* جماعة البصرة أواخر القرن العشرين
الكاتب: باسم عبد الحميد حمودي:
شكلت (جماعة البصرة أواخر القرن العشرين) ظاهرة ثقافية جادة عند ظهورها، نشرت لونا من التجديد في السعي لبناء قصة عراقية جديدة، تستلهم التراث في بعض نصوصها لتعيد أنتاجه في سيرورة حداثية، وتشاكل الواقع لتعيد تقديمه في أشكال أبداعية مشحونة بالتغريب وصولا الى بناء اقصوصة جديدة .أول اصدار للجماعة كان في 31 تموز 1991 وشارك فيه القصاصون: قصي حسن الخفاجي – لؤي حمزة عباس – جابر خليفة جابر– وحيد فرعون –كامل فرعون عيادة .صدر العدد الثاني بعنوان (قصص البصرة أواخر القرن العشرين) بتاريخ 31 كانون الاول 1991 وقد شارك فيه القصاصون: قصي الخفاحي (بحر اليوتوبيا) وكامل فرعون عيادة (الموجة المتلاشية) وجابر خليفة جابر (الرجل الغريق) وسعيد حاشوش (الماء في كل مكان)وقد ساهم قصاصون اخرون مع المذكورين في باقي الاصدارات التي استمرت منتظمة حتى العدد العاشر الذي صدر شتاء 1999. نشرت هذه الجماعة من الشباب بيانا عن مشغلها القصصي يجده القارئ في مكان اخر من (ذاكرة) نشرته جريدة (العراق)في عدد 26 اذار 1994 وثقه عدد من المشاركين في التجربة أضافة الى نشرهم مجموعة من قصصهم.
تنوعت تجارب الكتاب بين قدرة مثقلة بالوعي الفني والغنى الادائي ومعرفة ما يريده الكاتب من نصه المدون وبين الاحساس بضرورة التجريب مع وجود بعض التجارب التي لاتنتمي الى فن القصة القصبرة بقدر انتمائها الى (نص) يقترب منها وينفتح على النثر الفني عموما.
كانت تجربة هذه الجماعة قد شكلت نموذجا للاصرار المبدع على الانتاج القصصي مع وجود الفروقات الفردية والمواصلة من أجل قيام بناء جديد للقصة الشابة في العراق.
* جماعة البصرة أواخر القرن العشرين
الكاتب:باسم الشريف:
من رحم المحنة خرجنا، نحمل ملامحنا، يحف بنا الرفض والمجاهدة والفرادة، من رحم الغبش الشعباني وفجر اذار تجلت الرؤيا، لتكون لنا بمثابة هوية لا تحتل من خلالها مواقعنا في الانتفاضة العارمة والمتجانسة التي اندلعت اثر هزيمة النظام في حربه الثانية، من هنا بدأنا نسكب وضوحنا المهمش على بياض الاوراق، بدأنا نصوغ اسئلتنا حول الانسان، وهو المضمون المتعالي والجوهري في السؤال الوجودي الكبير، أبتدأنا بالتركيز على اقصى درجاته محاولين العثور على الكينونة التي تتشكل في الزمن الحرج، تلك الكينونة التي ستصبح فيما بعد مسار عقد من الابداع، عشنا من خلاله بمنأى عن الابتلاع والتجيير الذي تقوم به السلطة لصالحها. اصدرنا منجزنا الابداعي على شكل مجلات قصصية مستنسخة شبه سرية بعيدا عن الحلقات التي تحكمها الدوائر الرسمية.
