الشعر مملكة خاصَّة، مملكة يُتوَّج فيها الشَّاعر الحقيقي ملكًا أو أميرًا، ليس بحسب الجاه والسُّلطان، كما في الممالك الكونيَّة التي نعرفُها، إنَّما بمعايير أو مقاييس مُغايرةٍ تمامًا، فالشَّاعر الحقيقي هو الذي يمتلك ناصية لُغته العربيَّة الجميلة امتلاكًا حميمًا وأثيرًا، هو مَنْ يسمُو بالمشاعر والأحاسيس فوق مُستوي المحسُوسات والمنظُورات إلى مُستوى آخر غير محسوس أو منظُور، هو الذي يقطف ومضاته الشِّعريَّة من نبض الإنسان.. آلامه، وأحزانُه، آمالُه وأمانيه، هو مَنْ يسبح في فضاءاتٍ كونيَّة لا نهائية.. «محمَّد إبراهيم أبُو سنَّة» هو هذا الشَّاعر.
إنَّ كُلَّ مَنْ يقرأ دواوينه الشِّعريَّة يستشعر هذا، ويحُس به ويُدركه، فلا يُصبح للمجاملة أو إضفاء صفات البُطُولة الزَّائفة لها مكان قط ونحن نُؤرِّخ له.
وُلد الشَّاعر«محمَّد إبراهيم أبُو سنَّة» في قرية «الودّي»، مركز «الصَّف»، محافظة «الجيزة» في 15 مارس عام 1937م، انتقل من القرية إلى القاهرة حيث درس بالأزهر الشَّريف وحصل منه على شهادة الليسانس قسم الدِّراسات العربيَّة في عام 1964م.
تعدَّدت أعمال الشَّاعر ما بين دواوين، ومسرحيَّات شعريَّة، ودراسات نقديَّة، من أهمِّ دواوينه: «قلبي وغازلة الثَّوب الأزرق»،«أجراس المساء»، «تأمُّلات في المُدُن الحجريَّة»، «البحر موعدنا»، «رماد الأسئلة الخضراء»، «رقصات نيليَّة»، «ورد الفصُول الأخيرة». ومن مسرحيَّاته الشِّعريَّة: «حمزة العرب»، «حصار القلعة»، أمَّا عن أهمِّ دراساته الأدبيَّة والنَّقديَّة، فمنها: «فلسفة المثل الشَّعبي»، «دراسات في الشِّعر العربي»، «قصائد لا تموت»، «ربيع الكلمات»، «آفاق شعريَّة»، «ظلال مضيئة».
عمل الشَّاعر مديرًا عامًا للبرنامج الثَّقافي بالإذاعة المصريَّة، ونال عِدَّة جوائز أدبيَّة مُهمَّة، منها: جائزة كافافيس، جائزة الدَّولة التَّشجيعيَّة، جائزة محمَّد حسن الفقي عن مؤسَّسة يماني السُّعوديَّة، جائزة التفوُّق في الآداب التي تُعدّ من كُبرى الجوائز التي تُمنح في مصر.
وقد كان لمجلة «بصرياثا الثَّقافيَّة» هذا الحوار، مع الشَّاعر:
* الحُبّ والحسرة واللَّوعة مشاهد تتصاعد من بعض قصائدكم، لذا يُؤكِّد بعض النُّقَّاد بأنَّك من الشُّعراء الذين يتميَّزُون بحسٍّ رومانسيٍّ مُرهفٍ.. إلى أيِّ مدى يصدق هذا الطَّرح ؟
– أعتقدُ أنَّ هذا الرَّأي طرقه بعض النُّقَّاد بعد قراءة مُتعجِّلة، وفي محاولة للمُقارنة بين ما كانت الموجة الأوَّلى من حركة الشِّعر الحديث من تصوُّر للعالم سُمِّي في ذلك الوقت «التَّصوُّر الواقعي»، البعض تصوَّر أنَّ اهتمامي بالطَّبيعة واستلهامي لكثيرٍ من رُمُوزها في تجربتي الشِّعريَّة بأنَّني قد أكون رُومانسيًّا، وأعتقد أنَّ نتاجي الشِّعري يُفصح عن شيء آخر غير الرُّومانسيَّة، فدواويني مُنْذ ديواني الأوَّل «قلبي وغازلة الثَّوب الأزرق» هو انفتاح شعري وإنساني، وهذا الانفتاح مُسلَّح بقدرٍ من الوعي العميق بما يجري في حركة المُجتمع، والتَّعبير يتوسَّل بالعناصر التي أتاحتها حركة الشِّعر الحديث، بالأساطير أو تراسُل بين فنّ الشِّعر والفُنُون الأخرى كالفنِّ التَّشكيليِّ، أو فنِّ المسرح.
