شب تاریک و بیم موج و گردابی چنین هایل
کجا دانند حال ما سبکباران ساحلها
حافظ الشيرازي 1
كنت وحيدا أسير تحت سماء ترسم أمامي أسئلة لا يجيبها إلا حالم …… قلت وقد شعرت بأثر الحياة في جسدي:
هل أنا أرزح بين طيات سراب يلف أحد الكواكب البعيدة؟ ام إن شيئا من ذرات روحي تسربت الى خارج بدني؟
هل انا غريق انفث فقاعات الغرق في ساحل من سواحل البحار السبعة!!
كانت أسئلة صعبة !!…. تناثرت حروفها مثقلة بالغموض ما تلبث أن ترتفع في الفضاء المتصدع أمام مرمى البصر.
كنت اشعر بإحساس غريب وكأنني للتو خرجت من تابوتي أشم رائحة الموت من بقايا هواء عتيق ما لبث أن ابتلعته عتمة الأفق القانية , انتبهت ! لا اثر للحياة او أشباح مدينة أبصرها ,أو حتى معبد مهجور أو صارية سفينة غارقة أو جرذ يرتجف او مزبلة مدينة او لعبة طفل تالفة.. ياالهي!! …انه عالم مهمل من اسئلة الانسان
كانت الخواطر تزاحمني في هذا المسار المكهرب بالخوف والغموض, وفجأة وقعت عيناي على أفعى عظيمة بدت ساكنة لا تتحرك تقهقرتُ أمامها وكنت انتظر اللحظة التي ستنشب أنيابها بوجهي , همست في سري :
هذه رسول الموت , تزحف نحوي بين غضب العواصف والصمت , وما تلبث ان تتركني عظاما نخرة ائن في قلب الموت , لكنها اختفت , لاذت بين الصخور الصماء , تناثرت اوصالها , لم تكن افعى رقطاء بل كان زبدا لفظه تيه البحر , وكنت قد تجرأت بالاقتراب من مملكته .
همست مع نفسي كمن ودع التاريخ والحياة منذ قرون, بينما كانت عيناي تبحثان عن اثر لكائن وطئت قدماه هذا المكان, قلت :
يبدو انه شاطئ لبحر منسي !! فأي شاطئ هذا ؟ واي بحر هذا؟ حتى جاء الرد عفويا: لا ادري !
وقد لا يصدق القارئ أني كنت أرى بدني وأدرك نحافته وقصر قامتي بل إني أرى ظلي القصير وهو يتبعني وحتى علامات الحيرة في وجهي , كنت ارى الجلباب الغامق ولونه القريب من لون الصدأ , واذ ينحدر ثوبي إلى ساقيَّ النحيفتين العظميتين وقدميَّ الحافيتين حتى اشعر إني تحولت إلى سلسلة من العظام التي لا يربطها إلا جلد متغضن.
كان الطريق على ساحل بحر يشبه ساحلا رأيته يوما ما … بلا رأيته يوما ما!! ولكن اين ؟؟ احسبه في المحيط الهادي او الأطلسي هكذا تبادر إلى ذهني … ولكن كيف ومتى؟ لا ادري !! ربما حدث هذا في منامات عابرة, لكنني ألان بدأت المح أشباحا لمدن نائمة بعيدة عن ساحل البحر..
ولم ألبث إلا برهة حتى أخذتْ العواصف تلفحني بين الحين والاخر تتحاور مع المد والجزر حوارا اهوج اذ تنطلق بعدها متمردة الى عرض البحر , الذي كان هو الاخر يغضب بين الفينة والاخرى .
الهواء رطب وخانق حتى أني شعرت بأن عينيَّ جحظتا من ام راسي فصرت أرى أشياءا وهمية تحيطها هالات زرق وصفر وحمر.
