رواية علي بدر” الركض ورءا الذئاب “هي في الجوهر رواية بحث ،بحث عن المعرفة او بشكل ادق بحث عن معلومة صحفية محددة من خلال رحلة يقوم بها صحفي اميركي الجنسية عراقي الاصل يعمل في وكالة صحفية اميركية لكتابة تقرير عن مجموعة من الثوريين اليساريين العراقيين الذين يعتقد انهم وراء اشعال الثورة ضد الأمبريالية في أفريقيا منذ منتصف السبعينيات بعد أن أخفقت الحرب الثورية فى اهوار جنوب العراق واستقر بهم المقام أخيراً في مدينة اديس ابابا. ولذا فهي ايضا رواية رحلة و تغيير للمواقع كما يقول .
والرواية ايضا رواية بحث عن الهوية وهو ماسبق لنا ان وجدناه في رواية(بابا سارتر) ايضا ،حيث يقوم البطل بالبحث والاستقصاء عن شخصية فكرية عراقية قيل انها هي التي بشرت لاول مرة بالفكر الوجودي في العراق .ويمكن القول بثقة ان معظم روايات علي بدر هي روايات ذهنية بمعنى انها تنشغل بتناول قضايا فكرية ونظرية وابداعية محددة كالبحث عن ماهية الوجودية وتجلياتها وتحولاتها وعلاقة ذلك باهداف العولمة الثقافية في (بابا سارتر) ، وتفتت الثورة في العالم الثالث واسباب اخفاقها وتحول الثوريين الى متسكعين وسكيرين متقاعدين يمضون اوقاتهم في السكر وتناول المخدرات والجنس في المقاهي والحانات في رواية “الركض وراء الذئاب”. وروايات علي بدر هي ايضا بدرجة محسوسة روايات ميتا – سردية حيث القصدية الواضحة في الكتابة:ثمة نصوص ووثائق وحقائق ولقاءات وتسجيلات تتراكم لتشكل المتن السردي الذي يخلقه بمهارة علي بدر ويشكله بسهولة خادعة. وهذا البحث المعرفي يجعل من معظم رواياته وبشكل خاص روايته (الركض وراء الذئاب) روايات رحلة بين المواقع وبين الازمنة والثقافات المتعارضة .فهو ينتقل من موقعه في العراق الى موقع جديد عندما يصبح مواطنا اميركيا يحمل اسم جورج باركر متزوج من سيدة اميركية اسمها ماري او ميمي ،بل انه حتى في موطنه الجديد يبدأ كما يقول بتغيير مواقعه مرارا .لكن التغيير الاكبر يتمثل في رحلة البحث والتعرف التي قادته الى افريقيا والى اديس ابابا تحديدا تلبية لطلب الوكالة الصحفية التي يعمل فيها والتي ترغب في اعداد تقرير شامل عن عن مجموعة من الثوار العراقيين (وهي كما واضح واقعة متخيلة او افتراضية ) ومعظمهم من الماركسيين والتروتسكيين الذين غادروا بغداد في احد اعوام السبعينات بعد فشل ثورتهم في اهوار الجنوب والتحقوا بالثورة العالمية التي اشتعلت في افريقيا انذاك وكانت الوكالة الصحفية تمتلك دافعا محددا :” دعوة لاعادة النظر بمشاكل الشرق الاوسط القديمة ،ولاسيما بعد الاطاحة بنظام صدام .”(ص9)
وتكشف هذه الرحلة عن عن عملية بحث معرفي واستكشافي للقارة السوداء ولمشاكل الثورات في العالم الثالث .انه بحث حقيقي تتكشف من خلاله الحقائق شيئا فشيئا ويعاد النظر فيها في الكثير من المسميات والمفاهيم والقيم المتداولة وتذكرنا بتجارب عالمية حديثة منها (أسم الوردة) لامبرتو ايكو و(شفرة دافنشي) لدان براون .
يوظف المؤلف منذ البداية ضمير المتكلم ،حيث تبدو الرواية احيانا سردا سيريا ذاتيا (بيوغرافيا) يفيد من عناصر المونولوج والارتجاع (الفلاش باك) ورسم المشهد الروائي وتحريكه من خلال سلسلة من الحوارات والمواقف المتحركة .
تتحر ك الرواية من خلال سلسلة أو شبكة من العتبات النصية التي تضيء عالم الرواية تتمثل في عنوان الرواية وفي الاقتباسات التي مهد لها للرواية وعنوانات فرعية تقطع المشاهد والفصول.ومن المهم التوقف عند دلالة عنوان الرواية والاقتباس الذي استهل به الفصل الثاني من الروايةالموسوم (صيف ساخن في اديس ابابا) وهذا الاقتباس هو مثل افريقي يقول :
“لاتركض وراء الذئاب” (ص63) .وبذا يمثل عنوان الرواية تناصا مع هذا المثل ،لكنه تناص مضاد.فالبطل هنا لايلتزم بالتحذير الذي يطلقه المثل الافريقي الذي يحذر من خطورة الركض وراء الذئاب ولاجدواه،وانما ينطلق في عملية بحث مضن معرفي استكشافي وراء ذئب الثورة المنكسرة في العالم الثالث وهي اشارة استباقية الى عبثية هذا الركض او البحث وخطورته في الوقت ذاته ،وربما يمثل ذلك كناية عن جوهر مهنة الصحافة بوصفها مهنة البحث عن المصاعب. وكما يقول البطل وهو يتحدث الى صديقته البولونية فيفي “نحن من العراق عرفنا الثورة مثل ذئب يركض امامنا ونحن نركض وراءه بلا انقطاع …لقد ركضنا وراء الثورة وحين امسكنا بها نهشتنا” ص168.
