انطلاقا من مقولة ” ما لا يمكن تنظيره، يمكن سرده” مبدأ شغل امبيرتو ايكو في الكتابة الروائية كما ردد دائما في الكثير من مقابلاته الصحافية. هو المبدأ الذي جعل من الكتابة الروائية وفقا للنموذج الايكوي فعلا فلسفيا لمعنى الوجود، فعلا عقليا بحثيا،مُلاحظا، مُتسائلا، مُفترضا، مُختبرا، مُتعلما .. فعلا استكشافيا اكثر منه سردا تجاريا يسعى لعرض البداية والنهاية تموت معه الأحداث بمجرد معرفتها نحو معالم خلود للإبداع الفكري الذي ينتج معرفة متوالدة بفن التساؤل..
فالحبكة الأيكوية تنطلق من وسطية ما،من مرحلة تاريخية تسبق ولادة الرواية و بداية أحداثها، فالرواية الأيكوية إبنة التاريخ بامتياز ،فلو يحدث تغير التاريخ ستتغير معه الحبكة والسرد والمفاصل الروائية حكما، ولن تولد هذه الرواية المتخيلة بل ستولد أخرى مختلفة ..ليس من حدث محدد يسهم في ولادة الحبكة الروائية، بل مجموعة أحداث مترابطة تشكل مرحلة، وبذلك لن تكون الكتابة بالنسبة “لإيكو ” ضربا من ضروب العرض، بل سرد لا يخلو من أبعاد أكثر ضرورية من السرد ..الكتابة
ومهما اتخذت أشكالها تبدو رسالة فكرية دافعة للتساؤل، الكتابة فن لصناعة السؤال والمعلومة ، فن لصناعة الموقف والرؤية ،مصنعا للأفكار بالنسبة للكاتب و معيارا لحدود الذات بين “الما قبل” و “الما بعد ” بالنسبة للقارئ…
تخرج من قراءة رواية “لأمبيرتو إيكو” بنوع من الهذيان الذي يلزمك هدأة التعمق بتواجد كم هائل من الأسئلة التي أضيفت لشخصك، تلك :
” المن ؟ واللماذا؟ والأين؟ والمتى؟…”
حول موضوعات تعترضك فترديك في فخ المراجعة للكثير مما آمنت به مسبقا وإعادة النظر بما آمنت به من قناعات وأفكار ومعتقدات سابقة نحو أفق جديد من الأفعال الذاتية لتغرق بمتاهة :
“من الأين؟ ،والى أين؟ والكيف ؟ ” أنت نفسك لن تعرف ذلك …..
إن كم المعلومات والوقائع الدقيقة والتي يمكن اعتبارها رحلة سياحية معرفية بكل معنى الكلمة، فكل تاريخي واقعي، كل جغرافيا محطة علمية، كل مناخ مفصل بدقة أثرا ومعطى، كل حرب مرتكبة روائيا هي حرب ستعيش أزماتها وظروفها وارتداداتها تفصيلا ،هي حرب خلصت الى موت وحياة ،لا بد وان تتخذ منها موقفا ما ، إنتصار وإنكسار… دون ان تغادر صفحات الخيال الروائي، فالتاريخ والجغرافيا والدسائس المؤتمراتية الحاكمة والمحكومة، توظف بموضوعيته لخدمة النص الروائي، فالحبكة الروائية تصاغ بناء على الآثار المترتبة من الحدث الخارجي وعنه،لتصبح نفسك كقارئ شخصية مضافة للرواية لجهة التفاعل إزاء المعارك والظروف يسردها الكاتب متجردا ،حافزا لان تشارك في إعادة صناعة القرار والموقف من التاريخ ….
تبدو قوة الكاتب في ابتكاره نموذج جديد للشخصية الايكوية ،فجعلها شخصية ساخرة بالاغلب ،ضعيفة ومتلقية للأحداث، تتفاعل بناء للأثر، أكثر منها للإرادة، ليتركك كقارئ تقرر انطلاقا من مساحات فهمك ووعيك الشخصي للأمور ،هي شخصية تنتقل من موقف الى آخر تعيش الحياة كاملة بضعفها وقوتها، بحكمها واحتكامها، تبدأ جانبية مراقبة، لتخطف أنظار الرواية خلال سرد اليوميات والأحداث، …فالأنا في الشخصية المحورية ليست واضحة المعالم، هي بالغالب نتيجة، لأحداث وانظمة وظروف خارج الإختيار، لتأثير شخصيات أخرى، متى تغير المثير منها سوف تختفي هذه الأبطال الروائية ليحل مكانها أخَر، شخصياته لا تتكلم بلسان المتكلم، هي بالأغلب شخصية تتلقى – فترد، تتلقى- فتتصرف ،ويبقى للقارئ حيرة التساؤل واللعب في المتغيرات المطروحة احتمالا، فيخترع لك مساحة ان تكون فردا في الحبكة ببناء روايتك الشخصية..