وتناهى الى سمعي همس ان جلدي سيتبرعم الى نتوءات ماتلبث ان تتحول الى فقاعات تتفجر بالتدريج ومن ثم سينفجر بعدها بدني في الفضاء, لم اعد أتذكر أهلي وأطفالي لا لأني نسيتهم بل لأني كنت اتحرك بوعي مشطور بألف حيرة وسؤال وربما توهمت اني كنت أعزب لا زوجة لي ولا اطفال .
تحسست ملابسي كانت رطبة مبتلة بالماء المالح وكنت إذْ فكرت بها فظهرت أمامي مثل لون لحاء شجرة ميتة فكنت أبدو مثل هيئة متسول لا يجد من يسعفه او حتى يبث له همومه سوى الأفق الكابي, لم يكن أمامي سوى ان أسير بحذاء الساحل للأمام مثل تائه في طريق لاينتهي مداه , ليس ثمة من شيء ادركه سوى شعور عنيف باللاجدوى , بيد أني وقفت متأملا زخارف كلسية في ابواب وهمية مطلة على مدائن كحجرات الموتى , كان البرد شديدا وملابسي غمرها زبد البحر و كنت انظر الى اثر اقدامي واهنة متعرجة تحاول الهرب وهي تجوس في مملكة غامضة تمتص الموت من اظافري , كنت أحدق في كل هذه الخيالات بروح أبكم أبله لا يقدر على شيء, تيقنت عندئذ إني في شواطئ منسية ربما هجرها أهلوها منذ مئات السنين .
كان الضوء خافتا و بالكاد أرى اثر أقدامي في الرمال ,لقد انتهى الزمن!! فالدقائق والساعات كانت مجرد مسارات نحوالموت, انها ترسم لي صورة عبثية عن موت الزمان والمكان , وكأنها مثل ممحاة تعمل ببطيء لمحو اسمي ولوني وظلي من سجلات الاحياء ,وبعدها سيبتلعني البحر متوحدا مع زبد الأمواج التي تنام لحظة وتستيقظ لحظات وكأنها تنتظرني,لقد أنستني ان لي عظاما ولحما ودما بل حتى يداي لم أكن اشعر بهما وبينما كنت في هذا الحال وعلى حين غرة غمرتني المياه فجأة مرة اخرى و كان لفح الماء المالح ينشطر على بدني كأنه طعنات حراب او لسع السنة من النار وفي كل ضربة كان يحرف بوصلتي نحو الموت , وفجأة بعد لحظات انتبهت لانحسار المياه من فوقي
قلت :
يارب العصاة والكفرة …هل هذا هو الجحيم؟ … لكن برودة الماء شهدت بسلامة عقلي, ثم تساءلت:
واي جحيم اسير فيه وانا وحدي فقط , فهل خلق الله الجحيم من اجل (غالب بن طاهر بن عبيد ابن فهيمه بنت نوماس؟ )
قلت: لو كنت في الجحيم كنت سوف ارى فرعون بحاجبيه المرسومين بلون اسود كما في المومياءات المصرية وطافت في ذهني فكرة ان ارى في الجحيم قاتل اخي اللص الأحول وقاتل صديقي عادل او ربما ارى (خالد ابن حِريِّه) الذي يفتخر انه اغتصب اربع واربعين فتاة في متجر لبيع الألبسة النسائية في غضون عشرة ايام فقط
قلت: لكني لم امسس امرأة في حياتي قط, وبعد برهة باغتتني الزوبعة الأخرى فكنت كمن وقع وابتلعه البحر بكل ما يحمل من مد وجزر واسماك القرش حتى اني شممت عفونة الماء ورائحة السمك النيئ, مضت الزوبعة و كنت أحدق بالرمال وكيف كان الماء يمحي آثار أقدامي ويترك الرمال الحمراء تتشكل بفوهات براكين وأشكال حيتان وسلاحف عظيمة ذات مخالب ولأول مرة في حياتي أتخيل ان للسلاحف مخالب,….. وَسَقطْتُ..!!! كان انفي في الرمال ورائحة البحر تملأه بشدة أكثر من قبل كأنها رائحة جرذ ميت, ثم تمزقت ملابسي فصرت مثل سلحفاة خلعت ترسها, لم يبق من ملابسي إلا جزء لففته على وسطي, إذن لم يبق لي سوى أن انتظر لحظة الهلاك او زوابع او امواج تغمر بدني مرة أخرى , لكن البحر توقف جنونه فجأة .. فوقفت والماء ينحسر من حولي مثل تمثال خاو مكب على وجهه في معبد قديم .. وفجائة.. شعرت بيد دافئة تربت على كتفي !!