بعد تناول القليل من الطعام، جلس عبد السلام أمام التلفاز رفقة أسرته الصغيرة. فجأة مادت الأرض، دوّى صوت مثل الرعد لا أحد يعرف مصدره، هل قدم من أعلى أم من أسفل؟؟ اهتزت الجدران، وانقطعت الكهرباء.. احتمت به الزوجة والأبناء.. الجميع يطلب اللطف من الله.. بعض الأواني سقطت وتكسرت في المطبخ، وزاد صوتها المشهد رعبا.. الزوجة تبكي وترتعد.. الابن البكر يقبض على جلباب والده ويصرخ.. قلب عبد السلام يرتجف.. أصوات العويل مرتفعة في الخارج.. لحظات رهيبة قبل أن تتوقف الرجة، ويخرج الجميع من البيت.. تنفس الصعداء.. تصرف مثل حكيم. أشعل المصباح، وأغلق باب المنزل، وأخذ أسرته إلى ساحة واسعة. بدأ يتبادل الأخبار مع الناس الذين بالجوار. نحيب بعض النساء لم يهدأ بعد.. الكهرباء لازالت منقطعة، والهواتف معطلة… قضوا بقية الليل في الخارج.
عاد في الصباح لتفقد البيت. تفحص الجدران. حمد الله وشكره.. لم يتصدع أو يتشقق أي جدار.. بعض الأواني التي انكسرت في المطبخ يمكن تعويضها.
ما سمعه في الأخبار بعد يومين، وما شاهده في الهاتف، جعله يبكي أحيانا في صمت، لكن من غير أن يُشعر بذلك الأبناء والزوجة والجيران. يجب أن يحافظ على هدوئه وحكمته، وقدرة تحمله. الرجل عادة لا يحب كثرة الكلام.
عندما شاهد الناس تجمع التبرعات، وتتضامن مع أسر ضحايا الزلزال، أحس بالدونية. هو أيضا يريد أن يشارك في هذه الملحمة، لكن الله غالب. الرجل بالكاد يتغلب على مصاريف البيت اليومية.. منذ ارتفاع الأسعار مع أزمة كورونا تحدث إلى زوجته وطلب منها تخفيض هذه الحاجيات إلى النصف.. أكثر من سنتين، وهو يعيش على الكفاف، وينتظر مثل العديد من المغاربة أن تعود الأسعار إلى رشدها.
جلس بعد صلاة العصر بجانب زوجته. لا بد أن يفاتحها في الموضوع، ويشرح لها ما يفكر فيه، رغم أن ذلك سيؤثر على ميزانية البيت.. حبذت الزوجة الفكرة، وقالت بأنها كانت ستفاتحه في الموضوع، لكنها تريثت.. اتفقا على أن يقسما كيس الدقيق إلى نصفين، يقتصدان في استهلاك النصف، ويتبرعان بالنصف الآخر. ناولته الكيس، وساعدته على حزمه خلف الدراجة، وطلبت منه أن ينتبه حتى لا يسقط، ويضيع كل شيء.
في الطريق تجاذبته مشاعر متناقضة، وقال لنفسه:
ـ يا عبد السلام! والله أنت في حاجة لمن يتضامن معك! الشهر الماضي لم تجد ما تؤدي به فاتورة الماء والكهرباء لولا أن قرضك العربي ما تنقد به بيتك من الظلام. واليوم ها أنت تضحي بخبز نصف شهر تقريبا.
ـ لن نموت من الجوع.. يمكن أن نقي ما تبقى من الشهر بالقليل. نحن عادة لا نأكل حتى نشبع..
ـ الناس محطمون من الداخل.. أغلبهم فقد عزيزا، أو فقد أسرته بالكامل.. مشردون بلا مأوى.. بلا طعام.. بلا ملابس.. يبيتون في العراء!!
ـ وهل أنت الأمم المتحدة؟
ـ لا ..
ـ إنهم إخوة في الوطن والدين..
ـ تصور لا قدّر الله أن بيتك سقط، وفقدت البعض من أفراد أسرتك وفجأة وجدت نفسك في الشارع؟؟
ـ أنت تستيقظ في الصباح، وتذهب إلى عملك، وتعود في المساء إلى بيتك، وتقتسم ما كتب الله لك مع أبنائك، وتتغطى وتنام..
ـ يا أخي احمد الله، واشكره على هذه النعمة..
عندما اقترب من السور، انتابه شعور بالخجل.. الناس تُقدّم أكياسا كبيرة مليئة بعلب الحليب والألبسة والأغطية والطعام..
نزل من فوق الدراجة.. تقدم ببطيء يغلب عليه الحياء.. توقف وفك الخيط.. أنقذه شاب قدم نحوه.. مدّ له الكيس، وانصرف في هدوء.. التفت يسارا، ثم ركب دراجته، وعاد قافلا إلى بيته.
في طريق العودة أحسّ كمن أزال صخرة من فوق صدره.. انتابه إحساس بسعادة لم يشعر بمثلها إلا في عرسه.. بدأ يدندن بأغنية تعجبه كثيرا:
“ما هموني غير الرجال الى ضاعوا
الحيوط الى رابو كلها يبني دار”*
في صباح اليوم الموالي علم بأنه ظهر في فيديو، وهو يتبرع بنصف كيس من الدقيق. وأخبر زوجته بأن العالم كله يشاهد هذا الشريط، والناس يتبادلونه في وسائط التواصل الاجتماعي، وفي بعض القنوات الإخبارية..
أحسا بنوع من الفخر والاعتزاز.. فلا حديث للناس في الحي والمدينة والوطن وخارجه، إلا عن صاحب الدراجة، المواطن الفقير والبسيط الذي قدم من القاع الشعبي، وتبرع بنصف كيس من الدقيق لضحايا الزلزال.
قال لزوجته وهو يهم بالخروج:
ـ لم يكذب القدماء عندما قالوا بأن (الجود من الجدود وليس من الموجود).
الهامش:
ـ المقطع من أغنية لمجموعة ناس الغيوان.
مراكش 15 شتنبر 2023