ميدان الساعة يعج بـ(الفواعلية)..
هؤلاء الفواعلية الذين جاءوا من كل مكان منذ مطلع الفجر .. يفترشون الأرض .. أمامهم تجلس فى صمت شديد فؤوس ومقاطف وأجولة وبلط من حديد ..
أياديهم على الخدود تسند الرؤوس المثقلة بالهموم ..
أعينهم الزائغة فى شتى الاتجاهات تنتظر فى شوق شديد القادم من بعيد ..
لم يجدوا بديلًا عن الكلام ..
الكلام فقط هو الذى يخرجهم على الأقل من لُجّة أحزانهم المتواصلة فيما بينهم ..
تلك الأحزان التى تجرعوها ليل نهار على هيئة لبن من أثداء أمهاتهم لمدة حولين كاملين ..
إنهم لا يعرفون عن بعضهم غير الأسماء ..
الأسماء فقط لكن يجمعهم هَمٌّ مشترك ..
هذا الهم جعل منهم زملاءَ فى العمل ..
وكثيرًا ما تراهم يلتفون صانعين دائرة محكمة الإغلاق حول خمسة أو ستة أرغفة من العيش البلدى البائت من ليلة أمس وخمسة حبات أو يزيد من طعمية مطعم المصرى وقطعة صغيرة.. صغيرة جدًا من الجبنة (الحادقة) وربطة جرجير صغيرة تقبع دون غسيل.. عشرات الأيادى ممتدة طمعًا فى أخذ لقمة..
لقمة واحدة وبعدها تجدهم الواحد تلو الآخر يقبل يده ( وش وضهر ) يحمد ربه عن رضى.. بل ويرجوه ويتوسل إليه أن يديمها عليه نعمة وأن يحفظها من الزوال ..
متثاقلة قامت من نومها الشمس لتوها مرسلة خيوطها ..
سريعًا .. سريعًا يسرى فى أجسادهم الدفء ..
انتعشت الكلمات التى استيقظت لتوها .. فراحوا يتبادلون أطراف الحديث :
– مالك من ساعة ما جيت من البيت وانت شايل طاجن ستك على دماغك ..؟!
– آه ه ه ه أنا مش شايل طاجن ستى بس، لأ دأنا شايل طاجن ستي وستك وست الناس دى كلهم .. أنا أصلى سايب مراتى فيها وجع الولادة من تلات ليالى وخايف تعملها دلوقتى وأنا زى ما انت شايف.. يامولاى كما خلقتنى ..
تبسم ثم أردف يقول :
– لو بإيدى كنت أقول للعيل اللى ح ييجى ما تطلعش دلوقتى خليك عندك شوية ..
من الجانب الآخَر قال آخر :
– الواد راسه وألف جزمة قديمة ما يروح المدرسة و…..
قاطعه ثالث فى حدة :
– ليه هو كره المدرسة …؟!
– لأ .. كرهنى آنى ..
الأول راح يحدق فى وجهه بشدة ..
– ما تبحلقش كده .. والله زى ما باقولك كده .. إنت عارف ده كله ليه ..؟!
رد رابعهم فى سرعة ولهفة :
– ليه ..؟!
– عشان مش معايا أدفعله تمن كتب المدرسة ..
ومن الجانب الأيمن جلس شاب قد جمع بعض الحصوات أمامه وراحت أصابعه تحركها فى أماكن عدة وهو يُحَدِّث نفسه فى غيظ شديد قائلًا :
– طب أسمع كلام أمى ..؟
( طلقها أم بوز يقطع الخميرة من البيت .. ولك عليَّا أجيب لك من الصبح ست ستها )
واللا أسمع كلام مراتى ..؟
( شوف لنا حتى أوضه واحدة فى أى مكان عشان نرتاح من نقار أمك اليوماتى )
واللا أسمع كلام نفسى ..
( سيب لهم البيت واهرب بجلدك فى أى داهية )
فى حديث هامس لا يسمعه غيره راح شاب يحدث السماء فى حزن :
– افرجها .. افرجها يارب ..
فجأة ..
توقفت عربة فارهة جدًا .. جدًا
تلك العربة التى يكاد طولها يصل من أربعه إلى خمسة أمتار .. قاطعة عليهم حديثهم ..
