رفعت نظرها إلى الساعة الحائطية المعلقة وسط غرفة المعيشة، لا يتبقى على الموعد سوى ساعتين.. أكملت ارتشاف قهوتها بتأن كالمعتاد، تنظر إلى بطاقة الدعوة و تتأكد من العنوان للمرة الأخيرة قبل الاستعداد للخروج.
الحفل سيقام بإحدى القاعات على بعد كيلومتر و نصف من ساحة المدينة بقرب الحي الإداري، و سيتطلب منها الأمر ربع ساعة فقط للوصول بسيارتها، أو عشرين دقيقة على الأغلب في حالة كان الشارع الرئيسي مزدحما..
لديها ساعة و نصف على الأقل لتجهيز نفسها ..
بدأت خيوط شمس المغيب الذهبية تنعكس على زجاج النوافذ ذات الواجهات الضخمة و المزودة بستائر خفيفة مشغولة من الكتان، تسمح لخيوط الشمس نهارا أن تضيء كامل مساحتها.
تتصل غرفة المعيشة بالحديقة المنزلية من خلال شرفة صغيرة لا تحجب الرؤية عن جمال الطبيعة الخارجي ، ما يعطي للمكان دفئا رقيقا، بجانب الطابع الريفي الذي اعتمدته في تأثيث منزلها، و اختارته لبساطته و بعده عن التكلف.. الخشب غير المعالج يكسو غالبية جدران و أسقف الصالة ، بتناغم مع الأثاث الضخم غير المشذبة حوافه و الحجر الذي يطعّم أغلب الديكورات الخشبية .
أمام المدفئة الحجرية تقضي معظم الوقت فوق الأريكة البنية بطراز ال ” تشستر فيلد” ، و بمحاذاة مع الرفوف المحملة بالكتب على الجدار ، توجد طاولة صغيرة تدمج بين الطراز المعاصر و الريفي ، طاولة بقاعدة من النحاس المزخرف يدويا و سطح من الزجاج البلوري، تبدو مميزة كقطعة من الأنتيك .. وضعت فوقها الكتاب الذي كانت تقرأه ذلك المساء , نهضت من مكانها بثقل تجر رجليها و هي تحتسي آخر رشفة و تمر بالمطبخ لتضع الكوب في المغسل و تصعد إلى غرفتها لتختار ما يناسب ارتداؤه لتلك الأمسية.
فتحت خزانة ملابسها، تطلعت إليها و هي تتذكر حالها سنوات من الآن، لم يكن الأمر بهذا البرود أبدا، كانت أول المتحمسات إلى التجمعات ، سواء منها الشخصية أو العملية، و كانت الاستعدادات تبدأ عندها في أول الزوال بين اختيار الثوب المناسب و تصفيف الشعر و وضع طلاء الأظافر و مساحيق التجميل..
بجانب الدولاب ،توجد مرآة كبيرة. تخبرها ، كلما تطلعت إليها، بالوقت الذي مر على ذلك . أو كلما حدقت في وجهها للنظر إلى التجاعيد الخفيفة حول عينيها و الشعيرات البيضاء التي بدأت تخالط سواد رأسها .
مهما كان اختيارها ، فالخيار الأنسب تقرره تفاصيل جسمها التي غيرتها السنين ، لذلك ، اختارت دون تردد، فستانا أسود من الشيفون الناعم، بقصة أنيقة مناسبة، و طول متوسط، يمزج بين الراحة و الأناقة.
فكرت قليلا ، ثم قررت رفع شعرها بحركة بسيطة خلف رأسها مع ترك بعض الخصلات تتطاير بشكل فوضوي جذاب حول عنقها، و أخرى رفيعة متدلية حول جبهتها، ما أعطاها إطلالة ملهمة مليئة بالتميز و السحر.
إرتدت كعبا أسود و اختارت من الحقائب اليدوية حقيبة صغيرة و أنيقة باللون الرمادي الغامق.. لم تفكر في وضع الحلي، و اكتفت بقليل من الكحل الأسود و أحمر شفاه بلون الكرز..
