(1)
القرية التي لم تتحول إلى مدينة..
لاشيء يبعث على أنك في مدينة غير المباني الاسمنتية والمقاهي الفاخرة.. السوق الأسبوعي يُقام كل يوم ثلاثاء.. ويأتيه التجار والباعة ثلاثة أيام قبل انعقاده..
لا حديث للسكان هذه الأيام الا عن الانتخابات الجماعية.. الحملة بدأت قبل أوانها.. الولائم تُقام هنا وهناك.. الذرائع كثيرة.. إقامة خطبة أو فرح أو استغلال حتى عشاء ميت.. ومن يُقسم ويأكل لا بد أن يخاف من أن يُصاب بطنه أو فمه بمكروه.. الناس تتذكر دائما ما وقع لغيرها.. العربي ولد العجل، أعطى وعدا، وأقسم على ذلك بالمصحف، ولما تراجع أصابه إسهال جعله ينزف من أسفل بشكل دائم، ولم ينفع معه فقيه أو طبيب.. لم يتناول أي طعام مسموم، فقط أخلف بوعد قدمه لمرشح، ولم يف به..
المهم عبد السلام ولد هنية قرر الترشح للانتخابات الجماعية المقبلة.. الرجل ينتمي إلى عشيرة كبيرة في المدينة، لو استطاع جمع أصواتها، لما استطاع أحد منافسته.. فهو يعيش معه تحت سقف واحدا أكثر من ستة عشرا نفرا مسجلين في اللوائح.. وليضمن نجاحه يحتاج فقط إلى صوتين أو ثلاثة من خارج البيت..
المدينة منقسمة على نفسها.. أعيان مشهورون قدّموا مرشحين موالين لهم للفوز بأغلبية أعضاء المجلس.. نساء بعضهم يركبن سيارات فاخرة، ويزرن البيوت، ويطلبن من أهلها التصويت لهذا المرشح أو ذاك.. استقبالهن يكون مصحوبا بالزغاريد.. زوجة الرئيس بشحمها ولحمها تزور نسوة هذا البيت أو ذاك، شرف ما بعده شرف، لا بد أن تتحدث عنه العائلة لشهور قادمة، وتتفاخر به على غيرها..
من لا يتوفر على سيد لا بد أن يتقرب من سيدة.. الناس لا تعرف ما سيحدث لها في المستقبل.. ولا بد أن تتكئ على عكاز قوي، حتى إذا احتاجت إليه وقت الأزمة طرقت بابه..
بعد إعلان النتائج أصاب عبد السلام ولد هنية صدمة كبيرة.. لم يحصل إلا على صوت واحد، هو صوته..
في المساء عندما جلس إلى المائدة رفقة العائلة، تهامسوا بينهم وضحكوا في صمت.. شتمهم واستغرب كيف يتناولون الطعام معه كل يوم، ويصوتون لخصومه.. لا بد أن زوجة الرئيس أو زوجة أحد الأعيان سحرتهم بكلام معسول امتزج بالجاه والمال والقوة، فحال دون إصابة بطونهم بأي مكروه..
(2)
الماء المقدس
منذ سنوات وهذه القرية الصغيرة المنسية بين الجبال تنام هادئة.. استيقظ حمو كعادته باكرا.. توضأ وصلى.. اتجه إلى الحظيرة لتفقد قطيع صغير من الماعز.. انتظر أن تستيقظ زوجته، وتحلب العنزة.. خرج بعد ذلك إلى العمل في الحقل القريب من مدخل القرية..
فكر في إزالة بعض الأحجار المسنة التي اعتقد أنها ستضايق بذور الذرة عندما تنمو.. ضرب بالفأس ثلاث أو أربع ضربات بقوة.. أزال القطعة الأولى والثانية ثم الثالثة، فجأة تدفق نبع من الماء.. نادى بأعلى صوته على زوجته فطومة.. كاد يُغمى عليه من شدة الفرح..
خرج سكان القرية عن بكرة أبيهم.. أحاطوا بحمو يسألونه كل مرة كيف انبجس الماء من الأرض!؟.. البعض اقترح بناء صهريج صغير حتى يتمكن الناس من استغلال الماء أحسن استغلال، بعد أن شحّ بئر القرية..
لاحظ السكان أن مذاق الماء له طعم مختلف عما ألفوه، لا بد أنه ماء معدني.. وهذا يحتاج من الشباب إلى فحصه بعد أخذ عينة منه إلى أحد مختبرات المدينة..
بعد أسبوع تأكد بالفعل بأنه ماء معدني، فذاع الخبر في الراديو.. بدأت تتناسل الإشاعات حول قدرته على الشفاء من أمراض لم يجد لها الطب دواء.. وشرع الناس يتوافدون من مدن بعيدة على القرية.. بُنيت الخيام، وأنشئت مطاعم شعبية، وافتتحت الدكاكين لبيع المواد الغذائية.. تحولت القرية بسرعة إلى موسم يكتظ بالزوار..
سيارات فخمة تقل أسرا من أعلى الهرم الاجتماعي، تأتي للتبرك بالماء الذي أصبح مقدسا، تُقيم يومين أو ثلاثة بالقرية، وتشتري برميلا أو اثنين من حجم عشرين لترا لتأخذه معها..
اعتقد كبار السن بأن هذا الماء يفتح شهية الأكل، ويشفي من أمراض الكلي، ويخفف من آلام المفاصل والركبتين والظهر..
في المساء دخل جزار بدين خيمة مومس، وقضى اللية معها.. في الصباح قدم لها مائة درهم.. ابتسمت بمكر، وتمنت عليه لو أقرضها مؤخرته أسبوعين أو شهرا قبل أن يجف النبع، لكسبت الكثير من النقود، وأعادت له أمانته، وفوقها مبلغا مهما من المال..
مراكش في 05 ماي 2024