من هنا شكلت الجماعة عبر اصداراتها المتتالية نوعا من انواع العصيان، رافضة ارتداء اقنعة المهادنة والامتثال والرضوخ، فمهمتنا كانت تتمثل بالتكامل ومنع الذبول والترهل الفكري والاخلاقي، وبقدر متفاوت كنا نبحث عن التجانس فيما بين رفضنا للسلطة واعمالنا القصصية كنا نسبغ على رؤانا طابعا تغييريا ومبدئيا انسانيا بالغ الدقة والوضوح، كنا في سياق تاريخي حرج مع السلطة التي لا تسمح بالتعارضات والتباين معها، لا تسمح باي شيء سوى المشاركة في الحروب وكرنفالات الدم. فما كان علينا الا ان نتخذ من المعاناة والتمرد والوضوح ثيمات لأعمالنا لأن ماينكسر في الخارج يرن داخله في تجارب تضخه من جديد وتضفي عليه هويته، فعملية اظهار التشوهات والانحرافات التي نتجت عن سياسات النظام وأظهارها يعد بمثابة شجب لها، فما قمنا به ليس مجرد تقاطع مع الواقع الثقافي السائد الذي راح يجتر منجزه من خطاب السلطة المقيت، بل تعداه الى ابعد المديات ليحول فوضى الحروب واضطراباتها الى فعل خالص ينأى به مبدعوه بعيدا عن تبريرات منظري الحروب وعرابيها، فبشيء من الجرأة وقوة القلب استطعنا ان نشيد صرح القصة العراقية المضادة برجولة فائقة ومنقطعة النظير غير آبهين بعمليات الاخصاء المعرفي والعقم الابداعي التي كانت تقوم بها مؤسسات السلطة. اجتزنا الانفاق المظلمة، انفاق الاقصاء والتهميش، اشتغلنا في مجال ملتهب، مجال المغايرة والوضوح، كتبنا قصة الحدث المرير، قصة الحرب برؤيتها المغيبة، قصة الحصار المزدوج السلطوي والدولي، قصة الموت الجماعي، قصة الترمل واليتم، قصة المنفى، كما كتبنا قصة الحب الشامل والكبير . رحنا نصوغ عبر نصوصنا ابعاد عالمنا، هذا العالم المعقد المفعم بالتناقضات والتمردات والاشجان والانتصارات والاخفاقات، كنا نتحرك في كل هذه المجالات، نطرح اسئلة ونتعاطى اجوبتها عبر مجابهة الزيف والتدمير القاسي للبراءة بالسلاح الذي تستحقه، بالمفارقة وعدم مشاركتنا برقصة الموت المجنونة وصخب الدم، هكذا عملنا عبر الموقف الصلب والتساؤل الذاتي العميق الذي ولدته قساوة السلطة. لم يزدنا اجهاض الانتفاضة عام 1991 بفعل التآمر العربي الرسمي ولعبة المصالح الدولية الا اصرارا، نسجنا أرديتنا الابداعية بعيدا عن نسيج الخطيئة والخيانة وتبرير السلوك الاجرامي الشامل الذي طال الانسان والبيئة والحيوان، كنا النساجين الامناء لما يجري من حولنا.
قد يجد المتتبع لتجربتنا تجربة البصرة اواخر القرن العشرين بعض الاقتضاب والعفوية في اللغة سيجد لغة المبدع المجهول المهمش حين يخفي يأسه ويعلن تمرده عندما يكتب، سيجد التجسيد المباشر للرؤيا الفلسفية عبر صيغ التحليل للواقع الراهن، وقد يستغرق في تتبعه بين الدلالات باحثا عن بذرة تمكنه من استخلاص شفرات نواتها، فالتورية هنا حصانة المعركة الابداعية، قد يرى في بعض القصص تقنيات نأت بمساراتها خارج ما هو متعارف عليه في الفن القصصي الا ان ثقل الوعي بالواقع الراهن المتشظي يغني بدوره الاسلوب ليصبح ذلك عنصرا مكملا وايجابيا داخل الفعل الابداعي لمنجز الجماعة. كان هدفنا من كل ذلك العمق وليس الامتداد، فالتمرد الذي مارسناه عبر اصداراتنا كان تمردا ضد شكل من اشكال القص الذي كرسه البعض ليبارك من خلاله فعل السلطة الاجرامي كيما ينال حظه من الغنيمة دونما حياء. فمعظم ثيمات