محكيات:
سجن آسفي: جحيم تباهى بإنشائه أحد مهندسي القمع بالبلاد.. بحيث اغتنم فرصة زيارة إيران، على عهد شاه إيران في سياق التبادل “المثمر لتجارب القمع” وغايته : تحويل إنسان مفعم بالحياة إلى مجرد شبح مقتنع بالخلود إلى ظل الحائط”..
مهندس القمع ذاك اطلع على نموذج سجني مستوحى من تصاميم أعدتها ابنة الفاشستي “موسيليني” وتبنتها شرطة “السافاك” لتحطيم المناضلين..
استوحاه، ثم جسده على مشارف آسفي وحشا متأهبا للاتهام أرواح الشباب الذين تجرؤوا وجهروا برفض تحويل البلاد إلى جنة تنعم بها أقلية الأقليات، والباقي جياع يتابعون أطوار نعيمهم بعيون فارغة.
بناية تصلح لأن تكون مخزنا للأسلحة، وليس لإيواء السجناء.. أسوار اسمنتية يستحيل أن تدق فيها أي مسمار مهما كانت صلابته. تحيط به وتجعله قلعة الداخل إليها مفقود والخارج منها سيحمل ما بقي حيا وشم الخراب في روحه.
قسمت الأحياء بشكل جهنمي يضم طابقا أرضيا وطابقا علويا، قبالة ساحة مثلثة ختَمها طقس المدينة القاسي، بحيث تحولت السماء إلى رداء رمادي أطبق على فضاء الساحة المثلث، وجعلها أشبه بخلفية لديكور فيلم من أفلام الفزع يصور خراب العالم بعد نشوب حرب نووية.
.. وكان علينا أن نتعلم كيف نبقى أحياء في جوف الوحش السجني “مول البركي” حتى إذا غادرناه يوما، بقي شيء من الآدمية في أجسادنا وأرواحنا..
كانت الإدارة السجنية تسعى إلى إقامة نوع من التوازن في معاملتنا. فأحيانا يطلقون اسم “الطلبة” وأحيانا أخرى معتقلين من نوع خاص، ولكن الاسم الشائع هو السياسيين.
استفدنا من بعض الشروط التي ترفع رأسنا قليلا، وتمكنا من حفر وجودنا في اسمنت وحديد “مول البركي”، إلى أن جاء مدير من الدرك الأسفل.. حارس تحول في ظروف غامضة إلى مدير، وهو شيء طبيعي في وسط يتغذى بالأتاوات. جلبوا كائنا يحمل الخراب في داخله، ويستكثر على البشر إنسانيته.
ولد هذا المدير “بصاصا” حسب تعبير جمال الغيطاني في رواية “الزيني بركات”.. وحين اكتمل نموه تحول إلى مسخ، ثم إلى مدير لهذا السجن الرهيب..
ولذلك سعى ومنذ يوم توليته إلى أن يجثم على أنفاسنا. فعقدنا العزم نحن أيضا وأنشدنا مع الشاعر:
وإذا لم يكن من الموت بد **** فمن العار أن تموت جبانا
أية صحراء هذه حُشرنا فيها.. صحراء اسمنتية تلتهم حقك في الهواء، وكانوا قد استبدلوه برائحة تشبه رائحة البيض الفاسد.. رائحة تلتهم الهواء الذي نتنفسه وتحل مكانه..
كلما زارت “الضبابة” ـ كما كنا نسميها ـ سماء آسفي، أغلقنا النوافذ التي لا تطل أصلا إلا على جدران وسماء رماديين، و”اقتصدنا في التنفس”.. وانتظرنا الفرج!!
ماذا تبقى لنا في الوضعية نصف الإنسانية التي نعيشها، غير بعض الفتات مما يمت للحياة بصلة، كالزيارة، وتهييئ طعامنا، والتوصل بالكتب بعد الرقابة!! ومتابعة الدراسة بعد لأي..
ثم لا شيء يمكن كشطه من أحراش الصحراء الاسمنتية هاته التي التهمتنا..
