بين إنسان العالم الثالث و” الإنسان ذو البعد الواحد ” جورج طرابيشي ناقدا لفرانز فانون وهربارت ماركوز بقلم: قلولي بن ساعد/ الجزائر
لم يتردد أبدا المفكر السوري جورج طرابيشي في تقديم قراءة ثمينة ، في حق طبيب الثورة الجزائرية المناضل والناقد الثقافي فرانز فانون .
ولم يكن هوس جورج طرابيشي بفرانز فانون من قبيل الصدفة ، ولا هو من الأحداث العابرة ، بل نتيجة وعي عميق بمحمولات نصوص فانون الفكرية والنقدية ، خاصة ما تعلق منها بكتابه المهم ( معذبو الأرض ) .
الكتاب الذي أدان فيه العنف الكولونيالي المسلط على إنسان العالم الثالث ، ممثلا في الإنسان الجزائري خلال الحقبة الإستعمارية للجزائر، الواقعة آنذاك تحت وقع البطش الفرنسي الغاشم ، عبر معاينته من الداخل لحالات التعذيب التي تطال نزلاء مصحة جوانفيل بمدينة البليدة الجزائرية .
حتى ولوجاء ذلك في سياق خاص ، هو السياق المتعلق لكتابة جورج طرابيشي لمقدمة نقدية خصصها لترجمته لكتاب مهم من كتب أحد أقطاب مدرسة فرانكفورت النقدية .
وهو كتاب ( الإنسان ذو بالبعد الواحد ) لهربارت ماركوز .
وهو يفتتح نص هذه المقدمة بما قيل عن فانون ، بأنه أول من أعاد بعد ماركس ولينين اكتشاف قوانين التاريخ في كتابه ( معذبو الأرض ) .
عاقدا بين فانون و هربارت ماركوز نوعا من المقارنة في ضوء الدرس التاريخي المقارن
وهنا سأحاول قراءة هذا النقد الذي يقدمه جورج طرابيشي عندما يقارن بين فانون وهربارت ماركوز بين إنسان العالم الثالث عند فانون والإنسان دو البعد الواحد عند هاربارت ماركوز قراءة قريبة مما يسميه الشاعر والناقد الثقافي عز الدين المناصرة ( النقد الثقافي المقارن ) ، الذي صاغ بعض أسئلته النظرية والمفهومية عير كتابه المهم ( النقد الثقافي المقارن منظور جدلي تفكيكي ) .
بوصف النقد الثقافي المقارن لا يكتفي بقراءة النصوص الأدبية العربية في علافتها بالنصوص الأدبية الوافدة إلينا من الثقافات الأخرى عبر فعل المثاقفة .
بل يتجاوز ذلك على ما يرى الناقد الفلسطيني الدكتور عز الدين المنتصرة إلى قراءة ” النصوص الثقافية القومية في علاقاتها مع النصوص الثقافية في ثقافات العالم ” (01)
ومن المعلوم أن مفهوم النص الثقافي أوسع من مفهوم النص الأدبي .
وهو الأمر الذي قاد عز الدين المناصرة نفسه إلى تخصيص قسم من كتابه المذكور لما وصفه ( بتفكيك جدلية الثقافي والأدبي ) ، شرح فيه بعض الفروقات الناشئة بين النقد الأدبي والنقد الثقافي والمثاقفة والنقد الثقافي المقارن .
الفروقات التي قد تلتبس في ذهن القاريء بين وظائف كل من هذا الحقول مجتمعة ، ثم الفرق بين النص الثقافي والنص الأدبي .
خاصة عندما يعتبر “أن النقد الأدبي والنقد الثقافي خطوة جوهرية لا بد منها للوصول إلى النقد الثقافي المقارن الذي يسميه أحيانا ( النقد المتشعب ) ” (02) .