ودَّعني أذكُرُك بأنَّ هُناك مِنْ النُّقَّاد مَنْ طرحُوا مفهُومًا آخر يُعارض هذا المفهُوم، مفهُوم الرُّومانسيَّة، الذي وصفت به تجربتي الشِّعريَّة، منهُم على سبيل المثال، النَّاقد الكبير «محمُود أمين العالم» في مقالٍ له عن ديواني: «ورد الفُصُول الأخيرة»، وبعد أنْ قام بتحليلٍ مُوجزٍ ومُكثَّفٍ لتجربتي الشِّعريَّة انتهي إلى وصف تجربتي الشِّعريَّة بأنَّها: «الواقعيَّة الغنائيَّة»، وهناك الدكتور«مُحمَّد مُصطفي هدَّارة» الذي كتب دراسة طويلة، بعُنوان: «رُمُوز الطَّبيعة في شعر مُحمَّد إبراهيم أبُو سنَّة» عارض فيها بشدَّةٍ مُصطلح الرُّومانسيَّة فيما يتعلَّق بشعري، وقال إنَّ الذين يصفون تجربة «أبُو سنَّة» بأنَّها رُومانسيَّة لم يقرءُوا شعرُه قراءة حقيقية.
* النُّزُوح من القرية الهادئة الآمنة إلى المدينة الصَّاخبة هي نقلة نوعيَّة في حياتك، لذا دعني أسألُك: ماذا شكَّلت المدينة في وجدانك ؟ وهل يُمكن اعتبار المدينة هي الصَّدمة الكُبرى في حياتك ؟
– القرية التي تحدَّثت عنها في دواويني ليست هي قرية الرُّومانسيِّين التي أحلُمُ بالهرب إليها، كما أنَّها لم تكُن هي هذه البيئة الوادعة السَّعيدة المُطمئنة، بالعكس كانت القرية التي نشأت فيها قرية بسيطة يميل أبناؤُها إلى الفقر والتَّعاسة، فقد كان النيل يهدم نصف منازلها حينما يجتاحُها الفيضان فبل إنشاء السَّد العالي، وكنت أتلقَّى – يوميًّا – مع بُزُوغ الصَّباح فيضًا من القصَّص الحزينة التي كان يمتلئ بها بيتنا حين كان يتوافد أبناء القرية ليقُصُّوا مآسيهم على مسامع والدي، الذي كان يتَّسم بقدرٍ من الرَّحمة والتَّعاطُف وسعة الصَّدر. أنا رحلت عن القرية في العاشرة من العُمْر، في سن الغضاضة، ورُبَّما قبل أنْ يتفتَّح الوعي، ولكنّ جزء من وعيي كان قد تشكَّل من خلال مُلامساتي الحسِّيَّة مع هذا الواقع المُؤلم. وحين انتقلت إلى المدينة، كُنت واحدًا من ملايين النَّاس، كُنت أتجوَّل كثيرًا في الشَّوارع وأذكُرُ أنَّني تعرَّضت لمحاولة سرقة، كانت هُناك عصابة تُحاول سرقتي في ميدان العتبة لولا أنَّني قُمت بمُراوغتهم، ومُنذ ذلك اليوم اكتشفت غدر هذه المدينة، ولكنّ رؤيتي للمدينة رؤية حضاريَّة، بمعنى أنَّ هذه المدينة تُمثِّل مرحلة من التَّقدُّم في السِّياق الحضاري الإنساني، وأنَّها خطوة هائلة بعد القرية.
المدينة كما تعلَّم هي مدينة تفتقد إلى دفء العلاقات الإنسانيَّة، إلى التَّحاوُر، إلى التَّعاطُف، ولكنّ هذه المدينة عبَّرت عنها في ديواني: «تأمُّلات في المُدُن الحجريَّة»، في مرحلةٍ كنت قد خبرت فيها الكثير من التَّجارب الإنسانيَّة، وبدأت أُعايشُها مُعايشةً واقعيةً، فكُنت أتعامل معها بقيمها السَّلبيَّة والإيجابيَّة.
