الجسر الذي يقف عليه ابراهيم الان تجري من تحته مياه النهر وفوق راسه باتجاه الشرق شمس متوهجة تختفي احيانا خلف غيوم عابرة تتراكض مثل وحوش برية . ان شمس الربيع الدافئة تضيء الان عالم المدينة الغامض …
ظل طوال فصل الشتاء يرتدي نفس المعطف الثخين الاسود .. اما اليوم فهو يرتدي ثيابا خفيفة واحس بذلك بانه قد تخفف من عبء ايام الشتاء الكئيبة . وكان يتكئ بذراعييه على حاجز الجسر ويتامل جريان النهر و يرى شبها بينه وبين المياه المنسابة . بين هذه المياه المتحركة وبين لحظات الزمن الماكر التي تفلت من يديه . .
وقبل ان يصل الى هذا المكان الهادئ كان قد قضى بعض الوقت في المدينة . وقارن بين هذا الهدوء وبين الهرج هناك . بين صخب النهر المريح وبين صخب السيارات وثرثرة الناس في المقاهي . كان هناك ضائعا وغريبا عن نفسه . اما هنا فقد استعاد ذاته القلقة وهو يقرا عالمه الخاص عبر لغة الماء .. لغة الشمس .. ولغة الطيور والاشجار . فكر بانه مهما بلغت صناعة الانسان .. مهما بلغ ذكاؤه .. مهما بلغت المباني والمصانع والمدن من درجة الاتقان فان لحظة واحدة من الوقت يقضيها المرء في تامل عالم الطبيعة كافية لتكشف عن اوهامه وغطرسته .. لذلك ترك ابراهيم المدينة وراءه وحل ضيفا عابرا على هذا المكان ..
وترك وجهه عرضة للشمس واحس وهو يتلقى الاشعة بشيء دافئ يتغلغل في داخله .. بدا يشعر بافكاره .. بذكرياته .. برغباته الحية وهي تدور في فلك مضيء .. كم انا شخص حالم ! . فكر . وفتش عن علبة سجائر في جيب سرواله وتناول سيجارة واشعلها تاركا الدخان ينساب بهدوء من انفه وفمه . ان جسده الان يغلي تحت اشعة الشمس المتوهجة وتحت فوران رغبات متداخله .. انه يفكر حقا في امراة . ذلك الكائن الذي يطغى بحضوره كلما غاب .. وهاهو الان يدخن بشراهة ويفكر في النبيذ والنساء .. وبمصيره في هذا العالم ..
وبدا ينظر حوله بحذر وكانت دراجات هوائية تمر عبر الجسر . يقودها مراهقون متعجرفون انانيون ومستهلكون .. لا يقرؤون ويطعنون في الماضي ويعتقدون بان عصرهم هو افضل العصور .
وشعر بعقب السيجارة المشتعل يخزه في اصبعه فصدرت عنه اي ! . رمى بالعقب على الارض وسحقه بحذائه وترك عينييه تجولان في الفضاء الممتد امامه . فخلف النهر ارض منبسطة تكسوها خضرة يانعة يحدها طريق مسفلت وخلف الطريق مباني بيضاء متفرقة .تنتشر حولها اشجار كثيفة … ومن هناك كان يرى احيانا طيورا سوداء ترسم خطوطا في الفضاء الى ان تقترب من النهر … ثم يراها تواصل رحلتها ويتابع المشهد بالحاح بنظراته الى ان تختفي بعيدا … واحيانا كان يستوي في وقفته حين تتعبه صلابة الحاجر تحت مرفقييه ويفكر في هذا المكان وفي المدينة الصاخبة التي سيعود اليها فيما بعد ..
وفكر بان الربيع قد حل وبان المدينة ستغض اكثر بالناس الذاهبين الى العمل او الجالسين في المقاهي ياخذون حمام الشمس .. يشربون البيرة ويشتهون النساء في صمت ! .اما ابراهيم فهو يفكر بالديون التي عليه ان يدفعها وبمدرسة اللغة التي يذهب اليها مكرها وبالعمل المرهق وبالعلاقات الانسانية الغامضة .
وكان العالم هنا بكل الهدوء الذي يشمله يتسرب الى نفسه .. وكلما ازاداد شعوره بالمكان هنا كلما نسي الحياة في المدينة . فهنا يشعر بحريته كامله .. لن يقول له اي احد لا تفعل ذلك ! . فليس هنا قوة خارجية تجبره الان على القيام باشياء فوق طاقته . كل شيء هادئ رغم صخب النهر .. ورغم ذلك يعرف انه سيترك هذ المكان مثلما ترك اماكن كثيرة في حياته …