، ركبني الجنون والدهشة وانا مطمور بعالم الأسرار في شواطئ منسية, لم أرّ شيئا سوى بصيص من الضوء يشهد بوعيي واني حي في عالم منهار, وان الزمن اختزله عالم غير هذا العالم الذي كنت فيه , فالعدم السحيق يحاصرني بقبضته المحكمة.بدأت أتحسس يدا دافئة وصوت ينبجس من عالم الاسرار يهمس :
انهض
قلت في سري:
انه صوت مسالم ليس صوت جلاد
قال مرة اخرى:
انهض
تشجعت وقلت :
لا استطيع
قال:
تستطيع إن شاء الله
عندها تشجعت ونهضت اشعر بخفة وطاقه قوية ولم تعد العواصف تطوح بي , لم أجرؤ ان انظر له لكني كنت اشعر به رؤوما يجري في عروقه دم ليس مثل دمائنا, كانت الصورة التي بدأت أراها صورة شفيفة بينما صرت اشعر بخفة عجيبة في سيري و ان قدماي بدأتا تسعفاني في السيرحتى شعرت اني اطوف في عالم هلامي رقراق وكأن شيئا ما يحرك اقدامي.
يا إلهي اي وجه بهي هذا !! وما وهذا السكون اللائذ في محجر عينيه, وبدا لي وجهه كأنه مرفأ تستريح فيه روحه, انتبهت لقد انحسر الخوف عن نفسي وداهمتني حيرة و حبور, انه شعور غريب لم أعهده من قبل , لكني أحسست كأني ارتويت من عسل مصفى , لم تعد ألبستي تلتصق بلزوجة جلدي بل صرت استشعرها كانها مخمل ناعم قلت وانا مرتبك ازدرد ريقي:
ايها النبي الطيب !! امهلني قليلا …!!
قطب حاجبيه الكثيفين وتتم :
انا لست نبيا
وقفت مذهولا مرة اخرى بينما كانت أقدامي تغوص بين الحصى والرمال, لا اعرف لما أخذت أتأمل وجهه مرة اخرى كان وجها وضاء كصفحة القمر, وجها فضيا يشع بهاء, حتى اني لم ار مثله من قبل , كان وجها قمحيا عربيا تفيض منه خيوط نور فضية ,لأول مرة أرى وجها بهذه الصورة لقد بدا كأنه مرآة فضية , ولا اعرف كيف خامرتني رغبة عارمة بالبكاء, وان شيئا غريب يجوب عيني وحنجرتي , فإلى اين تكون رحلتي الان!؟ ورحت استرق النظر اليه مرة اخرى , أنه يبدو خلاصة حكايات سمعت بها في الماضي عن الأنبياء وأصحاب الأنبياء وأبناء الأنبياء …. ولكن اين ؟ لا ادري! هل هو وهم رسمته عيناي المريضتان ؟ او قلبي المعلول؟ واي عالم جديد بدأ يتشكل أمامي؟ صارت لي قناعة ان ثمة اشياء جميلة في هذا المحيط العائم في الخوف , وربما تراجعت عن جوابات كانت منذ لحظات سلبية عن اسئلة تتقاذف امامي, لكني صعقت من منظر كفيه ,أنهما مبتورتان !!حتى نسيت نفسي ,ونسيت العتمة وكل صوت…ووقفت أتأمل زائر الخوف هذا , بوجهه الفضي, ولم أبالي بما يجري من حوالي من صور للجحيم ورماد القرى المبعثرة , وحطام المدن المتناثرة التي بدأت تتكشف أشباحها أمامي , لكني مازلت أدرك اني تركت مصيري المجهول للمجهول , ولم اعبأ بما ينتظرني من كهوف مخيفة وانفاق نحتتها عفاريت الجن , امست عيناي موصلتين بخيوط الضوء الهاربة من وجهه الفضي , قلت مرة اخرى والدهشة تشطرني :
يا إلهي ما ابهاه انه قمر حقا!! قمر لأول مرة أراه في حياتي !!حتى كأني اعرف تضاريسه , وصور الحزن الشفيفة فيها, ورأيت حزن عينيه وعذوبة شفتيه الذابلتين , وانفه الأقنى , ولحيته السوداء, لكنه كان يبتسم ابتسامة موجوع.