ابتسمت و هي تتذكر إحدى صديقاتها التي طالما شبهتها بالممثلة الإيطالية ” مونيكا بليوتشي” خصوصا في دور شخصية الحسناء “مالينا” في الفلم الذي يحمل نفس الإسم.. كانت دائما تخبرها بأنها لا تليق بهذه الحياة التي تعيشها، و أنها تتخيلها كما في مشهد تلفزيوني، فتاة إيطالية، في مجتمع إيجابي مرتاح للغاية، يرى السعادة في أشياء صغيرة و يستمتع بكل لحظة في الحياة، تحت طقس مشمس، قهوة صباح لاذعة و جو لطيف في المساء..
تبتسم أكثر بحسرة و هي لم تعد ترى الآن ما يشبهها في الحسناء ” مالينا” سوى كونها وحيدة في مواجهة مجتمع مغلق يراها خارجة عن المألوف .. و لون أحمر الشفاه هذا !
… وصلت في الوقت المناسب إلى الحفل، ركنت سيارتها على بعد بضع خطوات من المدخل الرئيسي، دخلت القاعة المزدحمة نوعا ما، شعرت ببعض الضيق، فقد اعتادت الهدوء في السنوات الأخيرة..
نظرت حولها و لوحت بيدها لبعضٍ من معارفها، اقترب منها أحد منظمي الحفل، رحب بها، و قدم لها بعض الأشخاص الذين يشاركون فيما بينهم نفس الإهتمام و نفس ظروف العيش و العمل في هذه المدينة، تبادلت معهم بعض الحديث و المجاملات ، ثم انسحبت بشكل سلس أنيق و اختارت طاولة شاغرة في احدى الزوايا، ظلت تراقب الحضور كما كانت تحب ان تفعل دائما، كلما سنحت لها الفرصة للجلوس لوحدها في إحدى مقاهي وسط المدينة ، حيث كانت تختار كرسيا جانبيا في الخارج، تتطلع بفضول إلى وجوه المارة ، تغوص في أعماق وجدانهم، كأنها تقرأ كُتبا مفتوحة ، فتتحول الوجوه التي تتصفحها إلى كلمات تتحرك أمامها، تتتخيل ملامح أحدهم ككلمة ” أسى”، و آخر ” قلق” ، و الآخر ” نفاق” ، أو “خوف” ، “أمل” ،” خيبة”، .. و هكذا !
– هل يمكنني مشاركتك الطاولة، كما ترين لم يتبق مكان شاغر سوى هذا الكرسي أمامك؟
– أكيد طبعا طبعا، تفضل..
لقد كان يبدو شخصا جذابا ذو بشرة سمراء مخملية ، أنيق للغاية، فقد إختار بذلته بعناية، طقم أسود مع قميص أبيض بدون ربطة عنق و ياقة مفتوحة بعفوية ، حذاء جلدي بني اللون خرج به بمظهر مختلف عن القاعدة، يوحي بأناقة ممزوجة بالاستراخاء..
بعد التعارف البسيط أخذهما الحديث بسرعة فائقة إلى مواضيع شائعة، عن الأفلام و الموسيقى و الشعر و السفر.. استطاعت من خلال الحديث أن تجد بعض النقط المشتركة بينهما، كحبهما للفن، و قليلا من التاريخ و السياسة، رؤيتهما الشاعرية للأمور، بعض الإهتمامات و طريقة قضاء وقت فراغهما.. كان الأمر مثالي للغاية، مما جعلها تشعر ببعض القلق، وقد كان المثل الإنجليزي ” مثالي جدا ليكون حقيقي” ، يجعلها تجد تفسيرات منطقية لكومة هذه المشاعر السلبية التي تعتصر معدتها عندما تكون الأمور حولها بخير…
– هل يمكننا أن نتقابل غدا ؟ ربما في مكان أهدأ سيكون أفضل .. مقهى ال” تشيلو” ما رأيك؟
– اوه، لا لا.. غدا لا يناسبني الأمر، ثم ، لا أعلم ان كنا سنلتقي مرة أخرى أم لا.. لا أستطيع أن أعدك بشيء !
– اوه، لا لا.. غدا لا يناسبني الأمر، ثم ، لا أعلم ان كنا سنلتقي مرة أخرى أم لا.. لا أستطيع أن أعدك بشيء !
اعتذرت ، بعدما وجدت نفسها على وشك التورط، بإحراج شديد، شرحت نظرتها للأمور، ربما هي نظرة خاطئة، لكنها تجعل الحياة سهلة لها ، فهي لا تريد تعقيد حياتها بأي علاقة من أي نوع من الاشكال.. هكذا أخبرته !