رواية علي بدر ايضا في اهم جوانبها بحث عن الهوية ايضا .وقد ادرك البطل وهو يعد العدة للانتقال الى العالم الثالث انها المرة الاولى التي سوف يلتقي فيها بأفراد من ابناء بلاده باسمه الحقيقي وليس بأسمه المستعار ،وان ذلك يمثل بالنسبة له استرداداً لهويته وتطابقا بين الشخصيتين المنفصمتين اللتين عاشتا داخله:”هذه المرة الاولى التي التقي فيها بهؤلاء الناس بأسمي الحقيقي ،وليس المستعار، للمرة الاولى استرد الاسم القديم ،واخفي الاسم المستعار الذي استخدمته في الكتابة والعمل على مدى عشرين عاما في الوكالة”ص48. كان بحث البطل عن الثوريين العراقيين الذين جاء ليكتب تقريره الصحفي عنهم صعبا ومستحيلا وامضى الايام ضائعا ومنقبا ومتنقلا من مكان الى اخر،ومن بار الى اخر وكأنه يبجث عن ابرة داحل كوم من القش. كان جميع الذين التقاهم من الاثيوبيين وفي مقدمتهم ادم ولاليت يعرفون الثوريين العراقيين لكنهم لسبب او لأخر كانوا يتكتمون على الحقيقة .لقد كان هدفه اللقاء بثلاثة من اولئك المتمردين العراقيين الذين يعتقد بأنهم اسهموا في اشعال نار الثورة في افريقيا خلال ثمانينات القرن الماضي .وهؤلاء الثوار هم احمد سعيد الذي كان يعتبره البعض مثالا لجيفارا العربي ،واحمد جبر المراسل الصحفي وميسون عبد الله .ومع ان احداث الرواية افتراضية وتخييلية تماما لكنها من جانب اخر لاتخلو من جذور محددة وربما تقترن بالحالة الثورية العراقية في ستينات وسبعينات القرن العشرين والتي شهدت ظهور افكار ثورية جيفارية تؤمن بمفاهيم الكفاح الثوري المسلح وتجلت لاحقا في الانتفاضة الثورية التي قادها بعض الثوريين اليساريين في اهوار جنوب العراق ومنهم المناضل خالد زكي الذي استشهد في معركة الاهوارفي جنوب العراق اضافة الى ثوريين عراقيين ممن يؤمنون بالكفاح المسلح التحقوا بالمقاومة الفلسطينية ،كما تجسد ذلك في تنظيمات سياسية وحركات حزبية تعبر عن هذا المنحى ،وهو منحى يختلط بالرومانسية والثورية وبالشعر ويفهم الثورة كما يشير البطل الى انها عملية مزج بين الشعر والسكر والنضال المسلح ،واحيانا الاكتفاء بالثورة الكلامية (ص98) اوكما كان يقول (الثورة هي النقاش والسكر والقصائد ايضا)(ص60 ).
وكانت محطة المراسل الصحفي الاولى للدخول الى عالم القارة الثائرة ادم ولاليت .كان ادم الثوري المتقاعد خير عون له لمعرفة كل شيء عن اثيوبيا لانه كان موسوعة متكاملة وله صلات ومعارف عديدة واهم من ذلك انه وعده باللقاء بالثوريين العراقيين .اما لاليت الثورية اليسارية السابقة فقد كانت بالنسبة له ملاذا روحيا وجسديا كان بأشد الحاجة اليه .وكان جسد لوليت بالنسبة له محطة تعرف ضرورية لتضاريس القارة الثائرة ،وهو موقف سبق للبطل ان اعلن ا لكشف عنه في علاقاته السابقة مع زوجته الاميركية ماري او ميمي كما كان يحلو له ان يسميها ومع صديقته البولونية فيفي – فهو يرى انه لايمكن معرفة امة بأكملها الا من خلال اكتشاف اجساد نسائها:”معرفة امة بأكملها -صدقوني- لاتتم الا على السرير “(ص45)وهكذا كانت علاقته بلاليت .وهذا الموقف يذكرنا الى حد كبير بموقف مصطفى سعيد بطل رواية (موسم الهجرة الى الشمال ) للروائي السوداني الطيب صالح والذي اصر على ان يلحق الهزيمة بالنظام الكولونيالي الذي استعبد الشرق من خلال الحاق الهزيمة بنسائه على السرير .
وعندما كان البطل يسأل عن مصير الثورة في افريقيا كان الجميع يجيب بأن الثورة قد انتهت منذ زمن بعيد حيث تحول الثوار الى متقاعدين او سكارى “الثورة انتهت ،هكذا يقولون .كل شخص كان ثوريا فيما مضى ،يعيش الان حالة من السكر المتواصلة.”(ص82) اوكما قالت لاليت وهي تبكي: “هراء ،الثورة ماتت .الثورة انتهت .لم تعد هناك ثورة ولا اي شيء من العلم الاحمر ،افريقيا عبودية للسود في النهار ،وفي الليل بغي للرجال البيض الذين يركبون نساءها وينهبون ثرواتها “(ص103) اوكما اعلن ادم في ذروة سكره “الثورة خراء ..لاوجود لثورة ولا اي شيء من هذه السخافات “(ص107 ).
