بيد الشكر والامتنان تسلمت ديوان الشاعر نينوس نيراري (قصائد منزوعة السلاح). وقد استهله بمقدمة وجيزة عن حضارة العراق العظيم بأنجمها المتناثرة في سماء سومر وأكد وبابل وآشور، وزاخرة بأزاهير زاهية من أقوال الكتاب والشعراء عن الشعر وميزاته وتجلياته.
يكمن صدق الشاعر نينوس في شعوره القومي والوطني، وفي كل رعشة يختلج بها شعره، فهو يعبّر عن خوالج نفسه دون بهرجة أو مغالاة أو تكلف أو تدليس. حتى الألم يتجلى في شعره تجلي النخيل على ضفاف دجلة الخير، ويطل من كوّة إحساسه القومي إلى رحاب الإنسانية الفيحاء. فهو شاعر الإحساس، لا حشو ولا مداهنة في ألفاظه. ولعل أروع ما وجدته لهذا الشاعر في تقديس (الصداقة) قصيدته الموسومة (إلى سيدي الشاعر) وهي مهداة لصديقه الشاعر الراحل (سلمان مروكل ممو) الذي وافاه الأجل في السويد عام 1984 حيث يقول:
سقطت قوافي الشعر شذّ رويّها
أحببت فيك رصانةً موروثةً
عيناك ينبوعان منفجران في
لك أمة مقدامةٌ تحييك في
واختلّت الأوزان بعدك شاعري
وبراءةً حلّت عليك كطائر
جدبي قصدتهما بثغرٍ ضامر
كل العصور كغائبٍ وكحاضر
هذا الشعر المهموس الذي يتغلغل رقراقاً كالشواظ في مسامات الصقيع، والذي يعبر بأنصاف الكلمات، فيتوسل الرمز والإيحاء، ويسعى بالدعة والبساطة والإيماء فينهمر في النفس كما ينهمل الندى على شفاه الأزهار قبيل بزوغ الفجر. هذا الشعر الذي ينساب من القلب إلى القلب على جناح النبرة الصادقة، والكلمة النابضة بالحيوية والأريحية والهمس الطويل، فتراه هادئاً مطمئناً في تساوق السرد والوصف حتى يثب عليك مارداً من القمقم بكلمة، بصورة، باستعارة أو تشبيه. إنه كمن يلقي حصاة في المياه الراكدة ليلفت انتباه بني قومه الذين لا يستهويهم سوى الرقص على أنغام الطبل والمزمار.
الشاعر نينوس نيراري لا تستطيع أن تفرّقه بين تذوّق اللذة وبين تذوق الجمال، ولا انفصال بينهما في عالم الشعور، أو في كل عالم منظور. لقد عشق في المرأة صورة الجسد اللذيد، كما عشق في الجسد الشهي صورة المعنى الجميل ومن هنا امتزج الإحساسان في نفسه حتى لقد أصبحا وحدة متماسكة ليس إلى تجزئتها من سبيل. إن فيه الرجل الذي أقبل على المادة وفي داخله الشاعر الذي أقبل على الروح، وهما لونان من الحب بينهما من القرب ما يلغي الفواصل والعوائق والحواجز. يقول في قصيدة (تعرّي):
أريد أن ألمح جسدكِ عارياً كما خُلقتِ
أتفحص كل موقع فيك
ألمس لحمك الطري
أحضنه وأقبّله كالمجنون
رغم درايتي بالسيوف وهي تحاصر عنقي
لكني سأعلنك بجرأة قدّيساً
قرر أن يبوح بسر الأسرار
فلأجلك مقدسة الشهادة
أيتها الحقيقة.
شعر نينوس أشبه بسجادة تحوي في نطاقها الصغير جمال الحدائق وروعتها، ترفرف فيها طيور تنبض بألوان زاهية تفوق الحياة في بهائها، وتكاد تصدح بالغناء حيث لا ترى العين سوى مجموعة من الورود والرياحين الشبيهة بالطواويس المختالة على سندس أروقة الأديرة، ونافورة يتفجر منها الماء. وهذه الرياض على صغرها بحر ليس له ساحل للمتأمل، يتركز الفكر في نطاقها فيذهب إلى لب الأشياء وجوهرها، ولا يتبعثر أمام الآفاق الواسعة التي يضيع فيها الفكر، ويذوب التأمل. يقول في قصيدة (خلجات):
هذا القنديل الفضي
المعلق في الفراغ
من أطفأ نصفه؟
كل ما سقط قد قام
إلا أنا.
شخصيتي كالبرق
تُعرف من آثارها.
داروين! الكون أكبر سندٍ لوجود الله
نيراري! الشعر أكبر سند لوجودي.
لا يهم إذا كنتُ منفياً خارج الوطن
المهم أن لا يكون الوطن منفياً خارجي.
