين إلى أدوات يمكنها الانخراط في مهرجان أو الانخراط في تمثيلية.
نعم، مرايا الطفولة، ناعمة مِخْمَلِيَّة، فيها من الخُضرة والحياة والتفجر ما فيها، وفيها من البراءة حجم براءة الطفولة ذاتها، فيها من حنان الأمومة ما يوزع على الجبال والوديان والسواحل والشطآن.
لكنها المرايا الأخرى، مرايا النفاق والكفر والطمع والجشع، هي التي تحكم وتتحكم في مصائر الناس والأوطان والأرض والفضاء.
“تيسير فضة”، و”ماجد غانم”، عَرَفا كغيرهما تلك المرايا التي تُحِبُّ وتَكرَه، تُدْنِي وتُقْصِي، تَظلِمُ وتَرحَم، لكن ببراءة العمر الذي غادرا فيه إلى ظلمات الموت والفناء، حيث هناك تختفي الأشياء والمرايا، وتختفي المُكَوَّناتُ والمُشَكَّلاتُ، لتسيطر حقيقة واحدة، لا نعلم عنها غير شِدَّةِ ظُلْمَتِها، وغَوْرِ مسافاتها الفاصلة بين زمن وزمن.
هنيئا لكما يا صديقَيْ الطفولة، هنيئا لكما ظلمةُ القبر ووحشتُه، هنيئا لكما الموتُ وأنتما لا زلتما لا تعرفان عن المرايا سوى مد اللسان والتعري أمام ساكنها.