ازدردت ريقي بصعوبة هذه المرة وقلت :من انت بحق هاله النور في وجهك ؟
لم يجبني ,كان ينظر إلي وحزنه حزن غامض يزيده بهاء على بهائه , تقدمت قليلا , ولاادري كيف امتدت يدي وهويت لأقبل يديه , لم تمسس شفتاي كفيه حاولت ان امسك كفيه لكنه اطل من فوق راسي وغمغم :
انهما مقطوعتان!!
رفعت راسي مثل رأس ميت, ويداي تعبثان بالفراغ وتتخبطان في الحيرة , لم ار الا يدين مبتورتين , لكنه فجأة امسك بي , كيف امسك بي لا ادري !! أأنا في حلم ام في حقيقة ؟ لا ادري كيف كنت اشعر بقبضته القوية تمسك معصمي ولكن لا اثر لكفيه ولم ارهما , ومع الوهن في بدني كنت اشعر انه يمسكني بقوة بيدين ناعمتين يتكاثف الزمن بدفئهما , ثم انتزعني من مساري الى مساره , وانا اسير خلفه بصمت , وليس في الافق بيتا نطرق بابه ولا ممر معبَّد نسير فيه , وانا مازلت افكر بهذا القادم العطوف , وهو يمضي بصمت ماسكا يدي من معصمي , كان طويل القامة حتى وصل رأسي الى منكبيه , شعرت أن السكينة التي تلفني كانت تنسكب من روحه في روحي،والظمأ تحول الى فيض من الاحساس الغامر بالارتواء , وعدت مرة اخرى أتأمله وانا اسير ويده تطوق معصمي قلت متسائلا مع نفسي مرة اخرى.
هل هو وجه جبريل؟ نعم هو مَلَك من الملائكة!! وتراجعت قلت لا ! وهل سبق لي ان رأيت ملاكا حتى أعرف انه هو مثله ؟ وصمت برهة قلت هامسا لنفسي :
اني في وهم ! بل في صور عديدة من الوهم!! أنا محموم !!
اذ طالما تنتابني هلوسه واوهام اثناء الحمى, ترتسم بها صور الغابرين ووجوه قرأت عنها في الماضي !!
