أديبٌ مصريٌ، أبدع في مجال الرِّواية والقصَّة القصيرة، فكانت له شخصيَّته الفنِّيَّة والفكريَّة المُستقلة وسط أبناء جيله، جيل السِّتينيَّات مِنْ القرن المُنصرم. في كتاباته.. يتبدَّى بسيطًا سهلًا مُقْنِعًا، ولكنَّه في حقيقة الأمر عميق الأغوار، غزير الإحساس، بعيد المدى في التقاطه الشُّموليَّة الَّتي تُسجِّل وتتجاوز الطَّبيعة والواقع والنَّاس والتَّكتُّلات للأشياء المُترابطة، دُون أنْ يفقد القُدرة على اكتشاف التَّفاصيل ومعرفتها وفحصها وتعريتها، وتقديم نمُوذج الإنسان العادي المغمُور المطحُون في سُلَّم التَّركيب الطَّبقي الاجتماعي، سواء في الريف أو المدينة.
—
وُلِد «مُحمَّد أبُو المعاطي أبُو النَّجا» في 7 فبراير عام 1931م، بقرية «الحصاينة»، مركز «السِّنْبلاوين»، بمحافظة «الدَّقَهْليَّة» شمال شرق الدِّلتا المصريَّة. نال تعليمه في المعهد الدِّيني بمدينة «الزَّقازيق»، ثُمَّ التحق بكُلِّيَّة دار العُلُوم، جامعة القاهرة، حيث حصل على ليسانس اللُّغة العربيَّة في عام 1956م. كما نال دبلُوم التَّربية مِنْ كُلِّيَّة التَّربية جامعة عين شمس.
عمل مُدرِّسًا لمادة اللُّغة العربيَّة بالمرحلة الإعداديَّة بمدينتي «المنصُورة»، و«القاهرة» في الفترة مِنْ عام 1958م وحتَّى عام 1961م، ثُمَّ عمل رئيسًا لتحرير مجلَّة المجمَّع اللُّغوي في الفترة مِنْ عام 1961م وحتَّى عام 1974م.
سافر للعمل بدولة «الكُويت» في الفترة مِنْ عام 1974 حتَّى عام 1990م ليعمل فترة بالهيئة العامَّة للتَّعليم التَّطبيقي والتَّدريب، ثُمَّ مُحرِّرًا بــــــــ «مجلَّة العربي» الكُويتيَّة، ومسؤُولًا عن القسم الأدبي بها، كما أشرف على«مجلَّة العربي الصَّغير» مُنْذُ صُدُورها عام 1986م، ثُمَّ غادر دولة «الكُويت» بسبب الغزو العراقي. وفي مصر تولَّى إدارة مكتب «مجلَّة العربي» بالقاهرة.
وقد رحل الكاتب الكبير «أبُو المعاطي أبُو النَّجا» في مساء يوم الثُّلاثاء الموافق 20 ديسمبر 2016م، متأثرًا بالتهابٍ رئويٍّ حادٍّ، عن عُمْر يُناهزُ( 85) عامًا.
استهلّ إنتاجُه الأدبيّ بالمجمُوعة القصصيَّة «فتاة في المدينة» عام 1960م، وقدَّم لها النَّاقد الكبير «أنور المعداوي» (1920-1965م)، ونشرتها دار الآداب البيرُوتيَّة, ثُمَّ تلتها هذه المجمُوعات القصصيَّة: «الابتسامة الغامضة» (1963م)، «النَّاس والحُبُّ» (1966م)، «الوهم والحقيقة» (1974م)، «مهمَّة غير عاديَّة» (1980م)، «الزَّعيم» (1982م)، «الجميع يربحُون الجائزة» (1984م)، «في هذا الصَّباح» (1999م).
وفي عام 1969م أصدر رائعته رواية «العودة إلى المنفى» وهي تتناول حياة الثَّائر المصري «عبد الله النَّديم» (1842 – 1896م)، خطيب الثَّورة العُرابيَّة وأحد أهمّ رجالها المُخلصين. وفي عام 1975م أصدر رواية بعنوان: «ضِدّ مَجْهوُل». أمَّا كُتُبُه النَّقديَّة فقد بدأها بكتاب: «قراءات في الرِّواية العربيَّة» عام 1985م، ثُمَّ كتاب: «طُرُقٌ مُتعدِّدةٌ لمدينةٍ واحدةٍ» عام 1997م.