وبعد أن كاد البطل أن يصاب باليأس والاحباط اخبرته لاليت انه لم يبق من الثوارا العراقيين غير واحد منهم هو جبر سالم،اما احمد سعيد وميسون فقد هاجرا الى اوربا (ص111) ونجح اخيرا في الالتقاء بواحد من اولئك الثوار العراقيين الذين كان يبحث عنه وهو جبر سالم الذي وجده مهموما ومتهالكا ،وان كان يحتفظ ببعض كبريائه الثوري(ص112) وبعد صعوبات وافق جبر سالم على ان يقدم له بعض المعلومات التي سجلها في المسجلة والتي يقدمها الراوي على انها وثيقة حقيقية لاعلاقة له بصياغتها ،وهو مايعمق الطبيعة الوثائقية الميتاسردية للرواية من خلال توظيف المخطوطات والوثائق والاعترافات حيث يبدأ جبر سالم بسرد تفاصيل حياته تحت عنوان فرعي هو”اعتراف”ص113 .في هذا السرد يتحول جبر سالم الى سارد رئيسي مباشر في سرد من الدرجة الاولى بينما يظل الراوي الرئيسي قابعا في الظل مكتفيا بدور المروي له ومنتظرا نهاية هذا الاعتراف المسجل صوتيا والذي يستغرق اكثر من عشرين صفحة.
وفي الواقع كانت شهادة جبر سالم احد رمــوز الثورة في افريقيا مليئة بالخيبة والمرارة والحــزن .فهو يرى بأنــه قد خدع وبأن “الثـورة ماخور مظلم دخلنا ولم نعرف كيــف نخرج منه”ص113 .واعترف بـأن الصـورة التي كان ينقلها عن الثـورة والثـوريين والـتي نشـرتها في الصحف والمجلات العربية لم تكن صادقة.
يمكن القول ان رواية”الركض وراء الذئاب” هي رثاء مرير للثورة في العالم الثالث ولاخفاقاتها وفشلها وطوباويتها وسرابيتها .وربما يمثل التلخيص الحزين لسيرورة الثورة في العالم الثالث خلاصة هذا الوعي الشقي الذي تكشف عنه رؤيا المؤلف للعالم:”تبتلي-الدول اولا بالكولونيالية
ثم تأتي الثورة لتخلص الناس من نير الحكم الكولونيالي ،لكن الثورة يقودها دكتاتوريون يعيدون السياسة الكولونيالية بصورة ابشع من السابق ،وهكذا تبدا الانشقاقات ويتم اجهاض الثورة .ولكن الامرلا ينتهي الى هذا الحد ،بل تبتلى البلاد بالحروب الاهلية والفوضى”(ص74).
وفي النهاية نجد ان البطل ،الراوي والصحفي الذي كان يبدو متدفقا ومتألقا وواثقا في بداية السرد قد تحول الى انموذج لحطام الثوري المحبط في مرحلة مابعد الثورة.فبعدما كان يشعر وهو يتجول في انحاء افريقيا واثيوبيا بانه يشعر بنفسه مثل قائد ثوري -ربما جيفارا او نبي راح يعترف ،في لحظة ضعف ،بأنه قد قام بتزوير الحقائق في التقرير الذي قدمه الى الوكالة الصحفية الامريكية عندها زعم بانه قد التقى بأحمد سعيد وميسون عبد الله وكأنه قد فقد براءته وصدقه وهو يكرر بأن كل شيء قابل للاختلاق والتلفيق حتى كاد حواره الاخير مع صديقته فيفي ان يكون حوارا من طرف واحد ينثال مثل مونولوج طويل اومناجاة حزينة او مثل بكائية في مقبرة .
يختتم المؤلف روايته هذه بمفارقة بصرية تعتمد المجاورة التي اعتمدها ايزنشتاين في أفلامه تعيد السرد الى بداياته ،حيث يعود الى شقته بعد ان قدم جزءا من تقريره الى الوكالة ليجد ان اسرته الامريكية كانت قد اعجبت بصورة له يقف فيها مع عشرين امرأة وطفلا من مشوهي الحرب الاهلية وقررت تأطيرها ووضعها على جدار الصالة بينما كانت محطة الفوكس نيوز نعرض سوقا في بغداد يتصاعد الدخان منه ،ومجموعة من الاشخاص يرمون الجثث المحترقة والملفوفة بالبطانيات في سيارات بيك اب مثل نفاية(ص168-169 ).
لاشك ان الرواية نجحت في ان تطرح الكثير من الاسئلة والاشكاليات المعقدة ولكن ياترى هل كان الروائي علي بدر منصفا وموضوعيا في رؤيته السوداوية القاتمة لمصائر الثورة في العالم الثالث ،وهل يتعين علينا ان نكتفي بالوقوف عند منحى “الوعي القائم” فقط دون ان نتقصى الملامح الجينية ل”الوعي الممكن” عند صياغة المنظور الروائي و”رؤيا العالم”بتعبير لوسيان غولدمان ،وماهو اهم هل يتعين على ابطال روايتنا – على الاقل -ان ينزعوا من رؤوسهم والى الابد حلم العدالة والحرية والتغيير وينصاعوا لنصيحة سيدة الحانة التي قدمتها الى كلكامش في نهاية رحلته:
إلى أين تسعى يا جلجامش ؟
إن الحياة التي تبغي لن
تجد فليكن كرشك مليئاً
دائماً وكن فرحا مبتهجاً نهار
مساء وأقم الأفراح وارقص والعب
واجعل ثيابك نظيفة
زاهية واغسل رأسك واستحم
بالماء دلل صغيرك وأفرح
زوجتك فهذا هو نصيب
البشرية ياجلجامش إلى أين أنت
سائر؟ لن تجد قط الحياة التي تنشد
فالآلهة عندما خلقوا
البشر كتبوا عليهم الموت واحتفظوا بالخلود لهم
ياجلجامش دع معدتك تكون ممتلئة وانشرح ليل نهار.