وتساءلت بنَفَس ديكارتي هل انا موجود؟؟
نعم اني ارى وجهه وهو خير دليل على وجودي . وسرت كأني لم استطيع ان أجيب عن تساؤلاتي الفلسفية , لكني الآن فقط اشعر انه انتشلني من العالم السحيق الذي تدحرجتُ فيه, توقف قليلا وهو يسترق النظر لي وكأنما ادرك ماكنت اريد أن أقوله ….!! وتمتم بصوت خفي :
مسافر بين النجوم والقمر …
الان تيقنت ان في راسي فجوة لاترتادها الا الأعاصير و بدأت تزأر فيها الخيالات المرعبة … واستدركت متسائلا قلت :
اي سفر؟
نظر الى وجهي فلم اجرؤ أن أنظر إليه , لكني عدت مرة اخرى انظر الى معصميه ,وأمعنت النظر هذه المرة كثيرا, ومرة اخرى لم المح كفيه , لكني رأيت قطرات الدم تنبجس ببطىء من اطراف معصميه ,حتى حينما توقف قليلا تكونت على الرمال بقعة قانية من الدم ,في تلك اللحظات كان ألف سؤال يهتف في صدري…لابد انه ملاك او نبي كريم !!….. ترى من هذا الملك الكريم الذي في وجهه تتنفس كل ملوك الارض وأودعتْ به بهاء الاولين والاخرين ؟؟ انه نبي بلا شك !!.
ومضت اللحظات متسارعة نسيت فيها كل شيء وبدأ العالم يسطع أمامي ووقفنا أنا وهو , أنا بقامتي القصيرة ,وهو بطوله الفارع وقد مس كتفي صدره , فما كان مني إلا أن شعرت بدفء يسري في دمائي , قلت بنبرة حائر كمن تحطمت سفينته في عرض البحر:
هل انت نوح أمْ أنت موسى أمْ المسيح أمْ هارون ؟؟ وجاءني الرد مدويا في آذاني وكأنه لا يتسع الا لأذني فقط ولا يسمعه اي من البشر , وأنا أمعن النظر في وجهه الفضي وأتتبع ابتسامة هادئة انفرجت من فمه تعكس روحه الساكنة لكنها مضت بعيدا ! تحولت الى بريق ذاب في الصمت! وانكمش حاجباه وهو صامت ! ولم يتكلم ! وأخيرا تكلم … لم تكن الكلمات صدئة بل عربية فصيحة, مضبوطة الحركات , كانت تخرج من فمه وعينيه ولسانه وشفتيه وغمغم:
قلت لك مسافر بين النجوم والقمر
واردف :
ابق هنا , واشار الى حجرة تبدو انها قديمة , لكنها كانت حجرة دافئة , قاعها صخرية, وجدرانها مصبوغة بالجير ,كان فيها ثمة ابريق حديدي من الماء ,وقدح زجاجي شفاف مثل قدح كنت احتسي به الماء يوما ما, كانت الحجرة هي عين حجرتي في بيتي منذ زمن سحيق, حتى لمحت فيها مكان مكتبتي في ذا الركن من الحجرة , تأملته كان في يوم ما مكتظا بالكتب الكبيرة والصغيرةالتي لم تستوعبها رفوف المكتبة ,لكنني الان اندهشت فلم أرَ اي كتاب فيها عدا كتاب (ثورة في العتمة ) بغلافه الاسود وحروفه الحمراء, مددت يدي , مسستها, كان لازال فيها وصل استلامي صك الجائزة الاولى ,اذ استبقيت منه خمسين الفا في الصفحة الخامسة والتسعين،لازلت اتذكره ,قلبت الصفحات بهدوء انها هي هي لاتزال تحتضنها آلام مسلم بن عقيل وحوريات الجنان, وهناك كتاب( تحف العقول) وفيه قلم اصفر ونفس الصفحة التي كنت اقرأ فيها في الايام السحيقة, والدائرة الحمراء على آخر حديث قرأته في الصفحة 246 ( اي بني اياك وظلم من لايجد عليك ناصرا الا الله ) ورأيت أيضا خاتمي الفضي في الرف الثاني وبه( طلسم شرف الشمس) ,وكيس الدواء وفيه ادوية أبي, دواء ارتفاع ضغط الدم, ودواء منظم دقات القلب, وعلبة الاسبرين , وشريطا حريريا اخضر أهدتني إياه أمي قبل موتها ببضع سنين , قلت بتوجس غريب:
اقسم بالعذاب ودم المظلومين عبر التاريخ ان عقلي توقف الان !! انا مجنون!! انا ميت يحلم !! انا حالم يحلم بالموت!! وكدت انعى نفسي ! وان الزمن دار دورتين ! وقد مضت مئات السنين ! ثم رجعت الى نفس الزمن ونفس الحياة!! ربما تهت في كوكب عائم في الفراغ ! وكدت اختفي لولا هذا الرجل إذ انتشلني من هذه الدروب اللائذة بين المشرق والمغرب , ليرجعني الى غرفتي في بيتي بعد سبعمئة وتسعين عاما . لا اعرف كيف اهتديت الى هذا الرقم ! لكن شعورا غامرا استيقظ في نفسي, باغتني بأنه عين اليقين …. لا ادري كيف؟ ربما همس به شخص في اذني اليمنى!!