تفتح وجدانه الأدبي على قراءات «ألف ليلة وليلة»، و«سيرة أبُو زيد الهلالي»، وغيرهما مِنْ السَّير الشَّعبيَّة، وقد قال ذات يوم: «كانُوا يَطْلُبُون منِّي قراءتُها لهم، فيملؤني شُعوُر بالاعتزاز بنفسي. كذلك فتح لي «مُصطفى لطفي المنفلُوطي»، و«جُبران خليل جُبران»، و«إيليَّا أبُو ماضي»، و«أمين الرَّيحاني».. وغيرهُم الباب واسعًا على عالم الإبداع، فبدأت أدرك أنَّ خلف حُدُود قريتي الصَّغيرة والضَّيِّقة عوالم واسعة. وهكذا بدأت الرِّحلة ورُحت أُغامر بكتابة خواطر على فترةٍ طويلةٍ، وأتعلَّم مِنْ قراءاتي وخبراتي المُستمدَّة مِنْ تجاربي».
بدأ نشاطُهُ الأدبيُّ مُبكِّرًا بنشر مجمُوعة مِنْ القصص القصيرة في مجلَّة الرِّسالة في الفترة مِنْ عام 1949 إل عام 1952م. ويكفي أنَّ الَّذي قدَّمهُ للحياة الأدبيَّة هُو النَّاقد نافذ البصيرة «أنور المعدَّاوي» (1920- 1965م) الَّذي كان مُصيبًا في الرِّهان على مُستقبل هذا الشَّابّ الرِّيفيّ الخجُول الَّذي صوَّر الرِّيف والمدينة بعينٍ جديدةٍ، ورُؤية طازجة غمرنا بها في مجمُوعاته الَّتي تكُون مرحلة مضيئة مِنْ تاريخ القصَّة القصيرة.. كذلك الرِّواية ذات الطَّابع الخاص.
حصل «أبُو المعاطي أبُو النَّجا» على جائزة الدَّولة التَّشجيعيَّة عام 1972م عن روايته «العودة إلى المنفى»، وهي تتناول حياة الثَّائر المصري «عبد الله النديم».
نستطيع القول بأنَّ «أبُو المعاطي أبُو النَّجا» قدَّم جميع أعماله الأدبيَّة مِنْ قصَّةٍ وروايةٍ في إصرارٍ ودأب، عارفًا عن طريق الدِّراسة والموهبة بخريطة القصَّة القصيرة المصريَّة والعربيَّة، وإرهاصات التَّحوُّل في المبنى والمعنى الَّتي ستحدث فيها وقت ظُهُورها، ومِنْ هُنا كان تميِّزُهُ وعدم انبهاره بالأشكال والتَّجريب الحديث المُنفصل عن تُراثها لدينا، صحيح لقد تأثَّر بأبرز كُتَّابها في الغرب، مثل: «جي دي مُوباسان» (1850- 1893م)،و «أنطُون تشيخُوف»، (1860- 1904م)، و«مكسيم غُوركي» ( 1868 – 1936م)،و «إرنست هيمنجواي» (1899- 1961م)، و«ألبير كامُو» (1913-1960م).. وغيرهُم، غير أنَّه استوعب تُراثُها العربي مِنْ: «محمُود تيمُور» (1894-1973م)، و«طاهر لاشين» (1894- 1954م)، و«يحيى حقي» (1905 – 1992م)، و«محمُود البدوي» ( 1908 – 1986م)، حتَّى «يُوسُف إدريس» ( 1927 – 1991م). غير أنَّه كان سابقًا لجيل السِّتينيَّات في عدم الوُقُوع والتَّأثُّر بــــــ «يُوسُف إدريس» والثَّورة الَّتي أحدثها في كتابة قصَّةٍ مصريَّةٍ في الشَّكل والمعنى في وجه القصَّة الأورُوبيَّة.
ورغم التَّنوُّع في أساليب السَّرد فإنَّ الغالب في تكنيك «أبُو المعاطي أبُو النَّجا» هُو اختيار ضمير «الأنا الرَّاوية» الَّذي يَدْخُل بنا في جوِّ الحدث والتَّعرُّف على الشَّخصيَّات لا بطريقةٍ يقينيَّةٍ مُدَّعيةٍ أنَّها تَعْلَمُ كُلّ شيءٍ، إلَّا أنَّ مُجرَّد راوية يُثير انتباهُنا ويجعلُنا نتواءم مع الجوّ بمُعايشة الشَّخصيَّات ويدفعُنا إلى مُتابعة التَّطوًّر الدِّرامي للحدث، وفهم المعنى المُختفي خلف الحوار أو التَّأمُّلات، السَّرد الشَّاعري المُكثَّف، والصُّور التَّعبيريَّة مركبة الجماليَّات، المنحوتة مِنْ جوّ وبيئة الحدث ومستوى ثقافة الشَّخصيَّات وتكوينها، وهُو يُوزِّع السَّرد إلى مقطُوعاتٍ تتنقَّل في الزَّمن القصص مُوازيًا الزَّمن الواقعي والنَّفسي في نفس الوقت، ويكشف عن أبعاد أعمق، وأغوار أكثر كثافة، بحيث يخرُج القارئ مِنْ مُتابعة السَّرد وهُو مُكتسب معنىً وبُعدًا جديدًا للأشياء والأشخاص الَّتي تمرُّ عليها العين العاديَّة مُرُورًا عابرًا.