لا يسعنا ربما تجاوز ما يرد لجهة مفهوم البطولة كقيمة في الرواية الإيكوية وما نلاحظ من معنى يختلف ، هي ليست قوة طاقة جسدية، أوتخطيطية تمارس خلال المعارك، ولا بطولة العناد المتخذ مواقف ، وليست أبطالة من الوسامة التي تشكل النموذج الغاوي و تأسر القارئ ،او لتؤثر في الحدث، أبطاله يختلفون في قواعد اللمعان وخطف الأنظار واثبات حضور، فالبطولة بحسب” ايكو” ،قدرة على الملاحظة ،الامتصاص ،الدراسة والتحليل الدقيق للاحداث، قدرة على تحديد النتائج لاستدرار المعنى وليس المصلحة في اتخاذ الموقف ..فالمصالح تكليف الكاتب للشخصيات الثانوية غالبا في النموذج الإيكوي.البطل هو الفكرة بحد ذاتها، الشخصية المسالمة حد الهامشية،التي تتلقى و التي لا تعرف مسبقا، تاك التي يدهشهاالحدث كيفما يكن، تتفاجأ، تعلمها الحياة بضروبها ومؤامراتها وأحداثها بقدر ما تعلمها الكتب والوثأئق، وبذلك تتخطى هامشيتها نحو بطولة مستقرة ومستمرة لتصبح شخصية منتجة للموقف أكثر منها متلقية.
فبطل “جزيرة اليوم السابق” هو الأكثر هربا من المواجهة كما ظهر في السرد التاريخي للمعركة والتي يتعمد ” إيكو ” ذكر الكثير من القوائم العسكرية التي تفوق في وصفها التفصيلي ، تفاصيل البطل الذي يقتصر دوره على المراقبة منتظرا لحظة مناسبة للمغادرة،هو نفسه البطل الذي يلتقي بحب حياته إمراة الصالونات الثقافية فيلزم نفسه حضور جلسات النقاش الأدبي لحين يتم تكليفه برحلة استشكشافية بحرية ، فيرحل دون إعتراف للحبيبة التي لطالما راقب مجلسها وتفاصيلها بدقة عاشق ، لتبدأ رحلته وتغرق السفينة ثم المواجهة الكبرى مع الطبيعة والعلم والوحدة،ليتضح دور الجماعة أثرا وتأثيرا ، مراقبة وتلقيا، ويبدأ دور الفطري منه، محاولا إنقاذ حياته بشتى الطرق والاساليب ،مراجعا ذاكرة الأثر لما ارتكبه العالم الانساني من حوله… الشخصية المحورية ” لإيكو ” أساسية بالقدر الذي تترك لدينا من انطباعات من غير الإعتيادي، فبطله جانبي، هامشي، اعتيادي، تدور الاحداث على جانب منه دون ضرورات الدهشة بقدر بناء السؤال، ليس على بطله ان يكون مُعلِما او مُرشِدا او حتى عالِما او محاربة مغوارا ولا حتى وسيما، ليس على بطله ان يكون محور الكون، بل هو جملة ما يتساقط من الشخصية ظلالا استفهامية للأحداث فيتحول من خلاله القارى الى البطل المحوري نفسه…
التساؤل قدر الرواية الأيكوية، الشخصيات تطرح الكثير من الأسئلة، القارئ يطرح الكثير من التساؤل قدر الرواية الأيكوية، الشخصيات تطرح الكثير من الأسئلة، القارئ يطرح الكثير من الأسئلة حتى تبدو الرواية مصنعا لانتاج الأسئلة على اختلاف مستوياتها، فالسؤال المدهش موضوعا وفكرا يتساوى مع السؤال الغبي او السطحي وهذا ما اشتغل عليه ايكو في رواية جزيرة اليوم السابق، ليحول قارئه الى سيل من التساؤلات النقدية ، البحثية والمعرفية ،تمكنه الانتقال إلى مرحلة :” الما بعد قراءة.” ، نحو آت جديد..
اما التخيل في المشهدية الايكوية ، فسينمائية مكتوبة،هندسة دقيقة التفاصيل واللاتوازن، جغرافيا علمية، بربرية عذرية لطبيعة آخذة في التوحش الفطري، مغرية بتوحشها بقدر ما تتركه الحضارات نفسها من أثر،مشهدية تأخذك كقارئ نحو حيرة الموقف من المفاهيم الاجتماعية كافة،الطبيعة فسحات قوية، طاغية، مرعبة بمجاهيلها، غاوية، ساحرة بمكوناتها، تجذبك حتى تأسرك، قاهرة بترتيب المصائر بقدر ما تبدو ملونة ،فتدخلها آمنا ،خائفا، باحثا، عالما،جاهلا مجردا من اي خبرات، مندهشا بذكر قوائم التفاصيل التي تخدم فعل التأثير على الضحية .. فالمشهدية شخصية ظل بحد ذاتها ، تضاف على الحبكة، لتسهم في بعثرة البطل ، وتشظيه وتشويه مفاهيمه السابقة أكثر فأكثر، تتركه أسيرا تائها الى أن يتخذ منها موقفا حاسما بعد حلقات من الربط والتحليل والتفسير للأحداث قبل ان يصبح آمنا . المشهدية تساهم في إبطال بطولة البطل نحو بطولة قارئ .. أنت كقارئ بت تعرف عكس غباشة المعارف لدى بطله.
قد يخيل الينا ،إمكانية اختصار “أمبيرتو إيكو ” ببعض ملاحظات إلا أن قارئ ” إيكو ” يدرك كونه أعجز من الإحاطة بكاتب على هذا القدر من الحرفة الكتابية للمتخيل، المتغلغل معرفة في طبيعة النفس وكأنه يحوي مجموعات بشرية متنوعة الطبائع والطبقات والقناعات والايديولوجيات،فأنتج شخصيات بمنطقية التحاور مع البدايات نحو صناعة التجدد مستخدما هذه الشخصيات جماعة بالدقة اللازمة لتسير وفق رؤى مغامراتية تعيد معها بناء ذات جديدة تدرك معها أنك كقارئ ،تلك النقطة في بحر الحدث، وتخرج بالأسئلة الوجودية الأبرز لجهة :” من تكون ؟ كيف تكون ؟ لماذا تكون؟” ..