انها غرفتي , انها حدث قديم في سلطة الذاكرة .. انها موطني وموطن خيباتي .. لقد تجردت جدرانها من كل شيء الا من لوحة (الطائر التائه)التي بقيت بنفس موقعها ونفس الوانها الباهتة , كانت ماتزال على الجدار امام سريري, ورجعت اتامل في الحجرة وقد انتزع منها بساطها المخملي الأصفر, وصارت قاعا صخرية جرداء .. وهذه نافذتها التي طالما كانت تلجها اشعة الشمس كل صباح ومساء ,وكل صيف وشتاء , وهاهي الان موصدة لا يفتح درفتاها شيء ولو ذبابة او شعاع غارب لشمس ذابلة , ومضيت أتأمل و أتأمل حجرتي ووطني , وطن الغربة وهاهي تشهد لي لأول مرة بشيء من السكينة لم اعهده , لا الم في المريء ولا ارتفاع في ضغط الدم , ولا ضيق في الصدر , ولا تشظي روحي كل ساعة بين فلسفات متحاربة , بين ديفيد هيوم وماركس وديكارت, و عمانوئيل كانت والشيخ المفيد و بين الكليني والبخاري وابن ماجة والقرطبي, لكنها كانت تشهد لي ايضا بالموت , والخوف , والدمع ,وحزن عاشوراء, انها سفينة الماضي , وهاهي تنبعث الان معي مجردة من كل شيء بعد سبعمائة وتسعين عاما… اه تذكرت ان الرقم هذا قد همس به صاحبي بعد لجاجة أضحكته بها .. لم يبق من كتبي الا (ثورة في العتمة) و (الفجر) و(سرديات) وتلك الحقيبة المليئة بالأوراق السرية ,وذا الرف والمصحف المتهرئ و قارورة تراب كربلاء , وعبارة لم استطع ان أقرأها حتى مسحت التراب فظهر العنوان الذهبي (علي ولي الله ), وبضع قصائد مخفية , وهذه الممحاة و القلم التي دونت فيه مسودة(الفجر) . كنت في عاصفة من الدهشة تطاردني الصورالغريبة , وان كانت جزأ من الماضي السحيق , لكنها تداخلت مع الحاضر مثل الحلم بالحلم, لتكون جزأ من طقوس غرائبية, والان هي يقينا أمست حقيقة, عرفت منها ان دمي ينضح بالأسى والحيرة, لا ادري كيف تشاغلت بأوراقي وحجرتي وصاحبي يقف امامي!!. نظرت اليه وانا أغالب شعورا غريبا بالود والحيرة ! واذ اقتربت منه قلت وانا اشبه بمن يخفي ذعره :
في اي برزخ من العالم نحن؟
لم يجب ولكنه تمتم كمن يستعد للرحيل:
… حسبك ان تبقى هنا لقد مضت سبعمائة وتسعون عاما
—–
هامش:
الابيات من الشعر الفارسي ترجمتها : الليل مظلم والامواج متلاطمة والعصف مخيف فمن لنا نحن وقد رحل سكان السواحل
11 اب 2023