لقد كان «أبُو المعاطي أبُو النَّجا» يلتقط اللَّحظة العاديَّة جدًّا.. البسيطة جدًّا والَّتي تكاد تخلُو مِنْ دلالةٍ يَعْبُرُها القارئ فلا تستوقفُه، إنَّما هي لحظات مِنْ حياتنا اليوميَّة لكنَّه يُجيد التقاطُها فتُصبح في قلمه كالزُوم في عدسة المصوِّر الفُوتُوغرافي، يَهْرُب لنا كُلّ ما تشتمل عليه مِنْ ملامح وتفصيلات دقيقةٍ فتسري فيها حياة جديدة مُتجدِّدة، صُورةٌ نراها فَنَعْبُرها فلا تُثير فينا التَّأمُل لكنَّها في تناوُل الفنَّان تختلف عن تلك الصُّورة الَّتي اعتدناها في حياتنا العاديَّة إنَّها في الواقع ليست مُجرَّد لحظةٍ إستاتيكيَّةٍ. إنَّها لحظةٌ مُتكرِّرةٌ لكنَّها تختلف مِنْ خلال تناوُلٍ ذكيٍّ عن بقيَّة اللَّحظات في حياة شخصيَّاتها وفي حياتنا.
لقد تأكَّد اعتراف النُّقَّاد بجدَّة وأصالة ما قدَّمه «أبُو المعاطي أبُو النَّجا» – مُنْذُ صُدُور مجمُوعته الأُولى: «فتاة في المدينة» عام 1960م – فيما فعله الدُّكتُور «سيِّد حامد النَّسَّاج» (1936 – 1996م) – باحث الدٌّكتُوراه آنذاك – مِنْ وضع الكاتب نموذجًا مِنْ النَّماذج المُهمَّة للاتِّجاه الفكري في القصَّة المصريَّة القصيرة، جنبًا إلى جنب مع: «توفيق الحكيم» (1898 – 1987م)، و«يُوسُف الشَّارُوني» (1924 – 2017م)، و«إدوار الخرَّاط» (1926 – 2015م)، والدُّكتُور «مُصطفى محمُود» (1921 – 2009م).
ولا عجب أنْ يتَّفق ناقدان كبيران لهُما قيمتهما الأدبيَّة الكبيرة، هما: الدُّكتُور «عبد القادر القط» (1916-2002م)، و«فُؤاد دوَّارة» ( 1928 – 1996م)، على رُؤيتهما اللَّتين تّبْدُوان كأنَّهُما مِنْ زاويتين مُتضادَّتين، فبينما يصف«فُؤاد دوَّارة» في رُؤيته التَّركيبيَّة أنَّ «أبُو المعاطي أبُو النَّجا» أشبه بالغازلة الَّتي تجمَّع خُيُوطها الدَّقيقة في أناةٍ وصبرٍ لتصنّع منها في النهاية عملًا رائعًا يُبْهر العُيُون، يرى الدُّكتُور «عبد القادر القط» في رُؤيته التَّحليليَّة أنَّ «أبُو المعاطي أبُو النَّجا» مِنْ ألمع كُتَّاب القصَّة النَّفسيَّة مصريًّا وعربيًّا، ومِنْ أبرزهم على تفتيت اللَّحظة النَّفسيَّة الواحدة إلى لحظاتٍ جُزئيَّةٍ غنيَّةٍ بالدَّلالات، وعلى توليد كثيرٍ مِنْ المعاني المُفردة مِنْ معنى كُلِّيٍ، لتُصبح القصَّة على قلمه أشبه بالقصيدة الَّتي تدُور حول إحساسٍ واحدٍ، وهُما رُؤيتان – على نحو ما نرى – تُكمل إحداهُما الأخرى وتُشيد بالسِّمة الَّتي يتميَّز بها الأسلُوب القصصي عن «أبُو المعاطي أبُو النَّجا».