* في قصيدة «الدَّمعة والسَّيف»، تقُول: أنْ تُصبح كُلّ طُقُوس الحقد شعار العالم / أنْ تتحجَّر كُلّ البسمات / في وجه الظُّلم / أنْ يتآكل في الظلِّ جميع الضُّعفاء.. هذه الأوضاع المُتردِّية، وهذه السَّقطات الإنسانيَّة المُروعة من حقدٍ وظُلمٍ وجهلٍ ونفاقٍ.. كيف شكَّل هذا الصِّراع المُحتدم بين الأخلاقي واللَّاأخلاقي، بين القيم واللَّاقيم، رُؤيتُك ووجدانُك ؟
– من البداية فإنَّ التَّكوين الدَّيني من خلال تعليمي في الأزهر، والبيئة الريِّفيَّة التي نشأت فيها، وانحيازي إلى جانب الضُّعفاء والبُسطاء والكادحين الذين رأيتُهُم أوَّل ما رأيتُهُم في قريتي وهُم يصمُدُون ويكدحُون ويزرعُون ولا يحصُدُون، هذه البيئة الواقعيَّة والفكريَّة والثَّقافيَّة والعقيديَّة شكَّلت ما يُسمَّي بالضَّمير الداخلي الذي جعلني دائمًا في حالةٍ من الاستنفار للتَّجاوب مع ما يجري حولي للاستماع والمُشاركة، والحقيقة أنَّني أستطيع أنْ أقول لك ورُبَّما لأوَّل مرَّة، أنَّني دائمًا كُنت مُرهف الحس فيما يتعلَّق بالآخرين، فأنا أُبالي دائمًا بالآخرين، أنا لستُ كائنًا مُنطويًا على ذاته، وإنَّما حياتي مُنذ الطُّفُولة كانت وعيًا بالآخر، وهذا الآخر في تصوُّري هو آخر يتجاوز فكرة العشيرة إلى فكرة المُواطنة. الآخر عندي هُو الإنسان، الإنسان في كُلِّ تجلِّياته، لهذا تستطيع أنْ تقُول أنَّ جوهر الرُّؤية الإنسانيَّة في تجربتي الشِّعريَّة ليست بهذا المعيار الضّيق على المستوي الأخلاقي، ليست معيارًا أخلاقيًّا بحتًا، وإنَّما هُناك ضمير لا نُسمِّيه ضميرًا أخلاقيًّا بقدر ما نُسميه ضميرًا أدبيًّا، هذا الضَّمير الأدبي يواجه العالم بمجموعةٍ من القيم التي هي أكبر وأهم من المُحيط المحدُود من المُعتقدات الخاصَّة، وإنَّما هُو ضمير أدبي ينفتح بشكلٍ إنسانيٍّ على الآخرين. لقد تكوَّنت بطريقةٍ أخلاقيَّةٍ، وتمرَّدت – إلى حدٍّ ما – على الواقع الذي عشت فيه، وحاولت أن أُشكل مفاهيمي ومُعتقداتي الخاصَّة من خلال قراءاتٍ واسعةٍ في الفلسفة، وعلم الجمال، والرِّواية، والمسرح، فالضَّمير الأدبي هُنا ليس مُجرَّد وعي أخلاقي بالعالم وإنَّما هو يُمثِّل وعيًا بالعالم عَبْر مجموعة من القيم التي اقتبستُها من مُعايشتي للواقع، ومن تجاوُزي للأُطُر التَّقليديَّة التي نشأت في ظلالها.
* إلى أيِّ مدى يُمكن أنْ نُوصِّف ولعُكُم بالأساطير المصريَّة القديمة ؟ ومتى يمكن للأُسطُورة أنْ تُثري العمل الفنِّي دُون ترهُّل أو إقحام ؟
– من العناصر التي دخلت القصيدة الحديثة فكرة استلهام الأُسطُورة، وأنا جرَّبت هذا في مرحلةٍ وكُنت استلهم الأساطير اليُونانيَّة لأنَّني كُنت اقرأها في فترةٍ مُبكِّرةٍ، ولكنّ فكرة استلهام الأساطير ينبغي ألَّا تقف عند حُدُود، بل لابُد من استلهام التُّراث الإنساني كُلَّهُ، وتُراثُنا المصري بطبقاته الفرعونيَّة والقبطيَّة والإسلاميَّة والعربيَّة والعصريَّة هذا التُّراث هو ما يُشكِّل الكائن الحيّ الآن، لا يمكن أنْ أفصل بين حقبة وأخري، كُلُّ هذا التُّراث يصُبُّ في الإنسان المصري الآن، ولابُدّ أنْ ينبعث هذا التُّراث ليُشكِّل نوعًا من الثَّراء والأفق الثَّقافي والتُّراثي لكي ينعم الإنسان المصري بهذه الثَّروة الثَّقافيَّة. أنا مُولعٌ بصهر كُلّ المراحل التَّاريخيَّة لأنَّني أُريد الكشف عن هذه الكُنُوز الدَّفينة في العُصُور التَّاريخيَّة المُختلفة، حتى إذا نهضت هذه الكُنُوز وتفاعلت وشاركت في الحاضر أصبح الحاضر أكثر ثراءً وأغني قُوَّةً..
