عندما أُعلنت العطلة، تملّكته مشاعر مختلفة، رفّت عينُه وابتسم قلبه، وتهلّلت أساريره، لم يسمح لنفسه بالاستغراب عن موعدها، وسببها، سيقضّي أيّاما حذو أبويه العجوزين، سيساعد أمّه في إعداد طبخات عراقيّة شهيّة وسيرافق والده إلى حقلهم البعيد ليتفقدا ما تبقّى من أشجاره…وعلاوة على ذلك سوف يلتقي زينب وسيخبرها انّه بعد زمن قليل سيتخرّج من الكليّة العسكرية فيُتوّجان ما بينهما من حبّ بارتباط مقدّس ، مواعيد غير مرتبة مع سعادة تأتي على عجل ودون سابق إنذار، دعا في سرّه أن يعمّ الأمن حتى تتحقّق هذه الأحلام المرفرفة…هو في الحقيقة دعاء كل الشّباب المتعطّش للفرح بعد أن صفعته كفّ الإرهاب فغرق في مستنقع الدّم والأحزان…
كان غارقا في خيالاته لما حثّه رفيقه على الخروج، فالشّاحنات واللّوريات التي ستقلّهم تقف في طابور مستقيم وشرع طلبة الكلية العسكريّة في امتطائها بكل نظام، وغمزه بابتسامة خبيثة فهو يعرف ما يدور في خلد رائد وقال:
-لا تغرق في دنيا الخيال، وهيّا أسرع نحو دنيا الواقع دون تخطيط…
هنيئا لك فأنا لا أحد ينتظرني…
في الشّاحنة كانت وجوه الطّلبة لا تُفسّر، بعضها مشرق، سعيد، وبعضها رُسمت عليه علامات استفهام حول هذه العطلة غير المتوقعة، فقد بلغهم خبر سقوط الموصل بيد داعش، وعلى البعض الآخر تكدّست أحزان وطن يمتد من الماء إلى الماء يتخبّط في أوحاله ويغرق في دم أبنائه…أمّا رائد فاستأنف شروده مع أحلام يحاول أن يكون فيها لكلّ واحد من أحبّته نصيب…مرّ أمام عينيه شريط عذابهم بعد استشهاد أخيه، تجمّدت في عينيه دمعة أحرقت جفنيه ثم سالت لتستقرّ على شفتيه كحبّة ملح لذعه مذاقها، كيف للعراق أن يتحوّل إلى بؤرة إرهاب؟ بلده العريق المختوم برحيق الآداب والفنون والعلوم، عراق المجد والوجد والجمال، كل شبر فيه يشهد بعظمة حضاراته،هذا البلد الفراشة المزركشة كما يحلو لزينب أن تسمّيه، فيه تعاشقت مختلف الملل والنّحل والأجناس والأعراق والأديان…كيف لهذا الوطن الكبير أن يَتنقّب بعباءة السّواد كأنّه في حداد مؤبد؟ كيف للفساد أن يهزم تاريخ الأمجاد؟
ضجّة رفاقه قطعت شروده… في تكريت جمهور غفير يقطع طابور الرّتل ويأمر الجميع بالنّزول، علت الأصوات الزّاجرة، وتغلغلت في سماء تكريت عبارات السّباب والشتيمة وأقذر الألفاظ السّوقية، التي رافقت ذاك السؤال البغيظ هل أنت سنّي أم شيعيّ؟…أدرك رأئدأنّهم وقعوا في كمين التّنظيم فتعطّلت كلّ حواسّه…تحرّكت رجلاه كمئات الأرجل نحو جهات مختلفة واقتيدوا نحو نهايات يفزع لها العقل السّليم…عُصّبت الأعين وساروا على وقع تكبيرات ارتفعت في الجوّ فاغتصبت قداسة الفضاء ومزقت أشلاء الهدوء…وانتفضت لها قلوب الصّفوف الطّويلة التي تعثّر بعض أفرادها وسقط البعض الأخر فديست بالأقدام ووُجّهت نحوها طلقات جعلت الاقدام تسير في برك من الدم البشري وقطع اللّحم الآدميّ تستقرّ على الأجساد الحيّة التي تسير نحو حتفها، انتفض رائد كمن مسّه جنّ وتوالت عليه صور أحبّته، شعر بمسؤوليّة أقوى من الموت الذي زكم أنفه، لابدّ أن يعيش، هو عكّازة العجوزين وأوكسيجينهما، هوحلم عذرائه الجميلة… أثناء دراسته استندوا إلى أمل عودته، لكن إذا ما استشهد هو الآخر فلن يقويا على الحياة بعده…أما هي فقد هيمنت ابتسامتها الحلوة على مشاهد الموت أمامه،ألف سبب يدعوه إلى الحياة وهو في قلب الموت، شبك كفّ صديقه ووشوش له:
-انبطح، حالما ترتفع طلقات رصاص…ستسترنا الكثبان..
ارتفعت أصوات الكلاشنكوف واخترق البارود مئات الأجساد، جذب صديقه جذبة أطاحت به وسط أشواك خدشت جسديهما الغضّين لكنّهما لم ينبسا ببنت شفة، لم يتوجّعا فقد شربا اقداح الوجع حتى الثّمالة، وانقطعت الأنفاس حتى كادا يختنقان…بعد ابتعاد الطّابور ركضا كمجنونين في كلّ اتجاهات المكان، أدرك رائد أنهما غرب دجلة التي فاضت بدمع العراق، مرآة دجلة، ستعكس فظاعة جريمة مجزرة سبايكر على امتداد التّاريخ الإنساني، على بعد مسافة أيام تقبع قرية مقاومة، النّساء فيها كالرّجال حملن السلاح وذدن عن شرف الوطن ببسالة، سيذكرها العراق بفخر، وستكون من دروسه القيّمة في الإصرار على الحرية والكرامة ورفض الاعتداء والظلم.
صوت الرّصاص يمزّق سماء العراق…لكنّه صار بعيدا. على الطّريق قَبِل أحد سائقي اللّوريات أن يحملهما معه بعد أن هاله حالهما،لكن حالما نزل أحمد استقرّت في ظهره رصاصة غادرة أردته قتيلا، على قارعة الطّريق، فلم يدر السائق كيف فرّ بسرعة مجنونة لم يترك فيها لرائد فرصة النزول، فغرق في موجة حزن وبلع ريقه واكتفى بالترحّم على صديقه، لمّا بلغ أطراف ناحية( العلم ) نزل يجرّ قدميه، ويحمل أحزان قلبه وحداد وطن كامل، ملابسه مبلّلة بين دم ودمع وعرق، انقبض قلب أم قصي العجوز وهي تراه فاسرعت له بماء وأكل وبكلمات حنونة حاولت أن تهدّئ من روعه ووعدته أن توفر له الحماية، كان الفرات وقتها ينزف، أمّا العجوز فانكبت تضمّد جراح رائد وتكفكف دمعه، وتقول له في يقين:
-أنت قطرة الماء التي ستعيد لدجلة نقائها بعد أن تلوثت بجثث ضحايا سبايكر، لا بد أن تعيش حتى يزهر العراق ويزهق التنظيم.