..
خرجت بعد توديعه، مؤكدة انه سيظل من الأشخاص المميزين الذين تعرفت عليهم في حياتها , خرجت من القاعة كأول مغادرة، تستقبلها نفحات هواء مسائية ، تنعش بشرة وجهها الذهنية التي لا تستحمل البقاء طويلا في مكان مغلق… ركبت سيارتها و أعادت وضع أحمر الشفاه من خلال المرآة الأمامية ، شغلت المحرك ، و انطلقت نحو منزلها الدافئ عبر شوارع المدينة الخالية من المارة، و موسيقى عزف ال” تشيلو ” من هاتفها المتصل بالنظام الصوتي للسيارة تخطف روحها.. تتساءل كعادة طبعها السيء المدقق في كل التفاصيل : لماذا اختار مقهى ال”تشيلو” بالضبط؟ هل قرأها كما تفعل هي مع الآخرين و عرف مدى عشقها لهذه الآلة الوترية.. ؟! هل باحت له و لم تنتبه.. و ماذا عرف عنها أيضا؟
لقد تحدثت كثيراً بدون شعور، ربما لو لم تنسحب لقالت أكثر.. و ربما كانت ستقول أشياء تندم عليها فيما بعد ..شعرت بأن أفكارها كانت تتعرى أمامه، عضت على شفتيها بقلق.. و زادت من سرعة السياقة..
أضواء شوارع المدينة خافتة نسبيا ، إنه مساء لطيف جداً ، و كل شيء هنا و بهذا الوقت، يذكرها بالفتاة الإيطالية التي لم تجد مكاناً لها في هذه البقعة الجغرافية..
دخلت بيتها، و لم تشعل الأنوار ، لأنها تحفظ كل ركن فيه و تعلم أن كل شيء يبقى في مكانه كما وضعته بنفسها أول مرة.. صعدت غرفتها كأعمى يستشعر طريقه في الظلام، أحياناً تشعر بأن هذه الوحدة دواء لروحها، و أحياناً، تتساءل عما غيرها جذريا من فتاة اجتماعية بامتياز، محبة مندفعة في الحياة، كفتاة إيطالية، وكما تخيلتها صديقتها دائماً ، إلى امرأة تهوى الوحدة و الظلام، تنهي عمر أي علاقة قبل نشأتها ..
أحياناً تقوم بمجهود عندما يلزم الأمر، تعطي الآخرين فرصة للإقتراب، و لكن الخوف يجعلها مترددة للتقدم ..
نعم .. إنه الخوف..
من الخذلان ربما ..
ربما اكتفت بخيباتها و هزائمها ..
ربما ايضا ، كالحسناء ” مالينا” ، عندما قرر المجتمع رفضها لعدم استجابتها له ، اختارت الصمت..
رمت بجسدها المثقل على السرير ، استلقت على ظهرها تحدق في سقف الغرفة، في الظلام و الفراغ.. تستحضر تفاصيل قصة الفلم في بالها.
يبدو أن صديقتها على حق.. إنها تشبه ” مالينا ” بطريقة غريبة.. تشبه حياتها ، أو ربما وحدتها، شخصيتها الصامتة… لا تدري بالضبط.. إذ لا يقتصر الشبه على ملامح الوجه و طريقة اللبس و أحمر الشفاه فقط و لا على روحها القريبة لروح أنثى إيطالية تحب الحياة، لقد كان الشبه أعمق..
انتبهت لبعض النقط التي لم تكن قد ألقت لها بالاً من قبل..
نزلت دمعة شاردة و هي تدرك الأمر..
أدركت الضياع الذي كانت تعيش فيه الحسناء ” مالينا ” بطلة الفيلم، التي كانت تبدو بخير.
إنها تشبهها.. فهي تبدو بخير أيضا..
و لكن لا أحد يعلم ما يحدث لها، كما لم يعلم أحد حسب أحداث الفلم ممن حول ” مالينا” ما حدث بداخلها بعد وفاة والدها، و بعد تلقيها خبر مقتل زوجها الذي غادرها للحرب !
لم يفهم ذلك أحد.. بينما كثرت حولها الظنون .. و اتجهت إليها العيون..
تمتمت بصوت مخنوق يكاد يسمع : ” مالينا .. يا لك من امرأة تعيسة ! “
سرد في منتهى الروعه والجمال