* يعترض الشَّاعر الفلسطيني الكبير «محمُود درويش» على ما يُسمَّي قصيدة النَّثر وإنْ كان لا يُنكر أنَّ النَّثر يُمكن أن يُقدِّم شعريَّةً عاليةً. ما تعليقُكُم ؟
– أنا أتَّفق مع الشَّاعر«محمُود درويش» أنَّ قصيدة النَّثر فيها قدرًا من (الشَّاعريَّة)، ولكنَّ (الشِّعريَّة) أو الشِّعر هو فطرةٌ مُوسيقيَّةٌ في كُلِّ لُغات العالم، الشَّاعر يُولّد بفطرةٍ موسيقيَّةٍ، وهذا ما يُميِّز الشِّعر عن النَّثر، قصيدة النَّثر هي تشكيل أدبيٌّ يتوسَّل بلونٍ من المجازات والخيال والاستعارات، ولكنَّه يفتقد رُوح الشِّعر، ومرَّة كتبت في أحد المقالات، أو رُبَّما في أحد كُتُبي: هل تموت المُوسيقا ويظلُّ الشِّعر حيًّا ؟، لا أظُنُّ ! المُوسيقا هي رُوح الشِّعر، وليست المُوسيقا وحدها، ولكن الخيال أيضًا، فالذين يكتُبُون قصيدة النَّثر يُريدُون للشَّاعر أن يترَّجل من سمائه العالية ويمشي على الأرض على قدمٍ واحدةٍ ! قدَّم الخيال، بينما للشِّعر: إيقاعٌ وخيالٌ.
* هُناك حيرةٌ قد يقع فيها المُبدع عادةً بين ما يُرضيه هُو كمبدع وبين ما يُرضي القارئ أو المُتلقِّي.. ويقيني أنَّ مُشكلة التَّواصل بين المُبدع والقارئ مُشكلة مُحيِّرة… بماذا يُعلِّق شاعرنا ؟
– هذه ليست قضيَّةً عمديَّةً، بمعنى أنَّ الشَّاعر يقصد أنْ يُخاطب جُمهُورًا مُعيَّنًا، لأنَّ أي شاعر لا يعرف مَنْ هم جُمْهُوره على وجه التَّحديد، ومَنْ الذي يقرأ له، ومَنْ الذي لا يقرأ، وهل مَنْ يقرأ له يفهمُه ؟ أو ما هو مستوى هذا الجمهور الذي يقرأ له، الشَّاعر لا يعرف جُمهُوره على وجه التَّحديد إلَّا إذا كان شاعر يتَّجه إلى مستوى مُعيَّن من القُرَّاء.
أنا أتصوَّر أنَّ الشَّاعر يكتُبُ ما بداخله، ومُحاولًا أنْ يرضي شُرُوط الفنّ الرَّفيع. لابُدّ أنْ يكتُب وهُو يطمع في أنْ يُبدع شيئًا رائعًا، ولكن كيف يتلقَّى القُرَّاء هذا الذي سيكتُبُه، هُنا تنشأ فكرة الوعي بالآخر، لو أنَّ الشَّاعر على وعيٍ بقضايا مُجتمعه ويهمُّه التَّعبير عن هذا المُجتمع، عن هذه القضايا الإنسانيَّة، فإنَّه بطبيعته سوف يصُوغ رسالته الأدبيَّة بطريقةٍ يجعلها مقبُولة من القُرَّاء. الموقف هو موقف الوعي من الحياة، وليس مُجرَّد القصد أنْ يكتب للآخرين، لأنَّ الآخرين يُمكن أنْ يقرءوا له، أو يقرءوا لغيره، ليست هذه القضيَّة، هي قضيَّة الكاتب الذي عليه أن يُعبِّر عمَّا بداخله تعبيرًا صادقًا حقيقيًّا مُتطلِّعًا إلي إنجاز عمل أدبي رائع أمَّا فكرة القُرَّاء، فإنَّ القُرَّاء الذين يهُمُّهُم هذا العمل ويُعجبهم سوف يقرءونه، ولا أظُنُّ أنَّه يُمكن تضليل القُرَّاء على الإطلاق، القُرَّاء يعرفُون مستوي كتاباتُك، ويقرؤون الأدب الجيد، فالشَّرط الأوَّل الذي ينبغي أنْ يسعي لتحقيقه الكاتب، هو أنْ يكتب أدبًا جيدًا، أمَّا أنْ يتَّجه هذا الأدب إلي جُمْهُورٍ ما.. فلا !