إن الشاعر نينوس يبصر أبعد من الواقع بكثير، إذ يرى ما يحيط بالأشياء من هالة مثقلة بمختلف الممكنات الفريدة، كالطفل يشيد بخياله قصوراً بما بين يديه من قصاصات، ويرى في السحب مدناً أسطورية سقوفها من الياقوت وشوارعها من زبرجد ومرجان، ويجعل من القصبة الجوفاء جواداً ينطلق على صهوته نحو العوالم اللامرئية.
وقد يتساءل القارئ إلى أية مدرسة ينتسب الشاعر نينوي نيراري؟ وأنا من الذين يقولون بسخافة هذه الاصطلاحات التي تصنّف الأدب والشعر إلى مدارس وأساليب كأن نتاج الفكر أشبه بنتاج الحيوانات الأشجار والنباتات.
من نافلة القول أن نذكر أن الحياة إذ تتفتح لدى أمة ما، وإذ تنتعش جذورها، لا يقتصر تفتّحها على جانب دون آخر، وأن الوجود القومي الصحيح تُعرف سيماه من ذلك الانتعاش الذي يحل في كل مجال من مجالات الحياة. في الأدب والفن والاقتصاد وغيرها. ذلك أن الحياة لا تعرف التجزئة ولا تعرف إلا الانطلاق نحو الآفاق السحيقة المترامية.
أنّى للحياة القومية أن تومض، إذا لم يتغنَ بالكيان القومي المنشود شعراؤها وأدباؤها وفنانوها وسائر مفكريها. وإذا لم يكن نتاج هؤلاء مبللا بندى الحلم القومي. إن المفكرين في كل أمة، وفي كل زمان أشبه بموازين حساسة تُدرك، بما أوتيت من إرهاف، الاتجاهات الخفية التي ستتمخض عنها حياة أمتهم، فإذا بهم يتكهنون بها قبل ظهورها، ويبشرون بقدومها وهي مازلت جنينا، ويصفون معالمها وسماتها قبل بزوغها من الغيب. يقول في قصيدة (گلگامش يتأرجح):
إسمي منسي يذكره من يذكر ملحمة الطوفان
صوتي مجهول يعرفه من يعرف أغنية الأحرار
لغتي لا يفهمها إلا من يفهم شيئاً من لغة النار.
كما يقول في قصيدة (إلى الرجل البنفسجي) التي يهديها إلى مناضلي الحركة الديمقراطية الآشورية في العراق:
قم للوغى وانشر رعودك في السما
حطّمتَ قيداً ظل يأسرنا عصورا
أفعمتنا مجداً إلى أمجادنا
كنا حجاراً يوم أن حركتنا
وحّدتَ شمل شبابنا في أمةٍ
عش يا أبيّاً خالداً مستبسلا
وارفع لواءك عالياً واسفك دما
وانطلقتَ وما خشيت تحطّما
والعزّ في أحلامنا قد خيّما
ودفعتنا وبك ارتقينا سُلّما
تأبى التنافر رهبةً أن تُقسما
وعلى المدى تبقى عزيزاً مُكرما
كان نينوس وهو غضّ الإهاب عندما كان يرسل نفتاثه الملتهبة ناطقة بالشكوى، زاخرة بالحسرات علّه يحرك في النفوس تيار الثورة فيقول في قصيدة (الصراخ) التي صاغ كلماتها في منفاه في مدينة أثينا- اليونان عام 1979:
أعطني أيها الثائر الحزين
صوتاً يسكن صوت اللاجئين
يذبح كالسكين
يشعل كالنار
يهزني كالزلزال
واكتبني ثورة بين السطور
حتى أثور
وأغني لأمة آشور.
إن الأدب الرفيع يسمو بالشعب المدرك إلى السدّة، والشعب الواعي يفضّل أدبه الحي المتفاعل المعبّر عن حركة الحياة المستمرة، يقيس الهوة التي تفصله عن السلطة الجائرة لئلا يقع في براثنها، ويعلم جيداً كيف يتداركها ويتملص من الوقوع في شباكها. ولا يمكن للأدب أن يكون منضوياً لأنه لا يمكن له أن يكون حدودياً محصوراً ضمن إطار أو سياج. فالأدب مثله مثل أي ناحية من نواحي النشاط الإنساني، تعبير حياتي، والحياة تطوّر، والتطور نزعة صاعدة متقدمة متسعة متسارعة دوماً، لا تقف عند عوائق أو حدود، ولا يحجز انطلاقها قيود أو سدود.
يقول الشاعر نينوس نيراري في قصيدة (تظاهر):
تظاهر… تظاهر… تظاهر
وحرّك سكونك يا ابن العراق
تظاهر وشوّه وجوه النفاق
فمن أجل خبز وماء
وللعز والكبرياء
وعش شامخاً وتفاخر
فهيا تظاهر.