ودلالة ذلك عند عز الدين المناصرة ، أنه لم يكتف بقراءة النصوص الروائية العربية في علاقتها بالنصوص الروائية الغربية من منظور النقد الثقافي المقارن على غرار ما فعله مع
” نجمة ” لكاتب ياسين و( الصخب والعنف ) لويليام فوكنر وبيجمالبون بين برنادشو وتوفيق الحكيم وعن التناص الثقافي المقارن بين نصوص فوكنر ورواية ( ماتبقى لكم) للروائي غسان كنفاني .
بل تجاوز ذلك إلى قراءة النصوص الثقافية في معناها الأوسع من منظور النقد الثقافي المقارن .
والأمر يتعلق ببعض النصوص الثقافية كقضية مجلة حوار العربية و( ثقافة الحرب الباردة ) في بريطانيا وبعض قضايا النقد النسوي وغيرها .
وهي قضايا لا يتسع المجال هنا للإفاضة فيها ، مما يبعدنا عن الغاية المرجوة من هذا المقال والحدود المرسومة له .
وهذا لا يعني بالطبع أن جورج طرابيشي يقدم نفسه بوصفه بمارس نوعا من النقد الثقافي المقارن ، فكل ما أريد التأكيد عليه هو أنا القاريء الذي أحاول قراءة الدرس النقدي المقارناتي لجورج طرابيشي بين “إنسان العالم الثالث و” الإنسان ذو البعد الواحد ” وبين فانون وهربارت ماركوز في ضوء النقد الثقافي المقارن .
ففي الوقت الذي يتوجه فيه نقد فانون الثقافي إلى الغرب ، دفاعا عن إنسان العالم الثالث .
على مايرى جورج طرابيشي يتوجه نقد هربرت ماركيوز إلى الولايات المتحدة الامريكية وأوربا الغربية للحد من ظاهرة ( الاغتراب الثقافي ) .
وأزمة الاغتراب الثقافي ، كما لا يخفى على أحد من المشتغلين في حقلي النقد الأدبي والنقد الثقافي العارفين بالموروث النقدي لمدرسة فرانكفورت النقدية .
شكلت ولا زالت تشكل عنصرا مهما في الجهود النقدية والمعرفية المناوئة لرأسمالية الثقافة الغربية التي ميزت مسار مدرسة فرانكفورت النقدية وهربارت ماركيوز يعد أحد أعضاءها البارزين .
هذا ما جعل جورج طرابيشي يرى بأنه ” إذ كانت صورة ( معذبو الأرض ) تعكس صورة بلدان العالم الثالث المتخلفة اقتصاديا ، فإن صورة (الإنسان ذو البعد الواحد ) تعكس صورة إنسان البلدان الصناعية المتقدمة .” (03) .
وعلى ما يبدو أن فكرة (اكتشاف قوانين التاريخ وصياغتها ) عند كل من فانون وهربارت ماركوز وقبلهما عند ماركس ولينين .
هو التي حتمت على جورج طرابيشي ، أن يعقد هذا الدرس التاريخي المقارن بين فانون و هربرت ماركيوز وبين إنسان العالم الثالث والإنسان ذو البعد الواحد .
آخذا بعين الاعتبار بأن ” لغتهما ليست واحدة وإنسانهما ليس واحدا والعالم الذي يتوجهان إليه ليس واحدا أيضا ” (04).
وعلى منوال إدوارد سعيد الذي كان يعتقد في كتابه ( الثقافة والإمبريالية ) بأن فانون لم يقرأ بعد القراءة الصحيحة .
القراءة التي لا يزعم حتى إدوارد سعيد نفسه بأنه قد أنجزها بحق فانون ، ولم يزعم أيضا جورج طرابيشي بأنه يكشف جديدا عندما يعمد إلى إعادة صياغة سؤال فانون التاريخي :
” لماذا أصبحت الثورة ضرورية وممكنة بل وحتمية في عالم بات يعي بأنه ليس أمامه ما يخسره غير أغلاله .. . ؟ ” (05)
واضعا إياه وجها لوجه أمام سؤال هربارت ماركوز في دعوته للقضاء على ظاهرة الاغتراب الثقافي السؤال الذي يقول مضمونه :
لماذا باتت الثورة مستبعدة وغير محتملة بل ومستحيلة في عالم يخشى أن يفقد مع الثورة كل امتيازاته .. . ؟” (06) .