يعمد علي بدر كما هو واضح على التركيز على عملية بناء بطل مركزي فاعل ومشارك في الحدث وهو الذي يضطلع بالجهد الاساسي في السرد ،في سرد داخلي يمكن ان يوصف بالسرد الذاتي autodiegeticبمصطلحات جيرالد برنس حين يكون الراوي هو الشخصية الرئيسة او البطل ،وهو مايسمى احيانا بالسرد متجانس الحكي homodiegetic لان الراوي عادة مايكون حاضرا كشخصية فاعلة في الحكاية وليس مجرد مراقب خارجي او راو ضمني،يترك بينه وبين الاحداث الروائية مسافة .هنا نجد تلاشي المسافة واشتباك البطل الراوي بالحدث نفسه .بل يمكن القول ان هذا البطل الذي خطط له لان يعد تقريرا عن شخصيات ثورية في افريقيا ،قد اصبح هو البطل الحقيقي ،بوصفه مركزا للاحداث ،وليس بوصفه مجرد سارد لاحداث اخرى تقع لغيره .اي ان السرد هنا يتم كما يرى جيرار جينيت في سرد من الدرجة الاولى وليس في سرد من الدرجة الثانية.وهذا يرتبط ايضا بحقيقة التبئيرات السردية في الرواية التي هي تبئيرات داخلية حيث يروي البطل حكايته وحكاية الاخرين بحيث تكون معلوماته بقدر ماتعرفه الشخصية القصصية ،وهو الطرازالذي يطلق عليه (بويون)مصطلح (الرؤية مع) في مقابل نمطين اخرين هما (الرؤية من الخلف) عندما يعرف الراوي اكثر مما تعرف الشخصيةو(الرؤية من الخارج) عندما يعرف السارد اقل مما تعرفه الشخصية.
وبهذا تكشف شخصية البطل الراوي عن سلسلة من التحولات في الرؤيا والمواقع والتجربة ،فيصبح بحق انموذجا لما يسمى في النقد الروائي بالشخصية النامية round character في مقابل شخصيات ثابتة ومسطحة لاتكشف عن تغيرات او رؤياها flat character واذا ما كان صوت الراوي narrator هو الصوت المهيمن في السرد فلايمكن ان نهمل حضور المروي له narratee في الرواية الذي كان حاضرا ايضا بصورة مكشوفة او مستترة .اذ وجدنا ان الراوي يوجه خطابه الى مروي له ضمني او الى قارىء ضمني بتعبير امبرتو ايكو implied reader لان طبيعة السرد لايمكن ان تكون في هذه الرواية على مستوى المونولوغ الداخلي او الاستذكارات والارتدادات ،بل يبدو لنا هذا الراوي وكأنه يتكلم بصوت مسموع كما نجد ذلك في هذا المقطع الذي يخاطب به جمعا من المروي لهم:
“وعلي ان اخبركم ايضا طالما اني اتكلم عن المواقع ،وسيخطر على بالكم على الدوام اني جئت من الشرق الاوسط ،ومن العراق تحديدا”…”واقول لكم:ان اولادي لاعلاقة لهم بالشرق الاوسط ابدا ص18 ويمكن ان ننظر الى السرد الذي قدمه له جبر سالم احد الثوريين العراقيين الثلاثة الذي بقي في افريقيا والذي استغرق عشرين صفحة بوصفه سردا من الدرجة الاولى يتحول فيه البطل الى مروي له ،كما نجد البطل يشغل موقع المروي له في احاديث واعترافات الشخصيات الروائية ،لكننا وجدنا في النهاية اضمحلال لغة الحوار وهامشية دور المروي له ،كما تجلى ذلك في الصفحات الاخيرة من الرواية والتي كان يتحدث فيها البطل المحبط الى صديقته البولونية فيفي .فقد انقطعت لغة الحوار مع الاخر وتضخمت نرجسية الرواي الذي لم يكن يعنيه المروي له وردود افعاله او وجهة نظره ،حتى خيل لي ان شخصية فيفي لم تكن سوى اختراع ورقي ليس الا اخترعه الروائي ليكون مجرد اداة تسجيل لتفوهات البطل المركزي.
ذات مرة كشف لي الروائي علي بدر عن كيفية كتابته لرواياته وتحديدا لروايته(بابا سارتر) حيث قال إنه كان يعتزم كتابة دراسة عن الوجودية في العراق ،وانه جمع فعلا مجموعة كبيرة من الحقائق والافكار والدراسات عن الوجودية لكنه في اللحظة الاخيرة قرر ان يحول هذه الدراسة الى رواية فكانت رواية (بابا سارتر) .ترى هل يعني ذلك ببساطة ان اغلب روايات علي بدر هي روايات اطروحة thesis novelبمعنى انها تنشغل بقضية فكرية مركزية تحاول اضاءتها او تأكيدها واحيانا نفيها ؟ وهل يمكن ان يصدق ذلك الى حد ما على رواية(الركض وراء الذئاب)؟وهل ان المؤلف عندما بدأ يجمع كل هذه الحقائق عن الثورات في بلدان العالم الثالث ربما ليؤكد حقائق معينة عن سبب اخفاق هذه الثورات،وهو امر غير بعيد عن منطلقات رواية الاطروحة .لكننا يجب ان نقر بأن الروائي علي بدر كان بارعا في توظيف عناصر التخييل الروائي للخروج من هذه الاطر المحددة سلفا لرواية (الاطروحة) من خلال اكساب الاجواء الروائية بنية سردية تخييلية تبتعد الى حد كبير عن الوثائقية وعن ميكانيكية شخصيات وافعال رواية الاطروحة.