نصوص جماعة البصرة اواخر القرن العشرين، ان لم يكن جميعها، تعد بمثابة شواهد حية وعلامات فارقة مفعمة بالمواقف الجريئة ازاء ما حدث وعلى مدى العقد الاخير من عمر السلطة حيث تجلى هذا من خلال قدرتها على رسم ملامح الواقع المرير واعادة وصفها للاحداث والمشكلات والملابسات والتشوهات لكن اعادة رسم هذا الواقع ليست مجرد تحويله الى ثيمة كيما تختفي داخل الشكل الذي تنتجه بوصفها انعكاسا للظرف الراهن، انها الحقيقة التي استطاعت ان تجعل من بعض اليقينيات الراسخة في اذهان البعض تهتز بفعل تجربتنا التي كانت بمثابة نوع من انواع العصيان المستمر وكل المحاولات التي كانت تريد اخضاع طبيعتها الرافضة باءت بالفشل (يمكن للادب ان يموت لكنه لن يكون ممتثلا ابدا) من هنا يستطيع الادب تحقيق شرطه في الديمومة والرسوخ ليكون شاهدا على العصر. اذ انه يسهم في الاكتمال الانساني ويحول دون تفشي الذبول الروحي والصمت السلبي، فمهمتنا كانت التحريض والاقلاق والازعاج لأن ماحدث عندنا من حروب وقمع وتجويع وتشريد وموت جماعي كان بمثابة اسباب حقيقية تجعلنا غير قابلين للامتثال لصناعها فما زال واقعنا المختلج يتمخض عنه الكثير الكثير
من الاحداث والاحلام والشهادات والكوابيس والرؤى.
* مختبر جماعة البصرة اواخر القرن العشرين .. انساق القصة القصيرة جدا – اضاءات الرحلة- هواجس التجربة
لكاننا ندخل رحم الاقصوصة بهلام اللا شكل ونخرج مدججين بسلاح الشكل.. كل الذي نرتجيه من عذاب الرحلة وافقها المظلم سرعة الطواف على جليد الكلمات باقصر الطرق وصولاً لالوهية الانسان المعمد بتراب الارض العراقية (العراق اولاً- والجنوب ثانياً، جدلية الكتابة بالماء الثقيل لدينا الظاهرة اولاً فعلها الحي- ولا شيء غير الظاهرة اما الموهبة الفردية النزقة فهي كينونة متلاشية ولا صلة لها بدرب الرحلة الحضارية العميقة، عنقاء الكتابة عندنا هي مغادرة الارض الى الارض البيضاء/ وكل رث في الواقع هو نقيض لفكرة الحرية).(اذا وضعنا قنبلة فنية موقوتة في رحم الواقع وثار الواقع ولم تنفجر فماذا نعمل؟) كلمات الاقصوصة لها اجنحة ترفرف تنخذل تنفرش وتحلق عالياً مثل رؤانا وقوانا وطاقاتنا الجماعية التي تخرق صلاة الياس بضربة جناح قاتلة.
سوف نخوض غمار التجربة القصصية بعنفوان الفسل المرير وغبطة النجاح المتوج لكننا نسال لماذا القصة القصيرة جداً؟ هل هي اللحظة الجزئية للتجلي/ لحظة تحذير الضجيج الذي يلف افق الروح الممزقة ام هي عملية اقتطاف ومضة خلاص متصيرة ان صح التعبير ترهص في خضم الوجود لتمثل الوقائع وادراك نبض الامكنة الموشومة بكثافة حلمية بمنأى عن استطرادات الزمان وكثرة تذبذب الاشياء باعتبار انهما ينصرفان الى مراقبة طويلة الامد لكننا في الحياة او في الخيال ثمة لحظات متوهجة او مواقف ورؤى حلمية لا تستوعبها سوى القصة القصيرة جداً والا فانها تبدو مثل جسم نحيل في ثوب فضفاض (حتماً ستفضي زئبقية الروح اللانهائية تحت هاجس الضغوط الكونية وعبر الغثيانات وصور البحر الشاردة في ظل المخيلة ومرور الرماح المسمومة فوق تخوم الزمان الكثيفة المثقلة بقوانين الصدفة الغامضة التي نتطلع عبرها بعيوننا المنطفئة فلا نرى غير الاوهام المقيتة لحكايات هشة مغامرات بائسة لبحارة شجعان منسيين وما ذاك سوى جرح الذهن النازف على مسلة التجربة الاختباري).