تداولنا في أمر الإضراب عن الطعام.. قلبنا الموضوع من كل جوانبه.. أشعلنا نار الممانعة المدفونة في الرماد بين أضلعنا.. نفخنا فيها تدريجيا عبر تذكر وتمجيد ما تخفيه نظراتنا من إصرار.. فكلما اتسعت الحدقات، كلما ردد صدى الأيام في أرواحنا ذلك الموال التي ترفعه هضاب وجبال الأطلس إلى علياء الخلود.. ذاك الإحساس هو أن تكون مقاوما، ولا يمكن إلا أن تكون كذلك، وإلا حولك القمع إلى غبار، وذراك في العدم..
قبل كل إضراب عن الطعام، لا بد من التهييئ لأطوار المواجهة، ولن يكون التفوق حليفنا إلا إذا تكهنا بما يعده المدير وجوقته..
يبدأون بحملة التفتيش، وتروم مصادرة كل ما نملك من أدوات لتهييئ الطبيخ: الملاعق والشوكات والصحون والموقد الكهربائي ـ وهو من صنعنا ـ ويحتاج إلى مهارات لا يملكها إلا أقدم وأمهر السجناء..
يستولون أيضا على كل ما عز من “ديكورات” على بساطتها، لأنها تؤنس وجودنا كإنسان يملك ذكريات ويتواصل عبرها. يسعون لتحطيم العالم الداخلي الذي بنيناه غصنا تلو غصن، كما تبني الفراخ أعشاشها وتمنعها في علياء الشجر.
يرغبون بكل ما يملكون من مهارات حراسة السجن أن يبرهنوا على فعالية ما تعلموه من نباهة في الاستيلاء على ممتلكاتنا لأنها عنوان الخط الأحمر الذي لم يكونوا ليقووا على تجاوزه إلا إذا فقد “كبيرهم” البوصلة، وأمرهم أن يعيثوا فسادا في فضائنا السجني الخاص الذي سندافع عنه، ولو كلفنا ذلك الدخول في “أم المعارك”..
أما الكتب والأوراق والصور وكل ما يمت بصلة للفكر والثقافة، فهي اكتشافات “أركيولوجية” تعد من أثمن ما يعثر عليه الحراس “المجتهدون” لإحراقه واجتثاثه، حتى يمسحوا كل أثر لهويتنا كأشخاص قادرين على التفكير والقرار..
بقي شيء من “حتى في نفسي”… ولازالت ذكراه تحز في نفسي. كنت أربي زوج حمام، وبعد التفريخ لم يعد مجال تسريحهما متاحا.. وكم ستكون فرحة “المدير” كبيرة عندما يعثر على كنز ثمين كنا نسخره لإبطال مفعول الأقفال والأسوار والجدران والقضبان..
كنا نتابع الحمام وهو يطير بخفة، فيشتعل ابتهاجنا وكأننا اكتسبنا أجنحة تمكننا من التحليق بعيدا عن قلعة “الموت”.. وننتظر عودته إيذانا بارتباطه بعشه حتى ولو كان في زنزانة سجين.. وهذا فعل شنيع خارق للقانون في ذهن “المدير، وباكتشافه ومصادرته يكون قد طبق “القانون”، وازداد درجة على سلم القمع، وتمهدت له سبل النعيم”.
ولذلك وبعد تفكير، أغمضت بصري وبصيرتي، وقررت أن نذبح الحمام، ونتناوله كوجبة عشاء مشبعة بذرات الحب والحرية..
طبعا لم أتناول ولو لقمة واحدة منه.. فهو جزء من قلبي..
تمكنا أيضا من مسح آثار الريش، حتى نقضي على كل فرصة ليّ ذراعنا.
ولعمري بقائل يقول: هم يسخرون ذكاءهم للمنع والحجز والمصادرة، ونحن نسخر ذكاءنا لصيانة ما تبقى من علامات تشهد على أننا انتمينا إلى نوع من البشر قُدّ من صخر المعاناة..
نُقلنا إلى جناح الزنازن الانفرادية العقابية.. جُرّدنا من كل شيء إلا ما نرتديه على خفته، وحُشرنا كل واحد في زنزانة “كاشو” طبعا بعد التأكد من أننا لا نحمل معنا قطعا من السكر، رغم حقنا في ذلك!!
هكذا إذن يريد “المدير” أن يلعبها على غش!!.. يمنعنا من السكر فننهار، ونأتيه صاغرين..