الروائي علي بدر من خلال روايته (الركض وراء الذئاب) يؤكد حضوره القوي في الرواية العراقية والعربية بوصفه صاحب مدرسة خاصة في الكتابة الروائية سيكون لها شأن خاص في عالم الرواية
والرواية ايضا رواية بحث عن الهوية وهو ماسبق لنا ان وجدناه في رواية(بابا سارتر) ايضا ،حيث يقوم البطل بالبحث والاستقصاء عن شخصية فكرية عراقية قيل انها هي التي بشرت لاول مرة بالفكر الوجودي في العراق .ويمكن القول بثقة ان معظم روايات علي بدر هي روايات ذهنية بمعنى انها تنشغل بتناول قضايا فكرية ونظرية وابداعية محددة كالبحث عن ماهية الوجودية وتجلياتها وتحولاتها وعلاقة ذلك باهداف العولمة الثقافية في (بابا سارتر) ، وتفتت الثورة في العالم الثالث واسباب اخفاقها وتحول الثوريين الى متسكعين وسكيرين متقاعدين يمضون اوقاتهم في السكر وتناول المخدرات والجنس في المقاهي والحانات في رواية “الركض وراء الذئاب”. وروايات علي بدر هي ايضا بدرجة محسوسة روايات ميتا – سردية حيث القصدية الواضحة في الكتابة:ثمة نصوص ووثائق وحقائق ولقاءات وتسجيلات تتراكم لتشكل المتن السردي الذي يخلقه بمهارة علي بدر ويشكله بسهولة خادعة. وهذا البحث المعرفي يجعل من معظم رواياته وبشكل خاص روايته (الركض وراء الذئاب) روايات رحلة بين المواقع وبين الازمنة والثقافات المتعارضة .فهو ينتقل من موقعه في العراق الى موقع جديد عندما يصبح مواطنا اميركيا يحمل اسم جورج باركر متزوج من سيدة اميركية اسمها ماري او ميمي ،بل انه حتى في موطنه الجديد يبدأ كما يقول بتغيير مواقعه مرارا .لكن التغيير الاكبر يتمثل في رحلة البحث والتعرف التي قادته الى افريقيا والى اديس ابابا تحديدا تلبية لطلب الوكالة الصحفية التي يعمل فيها والتي ترغب في اعداد تقرير شامل عن عن مجموعة من الثوار العراقيين (وهي كما واضح واقعة متخيلة او افتراضية ) ومعظمهم من الماركسيين والتروتسكيين الذين غادروا بغداد في احد اعوام السبعينات بعد فشل ثورتهم في اهوار الجنوب والتحقوا بالثورة العالمية التي اشتعلت في افريقيا انذاك وكانت الوكالة الصحفية تمتلك دافعا محددا :” دعوة لاعادة النظر بمشاكل الشرق الاوسط القديمة ،ولاسيما بعد الاطاحة بنظام صدام .”(ص9)
وتكشف هذه الرحلة عن عن عملية بحث معرفي واستكشافي للقارة السوداء ولمشاكل الثورات في العالم الثالث .انه بحث حقيقي تتكشف من خلاله الحقائق شيئا فشيئا ويعاد النظر فيها في الكثير من المسميات والمفاهيم والقيم المتداولة وتذكرنا بتجارب عالمية حديثة منها (أسم الوردة) لامبرتو ايكو و(شفرة دافنشي) لدان براون .
يوظف المؤلف منذ البداية ضمير المتكلم ،حيث تبدو الرواية احيانا سردا سيريا ذاتيا (بيوغرافيا) يفيد من عناصر المونولوج والارتجاع (الفلاش باك) ورسم المشهد الروائي وتحريكه من خلال سلسلة من الحوارات والمواقف المتحركة .
تتحر ك الرواية من خلال سلسلة أو شبكة من العتبات النصية التي تضيء عالم الرواية تتمثل في عنوان الرواية وفي الاقتباسات التي مهد لها للرواية وعنوانات فرعية تقطع المشاهد والفصول.ومن المهم التوقف عند دلالة عنوان الرواية والاقتباس الذي استهل به الفصل الثاني من الروايةالموسوم (صيف ساخن في اديس ابابا) وهذا الاقتباس هو مثل افريقي يقول :
“لاتركض وراء الذئاب” (ص63) .وبذا يمثل عنوان الرواية تناصا مع هذا المثل ،لكنه تناص مضاد.فالبطل هنا لايلتزم بالتحذير الذي يطلقه المثل الافريقي الذي يحذر من خطورة الركض وراء الذئاب ولاجدواه،وانما ينطلق في عملية بحث مضن معرفي استكشافي وراء ذئب الثورة المنكسرة في العالم الثالث وهي اشارة استباقية الى عبثية هذا الركض او البحث وخطورته في الوقت ذاته ،وربما يمثل ذلك كناية عن جوهر مهنة الصحافة بوصفها مهنة البحث عن المصاعب. وكما يقول البطل وهو يتحدث الى صديقته البولونية فيفي “نحن من العراق عرفنا الثورة مثل ذئب يركض امامنا ونحن نركض وراءه بلا انقطاع …لقد ركضنا وراء الثورة وحين امسكنا بها نهشتنا” ص168.