وهنا يشدد جورج طرابيشي بأن نقطة انطلاق كل من فانون وهربارت ماركوز واحددة .
ويعني بذلك بأن السؤال بالنسبة لفانون هو :
كيف يمكن أن تقوم الثورة في عالم لا وجود فيه للقوة الكلاسيكية للثورة وهي الطبقة العاملة الصناعية . ؟
فيما السؤال بالنسبة لهربارت مركوز هو :
كيف أن الثورة لم تتحقق ، بل باتت شبه مستحيلة في علم يمتلك منذ أكثر من قرن القوة الكلاسيكية للثورة وهي الطبقة العاملة الصناعية . . ؟
عارضا لبعض الآراء الغربية الامبريالية المعادية لقيم الحرية والأنسنة ، التي حاولت التقليل من حيوية أسئلة فرانز فانون وهربارت ماكوز الباحثة في شروط قيام الثورة في مواجهة أنساق الهيمنة والطمس والاحتواء الثقافي الواصفة لمشروعيهما مشروع فرانز فانون ومشروع هربرت ماركيوز بالمثالية والذاتية والخروج عن التصورات الأساسية للنظرية الماركسية .
وهو بالطبع خروج متعمد يجد مضمونه في ما أصبح يسمى في حقل الدراسات الثقافية بالماركسية الثقافية أو ما بعد الماركسية ، كما تتجلى في بعض نصوص غرامشي النصوص الأخيرة التي أنقذت الماركسية من استنفاذها لأدوات تحليلها الثقافي الذي كاد أن يضمحل أو يتوارى خلف شمولية النظرية الماركسية ، و البنى المهترئة التي ميزت مسارات الماركسية التقليدية والنقد السوسيولوجي الماركسي الذي وصل إلى حد التشبع والانغلاق النظري في فترة من فترات التاريخ .
على الرغم من أن زمن كتابة فانون لكتابه المهم ( معذبو الأرض ) وكتابة هربارت مركيوز لكتابه ( الإنسان ذو البعد الواحد ) ، هو سابق أو متزامن مع ما أصبح يسمى بالدراسات الماركسية البعدية أو ما بعد الماركسية أو الماركسية الثقافية .
وهنا ينبغي أن نكون حذرين فالتلاعب بالزمن ليس هو مبرر العودة لانزياح كل من فانون وهاربارت مركيوز صوب التخلص من شمولية النظرية الماركسية ، و البنى المهترئة التي ميزت مسارات الماركسية التقليدية والنقد السوسيولوجي الماركسي الذي وصل إلى حد التشبع والانغلاق النظري في فترة من فترات التاريخ .
وهو انزياح لا علاقة له بالانزياح في بعده الأسلوبي الذي أشبع بحثا وتنظيرا في الدراسات الأسلوبية والسيميائية من طرف كثير من النقاد والسيميولوجيين من تلامذة بارت وغريماس وغيرهما .
الذين يردون هذا الانزياح إلى مرجعيته اللغوية الأسلوبية بالعودة إلى جوليا كريستيفا في حديثها عن الانزياح اللغوي الوارد في كتابها ( علم النص ) .
ويتناسون البعد الآخر للانزياح ، وهو البعد الفلسفي المعبر عنه بلغة المفكر التونسي فتحي المسكيني (سؤال الانعطاف ) .
عندما كان فتحي المسكيني بصدد التساؤل عن كيفية انزياح السؤال الكانطي ( ماهو الإنسان ؟ ) إلى السؤال المعاصر ( من هو الإنسان… ؟ ) .
وهو انزياح يخصص له المسكيني فصلا كاملا من كتابه ( الهوية والإمبراطورية في تنوير الإنسان الأخير ) .
وأما من هو الإنسان الأخير… ؟ .