الجملة عندما تسقط على حجارة الورق وتخذلها الفكرة عندئذ ندفعها باكفنا الراعشة كاي عجلة محطمة الى بوابات الحرية (احياناً اقصوصتنا) بجملها الطينية المهمشة وهي تتمزغ في القاع العراقي تتكون من اختلاطات نهر العقل معجونة بترابنا الوطني وارث جنوبنا الاصيل نتاملها بحنان جم فهي ليست قبعة بالية وانما هي مدانا الذي تؤطره الرؤى المنضبطة وخيالنا الخلاق. وحين تختمر الاقصوصة تكون وعاءاً بلا حافات ينبسط عليه مدادنا فتفر منه الشخصيات والزمان والشحنات والموحيات لكنها رغم ذلك ستبقى عقدة العقد المحيرة التي لم يحلها حتى الاسكندر ذو القرنين) فان اكبر المخاطر التي تتهددها هو هيمنة الاشياء عليها وتقييدها باصفاد الحقيقة وغل الوجود ثم انسحاقها باقدام قادمة من المجاهيل المرعبة لذا سنعلو بها الى سطح المستقبل والنفاذ بها الى شفافية الابد واغوار المستحيل (عندنا القطيعة مع الارض اطفاء شعلة “بروميثيوس” وهجوعنا متقرفصين على عتبة الحكاية المظلمة لكنها الارض تعود بنا باصفادها وخطوطها المتباعدة ونحن نركض فوق صحارى الزمن الشاسعة عندئذ يهتف بنا ناقد صارم تلك خرائب ارواحكم وعذابها المستديم وفشل معملكم الاختباري وسقوطكم في متاهات الخطيئة الفنية الاولى لكننا سنصرخ باعلى الاصوات اذا كان الفن هو الاكتواء بالم الواقع والخوض في تنويعات الاحساس الفجائعي الثاوي في قلب الوجود فان النفاذ الى لب الحقيقة وتامل الانتماءات المحزونة للناس هي لحظة الادراك المثلى للكتابة معانقة القهر عبر رؤية جمالية تغوص في مجرى الاعماق المغايرة للموضوعات في دلالاتها الحسية المباشرة وهي تندفع باتجاه المضمون غير مبالية بالقشور التي تطفو الى قبح السطح بابتذال).
القصة القصيرة جداً بالذات نكتبها بنار الجسد فهي حقيقة حسية مثلها مثل أي حمامة تنزع ريشها وتصطلي بشمس الحقيقة وعادة يمثل لدينا النجاح الفردي خيبة وكارثة ازاء البؤر المشعة للجماعات الحضارية التي تحمل مصابيح الرؤيا الخالدة لحضارات الشعوب وحين نفيق من قهر القطيعة الارضية نلوذ بعتمة الباطن واضطراب الرؤى واحتدام الاعماق عبر هيمنة ذلك الشكل السريع القلق الذي نسميه نحن قصة قصيرة جداً حيث الايقاعات الشعورية وهندسات المخيلة الممشكلة والحدوس الموحيات عبر انساق تتصاعد لتغلف نفسها باطار الوجود الشامل (سوف نقطع الفراسخ الفنية الطويلة فتتعب ارواحنا ونلملم انفاسنا لكي نستعيد التوازن الحي عبر هيمنة هذا الفن الصعب الذي هو وليد الومضة المعادة لحضارة القهروالاستلاب انه بحق فن المسافات القصيرة)