أيا شعب مجدٍ ونبض الحضارة
غداً سوف تأتي البشارة
تقدّم وحرّر تراب الوطن
تقدم وذلّل صعاب المحن
وعرّي ذليلا تآمر
فهيا تظاهر.
الشاعر نينوس نيراري يغترف شعره من ينبوع الحياة، من مآسي وويلات ومجازر شعبه المضطهد والمشرد في جميع أرجاء المعمورة، ومن فواجع وكوارث شعوب الأرض قاطبة المستطلعة إلى مستقبل أفضل، حيث يقول في قصيدة (قصيدتي العصماء):
رحل الأحباب وما عادوا
من يخبرني ما أخبارها بغداد؟
أنا مطرودٌ خارج الأزمان
منفيٌّ داخل الأوطان
أين بغداد؟
روعة الأمجاد
كل فرد فيك جريح
مصلوب مثل المسيح.
ثم يقول في قصيدة (مربع الشهداء):
كيف نصدق ما قيل في الأسفار
عن گلگامش الجبار
عاد مقهوراً كالإبن الضال
الأفعى سرقت منه سرّ البقاء
هذا هراء
فالآشوري باقٍ في أرض العراق
وطن الشهداء
رغم أنوف أفاعي الإرهاب.
هناك شعراء تحظى آثارهم بالبقاء فينتصرون على واجهات المكتبات، وعلى الغبار بسبب شعلة القوة الكامنة في تلك الآثار. ومما لا شك فيه أن الشاعر نينوس يحس بنزوع جديد إلى تغيير مفاهيم مجتمعه نحو الشعر والأدب والفكر بصورة عامة. يقول في قصيدة (خلجات):
يا صديقي
ذلك الذي جئتَ تبحث عنه
والذي ساعدتُك في البحث عنه
فلم تلقه، ولم ألقه
هو أنا.
طبعاً الذئاب سوف تطاردك
لأنك تقمصت شخصية الخروف.
طبعاً السحب تغسل وجهي لا وجهك
لأنني تسلقت الجبل
وأنت بقيت في الوادي.
والغربة عن الأهل والوطن من شأنها أن تترك في القلب غصّة وأسى وجروحاً تأبى أن تندمل، وخاصةً إذا لازمها الشعور بأنها غربة لن تنتهي إلى عودة. يقول في قصيدة (الخطاب):
أبكِ يا عراق الحضارات
أبناؤك ناموا على أبواب يحلمون على الطرقات
يهربون على سمع الصفارات
والسياسيون يدورون في آفاق الكلام.
وفي قصيدة (عهد جديد) يكشف الشاعر عن إلهام صادق، وجهد للتعبير عن تجربة أصيلة، ومحاولة للإمساك بها في وحدة نغمية تتفق ومستوى التجربة. والقصيدة، في الحقيقة، هي حركة تفتّح البرعم الغافي في أعماق الشاعر، وتتنازع هذه الحركة تنازعاً صادقاً متفائلا لكل ما في ذاته من عواطف وخلجات. كما أن القصيدة تجربة حيّة صادقة، طيّعة الصياغة، تفاؤلية المضمون. يقول فيها:
سقط النظام وولّتِ الأشرارُ
قوموا إلى الحرية الخضراء يا
نيسان أطلق نسمةً فوّاحةً
قد زارنا تموز وهو ضاحكٌ
أين الحكومة ضخّمت أعلامها؟
فعراقنا كالطود صامدٌ وإن
وهوت على أقزامها الأوكارُ
بني الحضارة أنتم الأحرار
فتبرعمت في يأسنا أزهار
وعليه رشّت عطرها عشتار
أين اختفى صحّافها الثرثار؟
طغتِ الزلازل فهو لا ينهار
وختاماً أتوجه إلى جميع الأحزاب والمنظمات السياسية الآشورية، والمؤسسات الدينية والاجتماعية والرياضية وخاصة الثقافية منها أن يولوا اهتماماً كبيراً بالأدباء والشعراء واللغويين الآشوريين ليتمكنوا من نشر آثارهم، وتشجيع الأدباء الناشئين، مادياً ومعنويا، في سبيل نشر نتاجاتهم ولو لم تحز الجودة والكمال، ولمثل هؤلاء الأدباء والشعراء الناشئين ينبغي إفساح المجال لأقلامهم لأن المستقبل لهم، وهم ورثة الأجيال الأدبية السابقة. كما يتحتم علينا أن نشجّع في الأديب الناشئ روح النقد النزيه ليتفهم ما يحيط به عن تدبّر وإدراك وإحساس لأن فهم ماوراء اللفظ هو ما يحقق لنا القيم المعنوية للحياة لأنها تساعدنا على تجنّب التعصب والمغالاة والتفريط في أمور قد لا نشارك الداعين إليها.