فذلك يتطلب انزياحا آخر، هو انزياح الوعي بالقراءة والتمثل في إنسان ما بعد كانط والسؤال الكانطي ” أي إنسان … ؟ ” إنسانهم أم إنساننا … ؟
طالما أن الإنسان الذي شغل فلاسفة الحداثة الغربية أو (الحداثة الأداتية ) التي اقترح آخر مفكر وسوسيولوجي من مفكري مدرسة فرانكفورت النقدية ، وهو يورغن هابرماس إلى تجاوزها مقترحا محلها حداثة أخرى هي ( الحداثة التواصلية ) ، هو إنسان الغرب إنسان الحضارة الغربية المتمركزة حول الذات الغربية ، فيما إنسان الأطراف الأخرى .
في إفريقيا وآسيا والعالم الثالث عموما التي وقع عليها فعل الطمس والاستعمار والاحتواء فلم يكن مدرجا أبدا ضمن جدول أعمال الحداثة الغربية الأداتية في فعلها الإقصائي
هذا هو سؤال الانزياح أو الانعطاف الذي قاد كل من فانون وهربرت ماركيوز إلى العمل على تنمية الفعل الثوري من داخل ( فلسفة الفعل ) الفعل الماركسي للإجابة عن ذلك السؤال الجوهري في الممارسة الماركسية :
من هو الماركسي ؟ .
من خلال العودة لانعطاف الفعل الماركسي صوب إنتاجية أدوات التحليل الثقافي الذي يقوم على استثمار الحمولات السيميولوجية والثقافية التي تتيحها تحولات النظرية الماركسية وانفتاحها على خطاب البعديات ( الما بعد ) بإتجاه خطاب الأنساق الثقافية .
الأمر الذي نتج عنه ولادة ماركسية أخرى لا علاقة لها بالماركسية التقليدية كما فهمها خصوم فانون وهربرت ماركيوز هي الماركسية الثقافية ، التي خصص لعلاقتها بحقل الدراسات الثقافية ناقدا أمريكيا هو دوغلاس كلنر كتابا مهما حمل عنوان ( الماركسية الثقافية والدراسات الثقافية ) .
ثم أعاد التأكيد على نفس الأفكار في دراسة أخرى له ناقش فيها علاقة حقل الدراسات الثقافية بمدرسة فرانكفورت النقدية كاشفا عن ما سماه ( الصيغة المفقودة ) بينهما
المسكوت عنها في سرديات النقد النسقي النخبوي الضيق الأفق .
وعلاقة الماركسية الجديدة بحقل الدراسات الثقافية ، لا تقتصر فقط على بعض سرديات النقد الثقافي في بريطانيا وأمريكا ، بل إننا نجد لهذه العلاقة بعض الأصداء في عدد مهم من تجارب النقد الثقافي والدراسات الثقافية في الوطن العربي ومنها على وجه الخصوص ما تضمنه أحد كتب الناقد الثقافي الجزائري الدكتور طارق بوحالة وهو ( أسس النقد الثقافي وتطبيقاته في النقد العربي المعاصر ) .
ففي الفصل الأول من كتابه (أسس النقد الثقافي وتطبيقاته في النقد العربي المعاصر ) .
الفصل الذي حمل عنوان ( النقد الثقافي المفهوم والمسار ) ، وفي القسم الثالث من هذا الفصل ( مقومات النقد الثقافي ) .
يخصص الدكتور طارق بوحالة حيزا مهما من هذا البحث الرصين لمحور الماركسية الجديدة وصلتها بالنقد الثقافي والدراسات الثقافية ، متحدثا عن نوع من العلاقة بين الماركسية الجديدة وحقل الدراسات الثقافية ، العلاقة التي يستدعي فيها بعص النصوص الجديدة لرموزالماركسية الثقافية المتضمنة لمفاهيم وطروحات متجاوزة لنصوص الدرس الماركسي التقليدي والبنى المهترئة التي ميزت مسارات الماركسية التقليدية على غرار نصوص غرامشي الأخيرة وألتوسير ورايموند وليامز وتيري إيغلتون وغيرهم .
