الدنيا بصرة فابدأ منها، بهذه الجملة الموحية زينت مكتبة ومنشورات بصرياثا مطبوعاتها، وعن هذه المكتبة صدرت ( نعيق الغربان / 2023 ) للروائي البصري زين العابدين العزاوي ومنذ عام وهي تطل علي هنا أو هناك في فوضى مكتبتي وكأنها تناديني وتدعوني أن أبدأ ! ولكن ازدحام الوقت بالمشاغل وحجم الكتاب الكبير حال بيننا وبين أن نلتقي، وأعني الروية وليس كاتبها، حتى اتصل بي صديقي وأخي العزيز الروائي حسن كريم عاتي وهو أحد أساتذة السرد في العراق ونبهني لأهميتها.
تلمستُ فيها مشروعاً روائياً واعداً ينبيء بميلاد سارد يضاف إلى كواكب السرد العربي والعراقي في مدينة السرد البصرة، ويشير هذا المشروع إلى نزوع نجو الجدة والتجريب من دون إفراط بارتداء أقمصة فنية ذكية ومراوغة تكاد تكون خفية وشفافة لا يراها إلا بعين عميقة القراءة وجادة في مطاردة الشوارد والإشارات.
تمتد الرواية لستة فصول سمي سادسها بالفصل الأخير وكأنها تحاكي أيام الخلق الستة في الميثولوجيات الدينية والإنسانية عموما، وقد تراوحت أحجام الفصول طولاً وقصراً فكان أطولها الفصل الثالث كما لو كان كتاباً لوحده وشغل أكثر من مائتي صفحة، وكان الأخير قصيراً خاتماً ومختصراً بخمس صفحات غنية بالدلالة والمحمولات. فيما اشتملت فصول الرواية على أكثر من ثمانين مقطعاً ستساعد قارئ مثلي على الاستراحة، وربما التهمها قراء شباب بسرعة عالية فسردها واضح وبسيط وممتع. واللجاذب للانتباه أن جميع هذه المقاطع توزعت على خمسة عناوين لاغير مستوحاة من الميثولوجيا الإغريقية ممثلة بأسماء الآلهة أبولو وباخوس وإيريس والميثولوجيا العراقية الرافدينية ممثلة بالآلهة إينانا (عشتار) وبالتأريخ القرطاجني المناهض لروما ممثلا بالقائد الشهير هاني بعل أو هانيبال. ولكل من هذه الأسماءامتدادتها وإحالاتها المرجعية حتى وإن غابت الأسطورة وغاب التأريخ المصاحب لها عن المتن الروائي، لكنها ومن دون شك ستكون حاضرة بقدر استرجاع القارئ لعمقها الزماني وجغرافيتها القديمة. فأبولو الإغريقي إله الشمس والموسيقى والشعر ويمتاز بالرجولة الخالدة والجمال وإينانا أو عشتار العراقية هي آلهة الحب والجمال والخصوبة ولهذا، لهذا، لملتقى الرجولة بالخصوبة الأنثوية، سنجدهما معا يرسمان المشهد الختام للرواية وبهما تكتمل. أما باخوس فهو إله الخمر وإيريس إله الحرب وهانيبال غني عن التعريف به لشهرته وهو صاحب المقولة المعروفة كل الطرق تؤدي إلى روما، حتى أنني أسمي العرب فوبيا أو الإسلاموفوبيا المتحمك بالعقل الأوربي والغربي عموما بعقدة هانيبال!
أكثر من عشرين مقطعاً سميت باسم أبولو وهي النسبة الأكثر بل إن الرواية ابتدأت به كعنوان للمقطع الأول من الفصل الأول وبه اختتمت إذ ضم الفصل السادس الأخير عنوانا واحداً هو أبولو.
وهو خلاصة رائعة وجامعة لما يمكن أن يكون عليه السلام الداخلي ويضعك أمام طريقين، أولهما أن تختار لنفسك السلام باعتزال الآخر، الأهل / البشر/ البهارج/ السلطة/ والانتماء للطبيعة كما فعل أبولو الإغريقي؛ وثانيهما أن تختار الانغماس في الحراك والتفاعلات الإنسانية وتغذ السير به لتقود البشرية على طريق السلام وهو ما فعلته إينانا / عشتار الرافدينية العراقية. وأنا شخصيا أميل إلى طريق ثالثة يمزج بين الخيارين السابقين وهو ما يمكن أن تكون الرواية / النص قد أشارت إليه حين كان هناك طفل رضيع بين يدي إينانا وكان اسمه أبولو ! خاصة وإن الجملة الأخيرة في الرواية تقول: لن تنعق الغربان بعد الآن. أي أنه ليس هناك شر خارجي تشير إليه بنعيقها ولا شر أو تشاؤم داخلي يتسبب به نعيق الغربان.
هذه الشخصيات الخمس( إينانا/ أبولو/ هانيبال/ باخوس/ إيريس) هي السائدة في هذا العمل السردي المتميز وثمة شخصيات عديدة غيرها وأغلب مسمياتها مأخوذة أيضا من الميثولوجيا والتأريخ، وهي إشارة لابد من الانتباه لها، أو لهذا القناع الماضوي المتستر عن الحاضر، وهو أسلوب أو قناع لجأ إليه العديد من أساتذة السرد العراقيين خاصة من الجيل الستيني في عهد الرقابة المشددة قبل 2003 والتي اختلف رقيب ما بعد 2003 عنها، لكنه موجود ولهذا لجأ الكاتب إلى التقنع بالتأريخ والميثولوجيا لمراوغة الرقيب السلطوي آنذاك وخداعه، وبالمناسبة فالقاص العربي الأول وهو من البصرة أيضاً وأعني به عبد الله بن المقفع استخدم أسلوب المراوغة والتقنع في عمله السردي الخالد كليلة ودمنة حين نسب الكتاب أو القصة كلها إلى مسميات هندية وفارسية اتقاء للسلطة العباسية التي لم يغفر لها أنها بطشت بأستاذه عبد الحميد الكاتب فكان كتاب أو قصص أو رواية كليلة ودمنة انتقاداً لاذعاً حاداً بمضامينه للسلطة وتفرعاتها لكن تمت صياغته ببراعة وبشكل فني وأسلوب سردي جميل وممتع ( ملاحظة: إذا اعتبرنا دون كيشوت رواية فمن الظلم وقصر النظر أن لا نعتبر كليلة ودمنة رواية !) وفي أوربا فإن المفكر والسياسي الفرنسي مونتيسكيو صاحب كتاب روح القوانين ومبدأ الفصل بين السلطات فعل الأمر نفسه في كتابه (رسائل فارسية) حيث انتقد الحكم الملكي الفرنسي في عهد لويس الخامس عشر على لسان تاجرين قادمين من بلاد فارس ليتخلص من بطش السلطة ورقيبها.
ويحاول الروائي زين العابدين العزاوي عبر أسلوب وأقنعة مماثلة التخلص من الرقيب الاجتماعي أو الفكري ليطرح تساؤلاته على صعد مختلفة يحرك بها ذهن القارئ ويوقده.
آمل أن تتاح لي عودة إلى قراءة أوسع وأعمق للرواية وقد كتبت هذا الإيجاز القرائي لألفت الأنظار إلى روائي شاب واعد واحتفل به.