مسحت وجهي بيدي ممررا أصابعي بلطف على جفوني وأنفي، لم أستيقظ بعد، كنت في مرحلة استيعاب يوم آخر، نأتي كل مرة إلى العالم بنفس الذاكرة، بتفاصيلها المذهلة، لا ننتبه إليها.. مع ذلك أشعر أحيانا أني في حالة تحديث. أذناي لا تسمعان بشكل جيد، اﻷصوات بعيدة، كما لو كانت هناك روابط تشتغل رويدا رويدا، من النوع الرديء. عيناي تريان ما يوجد من حولي ككراكيب من خلف ضباب، بعد وضع النظارات تصير اﻷشياء واضحة اكثر من اللازم، أزيل النظارات، أفرك عيني، أتكئ، أستعد للاستيعاب المزعوم.
تمر لحظات، أقرر. أفتح نوافذي، أتأمل غرفتي بين إحساسين؛ كأني أراها للمرة اﻷولى، وكأن هذه المرة اﻷولى نسخة مكررة عن المرات السابقة، النسيان لا يستفزه سوى الفقد، بينما الغرفة هنا تقدم لي تفاصيلها كاستئناف حياة لم تخضع للتحول بعد إلى ماض بلا أثر مباشر في الواقع. مع ذلك يكفي أن أخرج من الاستيعاب التلقائي إلى التقاطات تثور على روتينية الاستيقاظ.. صورة جدتي هناك تقلني كآلة زمن إلى نسيان، بين الفقد وبين لحظتي سنوات. الصورة أو لحظتي التي وثبت إلى الصورة في غفلة من بلادتي اليومية جعلتني أقفز إلى هناك. جدتي كانت هنا، في هذه الغرفة، مرتدية ثيابها التقليدية، اشترت لها بناتها العديد من اﻷلبسة، لكنها حافظت على رونقها الذي ينتمي إلى زمن مضى وانقضى، لم ينقض عندها، كانت تحمله معها دون وعي تام منها، ﻷن الحاضر بالنسبة لها مبتذل، لا يبشر بالخير، ما يحدث فيه من علامات الساعة، كيف تلبس المرأة هذا الفستان الذي لا يشبه ثياب البارحة الحقيقية؟ لم يكن اﻷمر عندها يتعلق بالحشمة وغيرها، هي داخل عالمها الممتد في الحاضر بفضل اﻷثاث العقلي اﻷبدي الذي يسكن جوارحها. وقفت وضحكت :
كيف تنام إلى هذه الساعة؟
تعالي نلتقط سيلفي..
استطعت أن أسجنها معي في هاتفي قبل أن تفر مهرولة :
ابتعد عني، لقد أفسدتم الدنيا بهذه العجائب.. لحسن الحظ التلفون الذي جلبه لي أبوك يتحدث فقط بلا زيادة ولا نقصان..
في صباح آخر كنت استيقظت، ألفت نفسي في المكان الذي أوجد فيه بعد، لم أغيره. لا بد أن التفاصيل كانت عادية، الشيء الوحيد الذي قلب الاستيعاب الروتيني رأسا على عقب هو خبر موتها، جدتي رحلت مع ماضيها إلى ما ينتظر غفلتنا جميعا، إلى ما ينهي النسيان والتذكر. فجأة تنسحب من اللوحة التي أستيقظ ﻷنسجم مع ترتيبها يوميا مؤقتا، هذا المؤجل هو بالضبط ما يزور استيقاظي خفية ويوهمه بأن كل شيء على ما يرام، يكفي أن أشرب قهوتي وأتصرف كالعادة. لقد توقفت العادة، بكينا، خفنا، شعرنا بنقص شديد وفقد مهول. حتى جسدي تهيأ لي كأنه تمثال سقطت عليه صخرة، ذهبت بجزء منه، أصبح هشا وخفيفا مرتعبا من الفاجعة.
لا أذكر متى زرت مصور الحي، طلبت منه أن يطبع صورة جدتي برفقتي في السيلفي ويصنع لها إطارا جميلا. علقتها في الغرفة. أصبحت جزءا من اﻷشياء التي أستيقظ يوميا لكي لا أنتبه إليها إلا كوجود كلي يمنحني استيعاب حضوري المتكرر الروتيني في عالمي، فقط ما يمكن أن يثيرنا بغرابة ودون تخطيط يبعث الروح في النسيان ويخرج ما في الذاكرة إلى موت الحاضر..
يشبه اﻷمر حاجتنا لشيء منسي، لراديو قديم إثر انقطاع الكهرباء ! هل التذكر بهذا الوصف البشع؟ كثيرون يتذكرون حبيباتهم السابقات لمجرد خلاف مع الحبيبة الحالية ! لماذا تذكرت جدتي؟ لحسن الحظ؛ هناك مبرر ساحر اسمه الحب، فلتكن حاجة الحب..