وربما الجديد الذي يضيفه طارق بوحالة هو الكشف عن بعض مفاهيم ألتوسير وعلاقتها بالنقد الثقافي كمفهومي الإستجواب وأجهزة الهيمنة الإيديولوجية ، وما يهمه من مقولة الجهاز الإيديولوجي ” هو أن تصبح الثقافة هي الجهاز الإيديولوجي الذي يمارس كل أشكال الهيمنة والسيطرة على الفرد والجماعة وهو ما يفتح المجال للحديث عن الهيمنة الثقافية المنتشرة على المستويين المحلي والدولي ” (07) .
في نوع من النقد الضمني لتجليات ( الثقافة الرفيعة ) بمفهوم ماري تيريز عبد المسيح أو ( أسطورة الأدب الرفيع) بتعبير السوسيولوجي العراقي علي الوردي .
ونصوص هؤلاء بالإضافة إلى نصوص غرامشي وألتوسير ، هي التي شكلت إحدى المداخل الأساسية لحقل الدراسات الثقافية في متكآته الماركسية في ضوء ما كان يسميه الناقد الثقافي البريطاني رايموند وليامز ( المادية الثقافية ) .
هذه الماركسية الثقافية ، التي مكنت كل من فرانز فانون وهربارت ماركيوز من التأسيس لخطاب فلسفي في النظرية الماركسية جديد سيشكل بعد سنوات من رحيلهما أحد أهم المراجع المهمة في النقد الثقافي والدراسات ما بعد الكولونيالية ، كما تتجلى في الجهود النقدية والمعرفية لمدرسة من مدارس النقد ما بعد الكولونيالي وهي مدرسة دراسات التابع في الهند في حقبة ما بعد الكولونيالية البريطانية .
لقد كان جورج طرابيشي حريصا أشد الحرص على نقد نقاد فانون وهربارت ماركوز من ممثلي الماركسية الناعمة ، التي لا تقول شيئا ولا تتعرض لخصوم الماركسية الثورية واعتبار رفض الفانونية والماركوزية عملا سهلا .
وسهولته تكمن على مايرى جورج طرابيشي في إستسهال النقد الموجه لهما مثلما هو موجه للوجودية والفرويدية بحجة أنهما تقفان خارج معسكر إيديولوجيا الطبقة العاملة .
وهذه الحجة يرفضها جورج طرابيشي بشدة واضعا إياها تحت محك استشراف المستقبل عندما يعتبر أن الخروج عن معسكر الطبقة الصناعية ليس خروجا عن النص الماركسي.
طالما أن الأمر لا يتعلق في نظر جورج طرابيشي بنوع من الفكر الكنسي الذي يعاقب كل من يتجاوز المحددات الإبستيمية لمعسكر وإيديولوجيا الطبقة الصناعية أن يفسرها أو يطورها بتهمة الهرطقة والتحريف أو النزعة الذاتية أو غيرها .
مثلما يشدد على فعالية مصطلحات ماركوز وهي مصطلحات نقدية .
فهذه المصطلحات النقدية لن تكتسب فعاليتها في نظر جورج طرابيشي إلا إذا احتلت مكانها في صلب النظرية النقدية الكبرى ، ويقصد ذلك النظرية النقدية كما تمثلتها مدرسة فراكفورت النقدية .
ورغم أن جورج طرابيشي يخالف ماركوز، في اعتقاده بأن الطبقة العاملة في البلدان الغربية المتقدمة صناعيا قد اندمجت نهائيا بالمجتمع وأصبحت قوة إيجابية .
وهو الأمر الذي لم يحدث في بلدان العالم الثالث الخاضعة آنذاك للاستعمارولتغول الإمبراطوريات الغربية .
في لهجة من ماركوز لا تفتقر إلى نوع من النقد الثقافي المضمر لغياب هذا الاندماج وغياب هذه الطبقة في بلدان العالم الثالث .
وربما لم يتجرأ جورج طرابيشي على اعتبار أن هذا الزعم من ماركوز بنطوي على نوع التمركز في كلام ماركوز الأقرب الى التفكير من داخل سيطرة اللوغوس الثقافي الغربي على المخيال الثقافي لماركوز، واكتفى بالقول أنه يخالف ماركوز ثم سكت عن مركزية ماركوز .