فى سرعة الصاروخ راحوا يلملمون أحزانهم المبعثرة فى كل مكان فيما بينهم وقيدوها ثم فى هدوء وضعوها فى أماكنها داخل صدورهم ..
فى آلية منتظمة وقفوا جميعًا ..
حَدَّث أحدهم نفسه فى جنون :
– يا خرابى يا ولاد .. العربية طولها طول البيت بتاعنا كله .. بس الحقيقة تتقال مش بالنضافة ولا بالجمال ده ..
تبعه الآخر الذى راح يضرب كفًا بأخرى فى ذهول :
– يا ا ا ا ا ا نبى .. دى كلها عربية ..
ثم مال على الثانى الذى راح يحدق بشدة فى العربة وراح يسأله :
– والنبى دى عربية بحق وحقيقى واللا أنا دايخ من قلة الشغل ..
لم يستطع الثالث أن يجيبه لانشغاله التام بحديثه الجارى بينه وبين نفسه عن هذه العربة التى لم تر عينه مثيلًا لها من ذى قبل حتى ولا فى الأحلام ..
أتبعه ثالث بصوت عال وهو يرفع يديه إلى صدر السماء وهو يقول :
– اوعدنا يارب ..
رد عليه الآخر :
– الجربان ح يفضل طول عمره جربان ..
فى بطء شديد نزل صاحب العربة يتقدمه كرشه المنتفخ عن آخره ..
يرتدى نظارة شمسية سوداء اللون ..
يقبض بأصابعه الخمسة على هاتفه المحمول الضخم ..
وفى اليد الأخرى علبة سجائر أجنبية ..
تطوق رقبته سلسلة حلزونية ضخمة متشابكة من الذهب البراق كأشعة الشمس ..
فى بطء وتعال شديدين راح يخطو خطوات نحوهم ..
نظر بعضهم إلى بعض، وسرعان ما هرولوا إليه ..
وجد نفسه قد حوصر وسط دائرة من الهياكل البشرية قد مُصَّت دماؤها تمامًا… أو هكذا خُيِّل إليه ..
راح يضحك ..
ويضحك ..
حتى دمعت عيناه كثيرًا..
ورويدًا .. رويدًا راحت ضحكاته تتوقف، ولم يتوقف كرشه الممتد أمامه عن هزاته المتكررة ….
عادوا يتبادلون النظرات فيما بينهم مرة أخرى غير فاهمين ما يحدث ..
ذو الكرش المنفوخ راح يقول فى ثقة :
– أنا …..
توقف عن الكلام فجأة ليرد على تليفونه المحمول ..
– آلوه ..
أيوه يا باشا اطمِّن وسيب الجرايد تهبِّل وتطلع كل اللى عندها .. كلمتنا إحنا هى اللى حتمشى فى النهاية .. إيه .. هاء .. هاء .. هاء .. لا يا باشا حط فى بطنك شادر بطيخ .. مع السلامة نتقابل على خير بكرة ..
عاد ذو الكرش المنفوخ يحدق فى وجوههم مرة أخرى ..
الواقفون من حوله ينتظرون فى لهفة شديد سماع صوت كلماته التى توقفت فجأة ..
عاد يقول لهم بعد أن راح يحك مقدمة رأسه طويلًا :
– فكرونى أنا كنت باقول إيه ..؟
مبتسمين وفى صوت متوحد يغلفه حزن دفين قالوا :
– حضرتك قلت أنا وبعدين سكت ..
– هاء ..
هاء ..
عادت ضحكاته تنطلق من جديد ..
واقفين ..
يبتسمون ..
مستسلمين ..
لسماع ضحكاته التى راحت تطول .. وتطول حتى توقفت أخيرًا ثم عاد يقول :
– أنا عاوز منكم اتنين يطلَّعوا لى أسمنت فى الدور التالت من القصر ..
اقتربوا منه أكثر .. فأكثر حتى كاد الرجل أن يسقط على ظهره لولا كرشه البارز أمامه فى قوة .. كان له سدًا منيعًا فيما بينه وبينهم ..
كل منهم راح يدلو بدلوه .. :
– أنى ..
معترضًا قال ثان :
– أنى ..
– وأنى ..
– لأ .. أنى .. بقالى أسبوع ما طلعتش شغلانة ..