رواية علي بدر ايضا في اهم جوانبها بحث عن الهوية ايضا .وقد ادرك البطل وهو يعد العدة للانتقال الى العالم الثالث انها المرة الاولى التي سوف يلتقي فيها بأفراد من ابناء بلاده باسمه الحقيقي وليس بأسمه المستعار ،وان ذلك يمثل بالنسبة له استرداداً لهويته وتطابقا بين الشخصيتين المنفصمتين اللتين عاشتا داخله:”هذه المرة الاولى التي التقي فيها بهؤلاء الناس بأسمي الحقيقي ،وليس المستعار، للمرة الاولى استرد الاسم القديم ،واخفي الاسم المستعار الذي استخدمته في الكتابة والعمل على مدى عشرين عاما في الوكالة”ص48. كان بحث البطل عن الثوريين العراقيين الذين جاء ليكتب تقريره الصحفي عنهم صعبا ومستحيلا وامضى الايام ضائعا ومنقبا ومتنقلا من مكان الى اخر،ومن بار الى اخر وكأنه يبجث عن ابرة داحل كوم من القش. كان جميع الذين التقاهم من الاثيوبيين وفي مقدمتهم ادم ولاليت يعرفون الثوريين العراقيين لكنهم لسبب او لأخر كانوا يتكتمون على الحقيقة .لقد كان هدفه اللقاء بثلاثة من اولئك المتمردين العراقيين الذين يعتقد بأنهم اسهموا في اشعال نار الثورة في افريقيا خلال ثمانينات القرن الماضي .وهؤلاء الثوار هم احمد سعيد الذي كان يعتبره البعض مثالا لجيفارا العربي ،واحمد جبر المراسل الصحفي وميسون عبد الله .ومع ان احداث الرواية افتراضية وتخييلية تماما لكنها من جانب اخر لاتخلو من جذور محددة وربما تقترن بالحالة الثورية العراقية في ستينات وسبعينات القرن العشرين والتي شهدت ظهور افكار ثورية جيفارية تؤمن بمفاهيم الكفاح الثوري المسلح وتجلت لاحقا في الانتفاضة الثورية التي قادها بعض الثوريين اليساريين في اهوار جنوب العراق ومنهم المناضل خالد زكي الذي استشهد في معركة الاهوارفي جنوب العراق اضافة الى ثوريين عراقيين ممن يؤمنون بالكفاح المسلح التحقوا بالمقاومة الفلسطينية ،كما تجسد ذلك في تنظيمات سياسية وحركات حزبية تعبر عن هذا المنحى ،وهو منحى يختلط بالرومانسية والثورية وبالشعر ويفهم الثورة كما يشير البطل الى انها عملية مزج بين الشعر والسكر والنضال المسلح ،واحيانا الاكتفاء بالثورة الكلامية (ص98) اوكما كان يقول (الثورة هي النقاش والسكر والقصائد ايضا)(ص60 ).
وكانت محطة المراسل الصحفي الاولى للدخول الى عالم القارة الثائرة ادم ولاليت .كان ادم الثوري المتقاعد خير عون له لمعرفة كل شيء عن اثيوبيا لانه كان موسوعة متكاملة وله صلات ومعارف عديدة واهم من ذلك انه وعده باللقاء بالثوريين العراقيين .اما لاليت الثورية اليسارية السابقة فقد كانت بالنسبة له ملاذا روحيا وجسديا كان بأشد الحاجة اليه .وكان جسد لوليت بالنسبة له محطة تعرف ضرورية لتضاريس القارة الثائرة ،وهو موقف سبق للبطل ان اعلن ا لكشف عنه في علاقاته السابقة مع زوجته الاميركية ماري او ميمي كما كان يحلو له ان يسميها ومع صديقته البولونية فيفي – فهو يرى انه لايمكن معرفة امة بأكملها الا من خلال اكتشاف اجساد نسائها:”معرفة امة بأكملها -صدقوني- لاتتم الا على السرير “(ص45)وهكذا كانت علاقته بلاليت .وهذا الموقف يذكرنا الى حد كبير بموقف مصطفى سعيد بطل رواية (موسم الهجرة الى الشمال ) للروائي السوداني الطيب صالح والذي اصر على ان يلحق الهزيمة بالنظام الكولونيالي الذي استعبد الشرق من خلال الحاق الهزيمة بنسائه على السرير .
وعندما كان البطل يسأل عن مصير الثورة في افريقيا كان الجميع يجيب بأن الثورة قد انتهت منذ زمن بعيد حيث تحول الثوار الى متقاعدين او سكارى “الثورة انتهت ،هكذا يقولون .كل شخص كان ثوريا فيما مضى ،يعيش الان حالة من السكر المتواصلة.”(ص82) اوكما قالت لاليت وهي تبكي: “هراء ،الثورة ماتت .الثورة انتهت .لم تعد هناك ثورة ولا اي شيء من العلم الاحمر ،افريقيا عبودية للسود في النهار ،وفي الليل بغي للرجال البيض الذين يركبون نساءها وينهبون ثرواتها “(ص103) اوكما اعلن ادم في ذروة سكره “الثورة خراء ..لاوجود لثورة ولا اي شيء من هذه السخافات “(ص107 ).
