الثكنات وما أدراك ماهي ، تلك التي لعبت طابة ً بعبقري الشعر ( رامبو) ، ولسوء حظه خّلقَ وسيما جذابا ، وكل من يراه من نفوسِ مريضةٍ يرمي أحابيله عليه ، أو على غرار أبي نؤاس حين طلب منه أحد الوزراء أن يقول من جميل كلامه على إبنه كثناءٍ وتحميد فقال مازحا على جمال هذا الصبي : ( بأبي أنتَ من بديعِ جمالٍ / فاق حِسن الوجوه / حَسّنٌ قفاكا / خّلق َالناس كي يسوسوا أموراً قلّدوها / وأنتَ كي ما تناكا).
في تلك الثكنات العسكرية الفرنسية حصل الذي حصل من إعتداءٍ وإغتصابٍ للشرف الرصين للشاعر العظيم رامبو . أما الثكنات في زمن المجرم صدام حسين ومابها من إهانة للجندي العراقي فلايمكن حصرها بألمٍ وخوفٍ وقهر لأن الجميع كان يائسا من أن ينفذ بجلده من عذابات الحرب والسلوك المجرم لضباطنا إتجاه الجندي العراقي . تلك الثكنات الجحيم جمعتني مع الصديق التربوي الفاضل (سليم يوسف الخزعلي) بأسمى علاقات الوفاء التي إمتدت حتى هذا اليوم وفي كل مرة نتذكر تلك الثكنات وضباطها الساديين في أغلبهم ، أولئك الذين كنا نسمع عنهم من إذاعة إسرائيل والتي كانت تقول : (إذا أردت أن تكون ملكا فكن ضابطا في الجيش العراقي). حينها لم أكن أفهم المعنى ، حتى دخلت الخدمة الإلزامية فعرفت هذه الكلمات بمعانيها الحقيقية فوجدت نفسي خادما لضباط ملوكٍ ساقطين ومجرمين الاّ ما ندر منهم ، وجدت نفسي ذليلا مهانا ولست خادما للوطن . في هذه الرفقة مع الصديق سليم ، كان حينها مستقلا لاينتمي لأي حزب الا أنه مثفف بارعٌ له من الكاريزما التي يحسد عليها، فيضنه البعض شيوعياً ولازال على الدرب أديبا مبدعا معطاءاً . أما أنا فكنت شيوعياً سابقاً لكن التهمة لم تغادرني أبدا ولحقتْ بي للجيش بكل أوزارها.الثكنات عبارة عن سجن والكل يخاف الكل وعليك أن تعرف مع من تتكلّم ، وكنا كلنا خانعين ، صبورين لخوفنا الرهيب آنذاك من نظام بوليسيٍ جاثم ، خوفنا الذي يجعل منا قادرين على التحمل والتجاوز والإهانة كي تستمر الحياة وتستمر . ولذلك كنا أنا والأستاذ سليم بأقصى غايات الحذر فكنا نتهامس بحقدنا على البعث مع بعضنا للتنفيس عن أرواحنا المظلومة والمقهورة والخائفة على الدوام تاركين أفراد الثكنة لاهين بأهوائهم . وهنا بطبيعة الحال والنظام المخابراتي وقسوته يتلصص وينصب الكمائن لهكذا شخصيين مبهمين . في يوم أسود مقيت كان لنا نائب ضابط شريف من الديوانية (حمزة) أخذ يشتم الرئيس والنظام دون أن يهاب أي شيء فالبعض من الجنود إتخذوا الصمت دون تعقيب لمعرفتهم بالمصير القاتل الا وهو الإعدام من هكذا أحاديث . وإذا بجندي حقير في رعيلنا (عبد الرضا) كان وكيلا للآمن فسجل الحديث بكامله على كاسيت يحمله في جيبه . وفي الصباح الباكر من اليوم التالي ساقوا(حمزة) بسيارة مجهولة ولم يعد وعرفنا أنه أعدم رحمه الله . وتم إستجواب أغلب الرعيل في الأمن العامة في بغداد الاّ نحن أنا وسليم بسبب حظنا الجميل وقتها لآننا لم نتفوّه بأي حرف فلم تظهر أصواتنا في الكاسيت . أما وكيل الأمن (عبدالرضا) فمات بعجزٍ كلويٍ بعد سنتين من الحادث غير مأسوف عليه . وبعدها بدأت العيون تتلصص علينا أنا وسليم وتنقل أخبار تهامسنا الى الاستخبارات.