– لأ .. أنى مؤهل عالى يا بيه ومش لاقى شغل ..
– أنا يا بيه .. عليَّا الطلاق بالتلاتة أنا عندى ست عيال .. وأربع عيال من أختى الغضبانة عندى من أسبوع .. والنبى يا بيه ارحمهم وارحمنى وخدنى معاك ..
فى ذهول ظل الرجل ذو الكرش المنفوخ يتراجع ويتراجع للخلف ..
فى محاولة منهم لإيقافه راح بعضهم يمسكه من يده .. من كتفه .. من ثوبه ..
حتى أن منهم من جلس على ركبتيه يحتضن بشدة قدميه حتى يوقف زحف سيره للخلف وهو يبكى مرددًا :
– خدنى .. خدنى والنبى يا بيه ..
الرجل الواقف ذو الكرش المنفوخ لم يصل إلى حل ..
كيف يقوم باختيار اثنين من كل هذا ..؟!
تبسم عندما طرقت باب رأسه فكرة ..
تلك الفكرة التى دومًا ما يلجأ إليها عندما يواجه قوتين ..
فى خبث وذكاء أمسك بالكرة ورمى بها فى ملعبهم .. وراح يقول :
– خلصونى أنا وقتى كله بفلوس .. اختاروا من بعضكم اتنين
نظر بعضهم إلى بعض دون أن يتفوه أحدهم بكلمة واحدة
أردف الرجل شاخطًا فى وجوههم فى قوة :
– أنا عاوز منكم اتنين قدامى هنا فى دقيقة واحدة ..
فجأة ..
تعالت أصواتهم ..
– أنى ..
– لأ أنى ..
– ولا إنته ولا هو أنى ..
فجأة ..
تشابكت أياديهم ..
وسالت دماؤههم ..
الفائز منهم بعد أن يوقع بزميله المهزوم أرضًا يسرع إلى الرجل ذى الكرش المنفوخ الواقف فى سعادة لمشاهدته المباراة الدامية ليخبره بفوزه الساحق وأنه الأحق فى أن يأخذه ..
أليس هو الأقوى ..؟!
أليس هو الفائز .. ؟!
نصفهم غارق فى بحر من دمائهم ..
ونصفهم الآخَر يقف متماسكًا منتظرًا إعلان النتيجة النهائية
صعقته المفاجأة ..
غرس عينيه فى الجميع ..
مر وقت طويل دون إعلان النتيجة ..
أسرعوا إليه ..
أمسكوا بتلابيب ثوبه حتى كاد أن يمزق ..
التفت نحوهم وقال بزهو ونبرة استعلائية :
– أنا عاوز اتنين .. اتنين منكم ..
مبتسمًا راح يستمع فى تلذذ شديد إلى صرخاتهم الخارجة منهم فى قوة :
– أنى ..
– لأ أنى ..
– ولا إنته ولا هو أنى ..
– وأنى ..
الطفل الجالس داخل عربة أبيه فتح باب السيارة ..
فى بطء وصعوبة بالغة راح يخرج جسده الضخم من فم باب السيارة المفتوح عن آخره ..
خرج الطفل يصطحب فى يده كلبًا أسود يطوق رقبته هو الآخر بحلقة من الذهب الخالص ..
الطفل أمر الكلب أن يتحرك بالهجوم عليهم ظنًا منه أن أباه فى خطر ..
– هو .. هو .. هو ..
انطلق الكلب الأسود الضخم تسبقه إليهم هوهواته ..
راح الكلب يغرس أسنانه الحادة فى أجساد الملتفين من حول الرجل ..
تساقط الواحد تلو الآخر كأوراق الشجر فى الخريف ..
عاد الرجل ذو الكرش المنفوخ إلى العربة مصطحبًا ابنه فى يده، وقبل أن تنطلق السيارة أسرع الكلب الأسود بالركوب معهم
سرح الرجل ببصره فى الفضاء اللانهائى من زجاج سيارته
انطلقت العربة التى راحت تهتز .. وتهتز؛ من جراء ضحكات الرجل ذى الكرش المنفوخ الذى ما زال يطلق نظراته التى راحت تخترق أجسادهم الغارقة فى دمائهم كحد السكين .
تمت