وبعد أن كاد البطل أن يصاب باليأس والاحباط اخبرته لاليت انه لم يبق من الثوارا العراقيين غير واحد منهم هو جبر سالم،اما احمد سعيد وميسون فقد هاجرا الى اوربا (ص111) ونجح اخيرا في الالتقاء بواحد من اولئك الثوار العراقيين الذين كان يبحث عنه وهو جبر سالم الذي وجده مهموما ومتهالكا ،وان كان يحتفظ ببعض كبريائه الثوري(ص112) وبعد صعوبات وافق جبر سالم على ان يقدم له بعض المعلومات التي سجلها في المسجلة والتي يقدمها الراوي على انها وثيقة حقيقية لاعلاقة له بصياغتها ،وهو مايعمق الطبيعة الوثائقية الميتاسردية للرواية من خلال توظيف المخطوطات والوثائق والاعترافات حيث يبدأ جبر سالم بسرد تفاصيل حياته تحت عنوان فرعي هو”اعتراف”ص113 .في هذا السرد يتحول جبر سالم الى سارد رئيسي مباشر في سرد من الدرجة الاولى بينما يظل الراوي الرئيسي قابعا في الظل مكتفيا بدور المروي له ومنتظرا نهاية هذا الاعتراف المسجل صوتيا والذي يستغرق اكثر من عشرين صفحة.
وفي الواقع كانت شهادة جبر سالم احد رمــوز الثورة في افريقيا مليئة بالخيبة والمرارة والحــزن .فهو يرى بأنــه قد خدع وبأن “الثـورة ماخور مظلم دخلنا ولم نعرف كيــف نخرج منه”ص113 .واعترف بـأن الصـورة التي كان ينقلها عن الثـورة والثـوريين والـتي نشـرتها في الصحف والمجلات العربية لم تكن صادقة.
يمكن القول ان رواية”الركض وراء الذئاب” هي رثاء مرير للثورة في العالم الثالث ولاخفاقاتها وفشلها وطوباويتها وسرابيتها .وربما يمثل التلخيص الحزين لسيرورة الثورة في العالم الثالث خلاصة هذا الوعي الشقي الذي تكشف عنه رؤيا المؤلف للعالم:”تبتلي-الدول اولا بالكولونيالية
ثم تأتي الثورة لتخلص الناس من نير الحكم الكولونيالي ،لكن الثورة يقودها دكتاتوريون يعيدون السياسة الكولونيالية بصورة ابشع من السابق ،وهكذا تبدا الانشقاقات ويتم اجهاض الثورة .ولكن الامرلا ينتهي الى هذا الحد ،بل تبتلى البلاد بالحروب الاهلية والفوضى”(ص74).
وفي النهاية نجد ان البطل ،الراوي والصحفي الذي كان يبدو متدفقا ومتألقا وواثقا في بداية السرد قد تحول الى انموذج لحطام الثوري المحبط في مرحلة مابعد الثورة.فبعدما كان يشعر وهو يتجول في انحاء افريقيا واثيوبيا بانه يشعر بنفسه مثل قائد ثوري -ربما جيفارا او نبي راح يعترف ،في لحظة ضعف ،بأنه قد قام بتزوير الحقائق في التقرير الذي قدمه الى الوكالة الصحفية الامريكية عندها زعم بانه قد التقى بأحمد سعيد وميسون عبد الله وكأنه قد فقد براءته وصدقه وهو يكرر بأن كل شيء قابل للاختلاق والتلفيق حتى كاد حواره الاخير مع صديقته فيفي ان يكون حوارا من طرف واحد ينثال مثل مونولوج طويل اومناجاة حزينة او مثل بكائية في مقبرة .
يختتم المؤلف روايته هذه بمفارقة بصرية تعتمد المجاورة التي اعتمدها ايزنشتاين في أفلامه تعيد السرد الى بداياته ،حيث يعود الى شقته بعد ان قدم جزءا من تقريره الى الوكالة ليجد ان اسرته الامريكية كانت قد اعجبت بصورة له يقف فيها مع عشرين امرأة وطفلا من مشوهي الحرب الاهلية وقررت تأطيرها ووضعها على جدار الصالة بينما كانت محطة الفوكس نيوز نعرض سوقا في بغداد يتصاعد الدخان منه ،ومجموعة من الاشخاص يرمون الجثث المحترقة والملفوفة بالبطانيات في سيارات بيك اب مثل نفاية(ص168-169 ).
لاشك ان الرواية نجحت في ان تطرح الكثير من الاسئلة والاشكاليات المعقدة ولكن ياترى هل كان الروائي علي بدر منصفا وموضوعيا في رؤيته السوداوية القاتمة لمصائر الثورة في العالم الثالث ،وهل يتعين علينا ان نكتفي بالوقوف عند منحى “الوعي القائم” فقط دون ان نتقصى الملامح الجينية ل”الوعي الممكن” عند صياغة المنظور الروائي و”رؤيا العالم”بتعبير لوسيان غولدمان ،وماهو اهم هل يتعين على ابطال روايتنا – على الاقل -ان ينزعوا من رؤوسهم والى الابد حلم العدالة والحرية والتغيير وينصاعوا لنصيحة سيدة الحانة التي قدمتها الى كلكامش في نهاية رحلته:
إلى أين تسعى يا جلجامش ؟
إن الحياة التي تبغي لن
تجد فليكن كرشك مليئاً
دائماً وكن فرحا مبتهجاً نهار
مساء وأقم الأفراح وارقص والعب
واجعل ثيابك نظيفة
زاهية واغسل رأسك واستحم
بالماء دلل صغيرك وأفرح
زوجتك فهذا هو نصيب
البشرية ياجلجامش إلى أين أنت
سائر؟ لن تجد قط الحياة التي تنشد
فالآلهة عندما خلقوا
البشر كتبوا عليهم الموت واحتفظوا بالخلود لهم
ياجلجامش دع معدتك تكون ممتلئة وانشرح ليل نهار.
