-1-
سأكتب عنه ..
البيت القديم .. الذي شيده البناؤون في العهد التركي.. وسبب كتابتي عنه هو حالة النوستالجيا التي أحاول الفكاك منها فأغرق فيها .. أو الرغبة المجنونة للتنقيب في قاع الذاكرة .
في أحيان كثيرة لا أجد تفسيرا لعلاقتنا بالمكان .. نحن الذين نقيم العلاقة به .. المكان بدوننا مساحة خالية .. ونحن الذين نعطيه قيمة .. نهبه روحا تسري في فراغه .. خطواتنا .. أصواتنا .. نداءاتنا .. أغانينا .. لقاءاتنا .. دفئنا .. أنفاسنا .. حكاياتنا .. كلها أشياء تؤثث فراغ المكان .
الشوارع بدوننا ممرات خالية .. المنازل بدوننا حجارة صامتة .. أبي تعلق بالمكان .. فكتب قصصا وحكايات .. جدي تعلق بالمكان .. لكنه لم يكتب شيئا .. وربما عبرلجدتي عن علاقته بالمكان .. حوش العيلة في شارع ( بوخمسين ) .. صار منزل ورثة .. باعوه .. واقتسموا الميراث .. لم يعد حوش العيلة .. صرنا نتنقل من مكان لاخر .. من منزل لمنزل .. في كل مكان نقيم فيه حكايات وذكرى .. وفي كل منزل نستأجره ماء وملح .. ينتهي الماء والملح .. فننقل دواليبنا وملابسنا وأواعينا إلى بيت آخر .. وخلال تنقلاتنا بين البيوت .. لم نبتعد عن شاطيء البحر .. منظر الموج في الشتاءات الصاخبة.. صقيع الليالي الشتائية المرتعشة .. الماء الأزرق القوي .. المتهور .. التيار القادم من الشاطيء يصفعني بشدة .. يدفعني إلى الوراء .. أنا الصغير العائد من مدرسة ( سيدي سالم ) .. عبر شارع ( عصمان ) المطل على البحر .. أحس بأن الرياح الشديدة القادمة من البحر والمندفعة عبر الشارع .. تكاد تقتلعني مع حقيبتي المدرسية .. أقاوم دفع الرياح .. وانعطف من الشارع باتجاه بيتنا .. في ذات الشارع كان يقع منزل قديم له باب كبير بني اللون .. بدرجات عالية .. كنت أرى إلى بابه حين أمر من الشارع .. وأتأمل علوه ومهابته .. بعد عدة سنوات .. أبي استأجر ذلك البيت ..وأقمنا فيه ثلاث سنوات .
ــ 2 ــ
حوش المحكمة ..
هكذا كان البعض يسمونه .. ذلك البيت القديم ذو الباب الكبير البني اللون ..وكنا صغارا لانعرف مامعنى أن يطلق اسم المحكمة على بيت يسكن فيه أناس .. البيت مدخله يرتفع عن الشارع بمقدار أربع درجات عالية .. وفي سقيفته مربوعة كبيرة .. بها دولابين محفورين في الجدار.. ولهما أرفف تدل على أنهما كانتا مكتبتين من الحجم المتوسط .. في السقيفة الثانية الأقل حجما من الأولى حمام وغرفة صغيرة للخزين .
وإذ أتذكر ملامح ذلك البيت .. يلفني السؤال عن علاقتي المبهمة به .. كنت أراه مهيبا .. فناؤه الواسع المفتوح على السماء .. به أربع حجرات وحمام ومطبخ .. في ركن منه تمتد عريشة فوق سدة خشبية .. ظلها في الصيف مأوى لشقاوتنا وألعابنا .. وفي الليل يشع نور نافذة الحجرة الواقعة تحت العريشة .. فيبدو المنظر مثل لوحة سريالية .
كانت سقيفة البيت كبيرة .. سقفها عال .. كثيرا ما كنت أرفع إليها رأسي الصغير .. وأتأمل السقف الخشبي المصفوف بالأعمدة .. أعدها .. وأجري عليها عمليات حسابية ..لم يكن خيالي الطفولي يدرك معنى العلاقة بالمكان .. لكني كنت أحس بالمهابة تلف ذلك البيت .. كأنه منبع أسطورة لم تنته .. أو حكاية تركت رائحتها في المكان .. ألفة العريشة والفناء الواسع .. الوقار الحجري .. المهابة النابعة من علو السقف الخشبي في السقيفة .. إحساس الإرتقاء عبر درجات الباب الرئيسي الكبير .. كل تلك المعاني كنت أتذوقها بسذاجتي الطفولية .. دون أن أعبر عنها.. وكانت تترادف .. كامنة في روحي .. ومعتقة بمرور الزمن .
كان أبي قد انتهى من عملية بناء منزل جديد في ( الصابري ) .. بناه بقرض من المصرف دون فوائد .. إنتقلنا إليه .. نقلنا الدواليب والملابس والأواني والحقائب المدرسية والأغطية .. غادرنا حوش المحكمة ..أحسست حينها أنني اغتربت عن ذلك البيت والشارع .. و ظلت علاقتي بهما ماثلة في ذاكرتي .. تمت إزالة البيت بعد ذلك .. لكن ملامحه لم تغب عن بالي .. رأيته مرات عديدة في أحلامي .. وبعد أن كبرت .. عرفت لماذا كان البعض يطلقون عليه اسم حوش المحكمة .. كان صاحب البيت هو مفتي مدينة بنغازي في العهد العثماني .. وكان والي المدينة يزوره في الأعياد .. والناس يأتون إليه طلبا للفتاوى الشرعية .