“الكاشو” جناح معزول، وقد صُمّم ليتم الحؤول دون تمرير أي شيء للسجين المعاقب، ولذلك بنوا جدارا عازلا على طول الجناح، وبه باب واحدة. علوّ الجدار مترين ونصف، وتكمله إلى السقف قضبان حديدية تقارب المتر.
بعد المرور من الباب المنفردة يوجد ممر ضيق تصطفّ فيه بوابات زنازن العزلة، وهي أيضا يعلوها شباك حديدي، وهي مصطفة بحيث لا يتقابل السجناء. هذه الهندسة مهما بلغت من دقة، توصلنا عبر علاقاتنا المتينة مع بعض الحراس الأوفياء إلى التفوق عليها..
يأتي الحارس الشهم، وينادي ثم يتسلق الحائط إلى أن يثبت إحدى ساقيه وذراعه بالحاجز الحديدي، وينتظر أن أتسلق حائط المرحاض وأستوي على سطحه، ثم أخلع سروالي وأمده بإحدى رجليه، يتناولها بالذراع الحرة، ويعقد فيها سجائر وسكرا، ثم يتركها لأجرها..
نظرة امتنان واحدة عبر القضبان تكفي لأن تنشد موال الحرية، وتعزف لحن العرفان لهؤلاء الأبطال الذين لو افتضح أمرهم آنذاك لعوقبوا بما لا يمكن تصوره..
بعدها أنادي على الرفيق (غ) وكان بجواري أمرر له الكنز الثمين، وهو بدوره يوزع على الآخرين بنفس الطريقة..
شدد المدير الحراسة، وأطلق آذان وعيون وأنوف كائناته، فقررنا أن نلعب معه بتُؤدة، ونقف على أرض صلبة: الصبر..
أذكر أن أحد أساتذتي في السياسة، سألني مرة كيف نُعرف الصبر؟ أجبته أني في الحقيقة لا أملك جوابا دقيقا. فقال: الصبر هو أن تعض أصبعي، وأعض أصبعك، والذي أرخى عضته الأول هو الخاسر!!
ربما يمكن أن يبلغ الألم قمة الرأس، وتحس بالوخز الشديد يستبد بكل جسدك، لكن نفس الإحساس لدى الآخر، فربما سبقته بالاستسلام بجزء يسير من الثانية..
هكذا قررنا أن نعض أصبع “المدير” ولا نرخي…
وفرت لنا العزلة في الزنازن الانفرادية فسحة الاختلاء بالذات. يكفي أن تكون مقتنعا بإضرابك عن الطعام، لتتفادى الأضرار الصحية الكبرى التي يمكن أن تُلمّ بك. وهي حقيقة علمية تجهلها جوقة العسس التي تواجهنا، وعلى رأسها “كبيرهم” الذي كان يعاني من حالة متقدمة من السكري، جعلته يدخل في نوبات يوميا، بسبب أننا استوينا في مقام سليم أثناء الإضراب، واستخدمنا سلاح قوة العزيمة.
الأسبوع الأول عن الإمساك عن الأكل يحدث أنواعا من المغص والآلام، وقد يدخلك في بعض الهذيان، ولكن بعد العشرية الأولى تكتشف ألوانا رائعة من النشوة تحدث نتيجة أكل الجسم لذاته.. تختفي الآلام، وتحس بفرحة عجيبة.. وهو شعور لا يحدث خلال الحياة اليومية التي تتخللها عدة وجبات من الأكل..
تكتشف كذلك، أننا نمضي وقتا طويلا في تهييء الطعام، أو في أكله، أو العمل على توفير مصاريفه.. حالة أخرى تدخل فيها، وتكتشف نفسك من جديد.. تكتشف كيف تنصت لنبض الذكريات، وتعيد تقليبها، وتذوق أدق تفاصيلها.. تمتطي صهوة الريح، وتطير في علياء الأحلام.. آنذاك تستهويك التيارات الدافئة لما قد يتحقق عندما تغادر هذه الأسوار اللعينة.. وتبدأ في تأثيث ما سيأتي.. وقد لا يأتي! المهم أنك قادر على استجماع وترتيب صور الحياة المبعثرة في المستقبل المحتمل.. لا يهم قد يكون قريبا أو بعيدا.. لا يهم!!