يعمد علي بدر كما هو واضح على التركيز على عملية بناء بطل مركزي فاعل ومشارك في الحدث وهو الذي يضطلع بالجهد الاساسي في السرد ،في سرد داخلي يمكن ان يوصف بالسرد الذاتي autodiegeticبمصطلحات جيرالد برنس حين يكون الراوي هو الشخصية الرئيسة او البطل ،وهو مايسمى احيانا بالسرد متجانس الحكي homodiegetic لان الراوي عادة مايكون حاضرا كشخصية فاعلة في الحكاية وليس مجرد مراقب خارجي او راو ضمني،يترك بينه وبين الاحداث الروائية مسافة .هنا نجد تلاشي المسافة واشتباك البطل الراوي بالحدث نفسه .بل يمكن القول ان هذا البطل الذي خطط له لان يعد تقريرا عن شخصيات ثورية في افريقيا ،قد اصبح هو البطل الحقيقي ،بوصفه مركزا للاحداث ،وليس بوصفه مجرد سارد لاحداث اخرى تقع لغيره .اي ان السرد هنا يتم كما يرى جيرار جينيت في سرد من الدرجة الاولى وليس في سرد من الدرجة الثانية.وهذا يرتبط ايضا بحقيقة التبئيرات السردية في الرواية التي هي تبئيرات داخلية حيث يروي البطل حكايته وحكاية الاخرين بحيث تكون معلوماته بقدر ماتعرفه الشخصية القصصية ،وهو الطرازالذي يطلق عليه (بويون)مصطلح (الرؤية مع) في مقابل نمطين اخرين هما (الرؤية من الخلف) عندما يعرف الراوي اكثر مما تعرف الشخصيةو(الرؤية من الخارج) عندما يعرف السارد اقل مما تعرفه الشخصية.
وبهذا تكشف شخصية البطل الراوي عن سلسلة من التحولات في الرؤيا والمواقع والتجربة ،فيصبح بحق انموذجا لما يسمى في النقد الروائي بالشخصية النامية round character في مقابل شخصيات ثابتة ومسطحة لاتكشف عن تغيرات او رؤياها flat character واذا ما كان صوت الراوي narrator هو الصوت المهيمن في السرد فلايمكن ان نهمل حضور المروي له narratee في الرواية الذي كان حاضرا ايضا بصورة مكشوفة او مستترة .اذ وجدنا ان الراوي يوجه خطابه الى مروي له ضمني او الى قارىء ضمني بتعبير امبرتو ايكو implied reader لان طبيعة السرد لايمكن ان تكون في هذه الرواية على مستوى المونولوغ الداخلي او الاستذكارات والارتدادات ،بل يبدو لنا هذا الراوي وكأنه يتكلم بصوت مسموع كما نجد ذلك في هذا المقطع الذي يخاطب به جمعا من المروي لهم:
“وعلي ان اخبركم ايضا طالما اني اتكلم عن المواقع ،وسيخطر على بالكم على الدوام اني جئت من الشرق الاوسط ،ومن العراق تحديدا”…”واقول لكم:ان اولادي لاعلاقة لهم بالشرق الاوسط ابدا ص18 ويمكن ان ننظر الى السرد الذي قدمه له جبر سالم احد الثوريين العراقيين الثلاثة الذي بقي في افريقيا والذي استغرق عشرين صفحة بوصفه سردا من الدرجة الاولى يتحول فيه البطل الى مروي له ،كما نجد البطل يشغل موقع المروي له في احاديث واعترافات الشخصيات الروائية ،لكننا وجدنا في النهاية اضمحلال لغة الحوار وهامشية دور المروي له ،كما تجلى ذلك في الصفحات الاخيرة من الرواية والتي كان يتحدث فيها البطل المحبط الى صديقته البولونية فيفي .فقد انقطعت لغة الحوار مع الاخر وتضخمت نرجسية الرواي الذي لم يكن يعنيه المروي له وردود افعاله او وجهة نظره ،حتى خيل لي ان شخصية فيفي لم تكن سوى اختراع ورقي ليس الا اخترعه الروائي ليكون مجرد اداة تسجيل لتفوهات البطل المركزي.
ذات مرة كشف لي الروائي علي بدر عن كيفية كتابته لرواياته وتحديدا لروايته(بابا سارتر) حيث قال إنه كان يعتزم كتابة دراسة عن الوجودية في العراق ،وانه جمع فعلا مجموعة كبيرة من الحقائق والافكار والدراسات عن الوجودية لكنه في اللحظة الاخيرة قرر ان يحول هذه الدراسة الى رواية فكانت رواية (بابا سارتر) .ترى هل يعني ذلك ببساطة ان اغلب روايات علي بدر هي روايات اطروحة thesis novelبمعنى انها تنشغل بقضية فكرية مركزية تحاول اضاءتها او تأكيدها واحيانا نفيها ؟ وهل يمكن ان يصدق ذلك الى حد ما على رواية(الركض وراء الذئاب)؟وهل ان المؤلف عندما بدأ يجمع كل هذه الحقائق عن الثورات في بلدان العالم الثالث ربما ليؤكد حقائق معينة عن سبب اخفاق هذه الثورات،وهو امر غير بعيد عن منطلقات رواية الاطروحة .لكننا يجب ان نقر بأن الروائي علي بدر كان بارعا في توظيف عناصر التخييل الروائي للخروج من هذه الاطر المحددة سلفا لرواية (الاطروحة) من خلال اكساب الاجواء الروائية بنية سردية تخييلية تبتعد الى حد كبير عن الوثائقية وعن ميكانيكية شخصيات وافعال رواية الاطروحة.
الروائي علي بدر من خلال روايته (الركض وراء الذئاب) يؤكد حضوره القوي في الرواية العراقية والعربية بوصفه صاحب مدرسة خاصة في الكتابة الروائية سيكون لها شأن خاص في عالم الرواية