خاطت له عمته جلبابا أبيض رفقة أبنائها ليتزين به ليلة القدر.. حدث ذلك منذ زمن بعيد.. صام يومين متتالين، رغم أنه لم يلحق عليه رمضان بعد.. من شدة الفرح لم يتناول سوى القليل من طعام الفطور.. ترقّب على أحر من الجمر آذان العشاء، ليذهب إلى المسجد رفقة أبناء عمته.. خرج من المرحاض، وأتمّ الوضوء وسط المنزل.. الليلة أقدس أيام رمضان.. سمع أكثر من مرة الكبار يُرددون بأن القرآن الكريم جعلها خيرا من ألف شهر.. عدّ هذه الشهور فوجدها تفوق ثمانين سنة.. ويضيفون بأن الصيام وإقامة الصلاة من العشاء إلى الفجر في الليالي الثلاث الأخيرة من شهر رمضان، قد يظهر في إحداها سيدنا (قدر) في جمع من الملائكة، وهي الليلة التي تُفرق فيها الأرزاق.. ويا سعد من يتمكن من رؤيتهم! تُفتح له أبواب الجنة يوم القيامة من غير حساب.. قد يراهم في اليقظة، أو في الطريق.. وقد تكون الرؤية في المسجد أحسن وأغزر أجرا..
مسجد باب دكالة مسجد كبير، يؤدي فيه الصلاة أغلب سكان الحي من الدروب المجاورة. قيل شيّدته لالّة عودة الوزكيطية أم المنصور الذهبي كفّارة لما انتهكته من حرمة رمضان، حين دخلت أحد بساتينها وهي في حامل في شهورها الأولى، فتناولت خوخا ورمانا، وأكلت منهما، ثم ندمت على ذلك، وطلبت المغفرة من الله تعالى.. وقامت بصرف أموالها على أعمال البر، ومنها بناء هذا الجامع الذي سيدخله لأول مرة في هذه الليلة المباركة. جذبته رائحة البخور. انتابه إحساس بهيبة المكان والخوف مما قد يحدث في هذه الليلة المقدسة التي يظهر فيها سيدنا (قدر)، وينشط السحرة والشياطين أيضا .
جلس رفقة أبناء عمّته في وسط قبة الصلاة. الفضاء لم يمتلئ بعد بالناس. وضع نعليه على يساره. سرقته جمالية الأقواس والنقوش والزخرفة على الجبص للحظات. وشرع يتخيل بين ثناياها ظهور الملائكة يتوسطهم (سيدنا قدر) في هيئة شيخ وقور بلحية طويلة وشعر أشيب، يرتدي عمامة وثيابا ناصعة البياض، وينبعث من وجهه نور شديد يحجب ملامحه حسب الأوصاف التي سمعها من الكبار .
اختلط عليه الأمر.. سأل نفسه: لو حظي برؤية سيدنا (قدر) وسط الملائكة الآن ماذا سيقول له؟ أو ماذا سيطلب منه؟ وكيف تُفرق الأرزاق؟ وهل يصح أن يحدثه؟ وبأي لغة؟ وهل يرفع صوته، أم يهمس بما يتمناه؟ كيف نسي أن يسأل الكبار عن هذه التفاصيل الدقيقة؟ ولماذا لم يتبادلوا الحديث عنها أمامه ؟
قطعت عليه إقامة الصلاة تساؤلاته. تقدم الإمام، وبدأ يقرأ الفاتحة وسورة قصيرة بالجهر. قامته الصغيرة لم تسمح له برؤية ما يجري في الصفوف الأمامية. ركع المصلون خلف الإمام وردد معهم: الله أكبر.
رفع الإمام ركوعه، وردد مع الناس خلفه: ربنا ولك الحمد.
أثناء السجود حصل ما لم يكن في الحسبان. دخل جماعة من الأطفال يسكنون بأحد الدروب القريبة من المسجد÷، يتزعمهم الأخ الأصغر لأحد فتوات الحي. خطف نعلي أحد المصلين، وفرّ بين سواري المسجد.. وتبعه الرجل يجري من خلفه. توقف رفقة أبناء عمته عن الصلاة، والتفتوا ناحية الأبواب الخلفية. لم يسبق لهم أن رأوا منظرا من هذا القبيل. أخذتهم نوبة من الضحك. حاولوا كتمها لكن دون جدوى. الطريقة التي يطارد بها الرجل الأطفال الشياطين فجّرت ضحكهم. يراوغونه بين السواري.. يجمع الأطراف الأمامية لجلبابه بأسنانه.. يزلق به الحصير الخالي من المصلين في المنعرج ويسقط أرضا.. ثم ينهض، ويتابع الجري حتى يصل إلى باب المسجد. بعد تجاوز الصحن رمى له متزعمهم نعليه، وخرج الأطفال إلى الشارع، وتفرقوا في اتجاهات مختلفة حتى لا يستمر في مطاردتهم.
قام أحد المصلين بتعنيف الطفل، وضرب أحد أبناء عمته على مؤخرته برجله، وهو يشتم ويُرغد ويُزبد. لم يشفع لهم صغر سنهم.. خرجوا بسرعة من المسجد حتى لا يتعرضوا لمزيد من الأذى..
لم يُقم الصلاة حتى الفجر.. لم يعد إلى المسجد في اليومين المواليين.. ضاعت عليه الفرصة.. ربما ستغضب الملائكة لما حدث في المسجد.. لن يدخل الجنة رفقة أبناء عمته بأعين مغمضة كما وعده الكبار..
مراكش (المغرب) 01 ـ 05 ـ 2019