أما العقوبات فتأتينا من دون سبب من قبل الضبّاط لإستفزازنا بأساليب لايمكن أن تحدث الاّ في الروايات على غرار رواية (السيد الرئيس) الحائزة على جائزة نوبل لكاتبها (ميغل استورياس)عام1946 وهذه تتحدث عن الديكتاتور( مانويل كابريرا) الذي حكم غواتيمالا عشرين عام ، ولم تدخل هذه الرواية الى الوطن العربي حتى عام 1985 لان سردها ينطبق على طغاة العرب ، حيث نقرأ في بعض تفاصيلها كيف يتم تحطيم السجين بأساليب تجعل منه منهاراً وتضعف قواه ويموت بحسرة والم بناءاً على تقارير وهمية مثلما حصل لنا أنا وسليم وكيف كتب ضابط أمن الوحدة بتقريره الذي سيوصلنا الى منصة الإعدام لولا ضابط شريف(النقيب نعيم) من أهالي مدينة الإستاذ سليم ( ميسان الجنوب العراقي) فحشر نفسه في الموضوع وأنقذنا من فكي الموت المطبق علينا بين قاب قوسين وأدنى، وهذا الضابط تبيّن فيما بعد هو الآخر قد إكتوى من نار البعث وطُرد من الجيش لأسباب تتعلق بالشك من ولائه لسلك الجيش وإجرام البعث وأسباب أخرى لا أعرفها . وبعد سنين طويلة عثرعليه (سليم) في بغداد يعمل في دكانة لبيع الأدوات الإحتياطية للسيارات وقد روى له تفاصيل إعدامنا لولا تدخله في الوقت المناسب والحظ الذي يلعب دوره أحيانا في إنقاذ النفس البشرية البريئة . والأنكى من ذلك كان الإعدام يتم في الوحدةٍ ذاتها رمياً بالرصاص،وكلانا أنا وسليم شهدنا الإعدام في وحدتنا لصديقنا الجندي الهارب وإسمه للغرابة العجيبة ( صدام) وحينها قلنا ياليتنا نشهد إعدام رئيسنا المجرم( صدام حسين )، وعمر الشاقي باقي الذي سمح لنا برؤية صدام المجرم معلقاً في مشنقته.وتمرالأيام وبعد إن وضعوا مسألة إعدامنا تحت التريث ، وإذا بسليم يحالفه الحظ ويتسرح من الجيش إنتداباً لحاجتهم إليه كمعلم تربوي، أما أنا فقد أرسلوني الى إستخبارات الشعبة الخامسة في الكاظمية وهناك الموت بعينه لكنهم إكتفوا بنقلي الى الخطوط الأمامية ، ويعني أنهم أرسلوني الى الموت العسكري بقذيفةٍ أو رصاصة ، بدلاً من إعدامي . لكنني لازلت على قيد الحياة مع سليم وكلانا يردد ( أنا هنا أيها السفلة ) وهي كلمات مقتبسة من فيلم (الفراشة) الجميل للمثلين العظيمين (داستين هوفمان) و(ستيف ماكوين) والذي يتناول الحرية والخلاص من السجون . واليوم نتذكر ( أنا وسليم ) ماكنا نسخر به في الثكنات وفي أحد فوازيرنا للضحك والسخرية على خال صدام حسين المجرم ( خير الله طلفاح) ، فكان سليم حين يجلب مؤونتنا من فاكهة التفاح فيقول لي : هاتف / اليوم ( خيرمن الله تفاح ) ويكررها أكثر من مرة وبصوت عالٍ يسمعه الجميع مع مد الكلمة بصوت مستمر فيقول ( خير ، خير من الله تفااااااااااااح) ، وأنا أرددها معه فيضحك معنا جميع الجنود دون أن يفهموا المعنى . وذات يوم إنتقلت وحدتنا الى مكان آخر مغبر ومن شدة التعب والإرهاق والقهر كان يتوجب عليّ أن أجلب الطعام ( القصعة) فلم أجد صحناً أو آنية أضع بها الطعام فتناولت (الإبريق) الذي نذهب به الى التواليت ونظفته قليلا ووضعت به المرق والرز وقلت لرفاقي الجنود : تفضلوا هذا ما أنعم به الله عليكم لهذا اليوم . وإذا بالإستاذ سليم يقهقه قهقهة عالية أتذكرها حتى هذه اللحظة ويقول : كيف دبّرتها ياهاتف ( قصعة بالبريج ) وظلّت هذه هادرة مع الأيام وكلما أتصل به يقول( قصعة بالبريج). إنتهت ثكنات صدام وبقي كل من هاتف وسليم بالروح الحرة الكريمة التي نطقها (فرانكو نيرو) في نهاية فيلمه الشهير(كيوما) حين قالت له المرأة العجوز : الى متى ستبقى بترحالك ، أما تخاف الموت ياكيوما ؟ أجابها بكل تحدّيه : لا ، أنا لا أموت لأنني حر ، والرجل الحر لايموت أبدا .
هاتف بشبوش / شاعر وناقد عراقي