والحق يقال بأن جورج طرابيشي لم يتجاهل علاقة الفكر الماركوزي بحركات التمرد الطلابية في أوربا .
ولكنه أيضا لم يتوقف عندها طويلا ولم يعمل على تحليلها تحليلا عميقا ، رغم أن الأمر يتعلق بمقدمة نقدية وليس بمشروع نقدي بعيد المدى .
وهو يشير بأن ماركوز لم يتكلم في كل كتاباته النقدية عن الحركات الطلابية ولم يتنبأ بانفجارها
وخلاصة ما توصل إليه جورج طرابيشي من خلال قراءاته المتعددة للموروث النقدي والفلسفي لماركوز .
وأثر هذه الموروث في مخيال الأجيال التي قرأته من الطلبة والشبان ، أنهم اكتشفوا ماركوز واكتشفوا معه صيغة إيديولوجية لما يحسون به من تبرم واستياء واحتجاج قابلة لأن تكتسب قوة واقعية بالرغم من صدورها على ما يرى جورج طرابيشي من مثقف وفيلسوف تجاوز العقد السابع من عمره .
بالمعنى الذي يكشف عنه ناقد آخر من نقاد ماركوز وهو المفكر اللبناني مشير باسل عون الذي لا يتردد في العودة إلى هابرماس ليستلهم منه إحدى التوصيفات المهمة التي وصف بها هابرماس أستاذه ماركوز المتمثلة في اعتباره ” فيلسوف ثورة الشباب، ومعبود اليسار الشبابي” (08) .
ومن هنا يشدد كاتب و ناقد ماركوز ، وهو جورج طرابيشي على ضرورة دمجها بالممارسة النقدية الكبرى بنفس المعنى الذي يوليه لضرورة دمج مستلهماتها الفكرية الماركوزية بالنظرية النقدية الكبرى .
وهو أمر بالطبع دونه صعوبات جمة ، ليس بالإمكان الكشف عن مناطق الصعوبة فيه ، لكون هذه الإضاءات لا تمكن القاريء من الإحاطة بها في حدود ما تسمح به مقدمة نقدية كتبها جورج طرابيشي تحت ضغط ترجمته العربية لكتاب من كتب هربارت ماركوز وهو ( الإنسان ذو البعد الواحد ) .
وأعتقد بأنه من أهم ما كتب ماركوز وإلا لما تصدى جورج طرابيشي لترجمته للغة الضاد والتعليق عليه .
وهذه المقدمة هي التي حفزتنا على فتح هذا النقاش النقدي مع قراء فرانز فانون وماركوز ومع قراء جورج طرابيشي عبر مدخل النقد الثقافي المقارن بين ماركوز وفرانز فانون وبين إنسان العالم الثالث و( الإنسان ذو البعد الواحد ) .
ومالم نشر إليه أعظم وأهم مما وقفنا عليه ولكل عمل مثلما يقال إذ ما تم نقصان .
هامش
01 ) النقد الثقافي المقارن منظور جدلي تفكيكي – عز الدين المناصرة – ص 10
دار مجدلاوي للنشر والتوزيع عمان الأردن – الطبعة الأولى 2005
02 ) نفس المصدر ص 313
03 ) الإنسان ذو البعد الواحد هربارت ماركوز ترجمة جورج طرابيشي / دار الآداب بيروت 1988 ص 05
04 ) نفس المصدر ص 05
05 ) نفس المصدر ص 06
06) نفس المصدر ص 06
07 ) أسس النقد الثقافي وتطبيقاته في النقد العربي المعاصر – طارق بوحالة ص 49 منشورات دار ميم الجزائر الطبعة الأولى 2021 .
08 ) هربرت ماركوز فيلسوف ثورة الشباب يجدد مفهوم الشغف بالحياة / مشير باسل عون صحيفة أنبندنت عربية الثلاثاء 12 أكتوبر 2021