… ولكن حان وقت الغذاء!! يسأل أحدهم بإلحاح:
ـ شكون فيه النوبة1؟؟
يأتي صوت مجيبا ومتأهبا: أنا.. ـ ويستمر ـ أستضيفكم، وكأنكم في أفخم الفنادق!!
ـ أبدأ بالتسوق.. لا بد من اصطحاب عربة، لأن المقتنيات كثيرة!.. الجزار أولا. سأكتفي بكذا كيلو من الكباب، ولا أنسى الكفتة والكبدة، ولحم الكتف لتهييء الطواجين2 .. بعد ذلك الدجاج البلدي، والفراخ.. ليس مقبولا أن ننسى السمك، وفوكه البحر، فسنحتاجها في البستيلا3..
أنتقل إلى الخضر: الجزر، والبطاطس، واللفت والطماطم، والبصل، واللوبيا، والملوخية، واللقيم، والسفرجل..
طبعا السلاطة: الفجل والخس والخيار..
ثم أعرج على المخبزة، وأختار لكم ـ أيها الأعزاء ـ أجود أنواع الخبز من قمح كامل وشعير وذرة.. ويأتي دور الحلويات والمثلجات.. آه كدت أنسى المكسرات: الجوز، واللوز، والثمر الفاخر، وباقي المملحات مما يعرضه القشاش4.
تتوالى فصول تهييء الطعام، من تقشير وتقطيع، وتتبع مراحل إنضاج أجمل الأطباق وألذها: من طاجين ودجاج محمر وكباب مشوي، و”بستيلا” بالسمك..
القلع الأول يضم أنواع السلاطة التي تشرح النفس، وتثير الشهية، وتدفع للإقبال على الطواجين، والخضر والسمك المشوي وأسياخ الكباب..
علق أحدنا:
ـ هيه.. جمعت بين السمك والكباب والمروزية5 بين المملح والحلو!!
أجابه: ـ حين يأتي دورك افصل بينهما.. المهم بالنسبة لي كل “قلع” ينسيك ما قبله!!
كدت أن تنسينا الفواكه.. المهم كل شيء تمام، والبال مرتاح..
كلمة اختارها من معجم الدرر، فالراحة هي عنوان المواجهة، وقد يستمر بنا هذا الإيقاع دون أن نمل..
كل واحد منا يُمتع ويُؤنس، ويشحذ الهمم.. لكن ماذا يقع في المعسكر الآخر: جوقة المدير وأعوانه؟ علما أن معظم الحراس كانوا متعاطفين معنا، وإذا ما أعطي أمرا بلغونا به، وتلكؤوا في تنفيذه..
استغربوا في البداية، واستهانوا بالأمر.. هؤلاء السياسيين حمقى!! يبدو أنهم فقدوا البوصلة.. عرضوا أنفسهم للتهلكة!!
ومع توالي الأيام، وتوالي الإصرار، وتكرار نفس التقليد كلما انتصف النهار، يصاب “المدير” بالانهيار العصبي، وبنوبات السكري.. شك في الحراس، في الأعوان، في السجناء الآخرين، شك في نفسه، في الآلة السجنية.. وانهزم في كبح جماحنا.. انهار كما تنهار قلعة الورق، بمجرد إزاحة ورقة واحدة.. تلك الورقة عثرنا عليها، وأنشأنا منها قلعة داخلية أمتن.. وبكل بساطة انتصرنا..
انتصار لا يحمل طبع التبشير، ولا لونا أحمر أو أخضر أو أصفر. انتصرنا وكفى، لأن مشروع بناء الإنسان الحقيقي يبدأ بري جذور الأشجار بالصبر..
.. إليك أخي ـ في صحرائك ـ ألف تحية من صحراء سجن آسفي..
الهامش:
1 ـ شكون فيه النوبة: على من الدور.
2 ـ الطواجين: ج طاجين وهو إناء من فخار يُهيء فيه الطعام.
3 ـ البستيلا: خبزة فاخرة محشوة باللوز والدجاج وتكون حلوة، أو محشوة بالسمك وفواكه البحر وتكون مالحة الطعم.
4 ـ القشاش: بائع الثمر واللوز والجوز والمكسرات..
5 ـ المروزية: طبق لحم محلّى.
مكناس 24 / 07 / 2023