يفاجئ حاميد اليوسفي القارئ بهدية جميلة، يُخرجها من مخبئها.. هدية ملفوفة في علبة قصصية بديعة، ويُقدمها مبتسما بمكر كعادته، لأنه يُدرك ما سيتركه من صدى طيب بعد قراءتها.. الهدية هي نص “مستر فساد وبيض الناموس”..
1 ـ في العنوان:
العنوان ضاجّ، وكانه مسكوك من الدهشة.. دهشة اكتشاف كائن عجيب، يعيش بيننا ونحن منشغلين عنه..
يحيل العنوان تركيبيا على مكونات دلالية تحمل شحنة من الغرائبية المفضية الى معاني ثانية تتجاوز أصولها المعجمية، وتتخطاها إلى فضاء دلالي يتأسس على المفارقة المتحصلة من الابتعاد والتجاور بين هذه المكونات:
الدليل “مستر” مأخوذ من اللغة الإنجليزية، وهو يحيل على استعمال يجعلنا نتجه الى “علية القوم”، مع ما يحمله هذا التعالي من ابتعاد عن الأصول الاجتماعية والوطنية لهذه الفئات..
ما يعمق هذا الابتعاد هو اقتران الدليل “مستر” مع الدليل “فساد” الذي يشكل بؤرة دلالية للعنوان وللنص كذلك في شموليته.
يأتي الرابط “و” حاملا معنى المعية، لإثارة دافع الاهتمام الحكائي، وكأننا به يقول: “حكاية مستر فساد مع بيض الناموس”، ما يسمح بمجرى دلالي تأويلي يركز على بعد التكاثر المرضي والخطورة واستغلال الفرصة، وكلها صفات تجعل من البعوض كائنا متعطشا للدماء..
ضمن مناخ النص، تكتمل معاني العنوان وتتفتق عن أجواء كارثية، تحول أداء شخصيات غير عادية لا تنتمي لهذا البلد الا من حيث امتصاصها لمنافعها، كما يفعل البعوض تماما..
الفساد أصلا مصدر لفعل مكون من جذر “ف س د” وهو يؤدي معاني معجمية متكئة على التلف والعطب والخلل والانحلال.. وهو مضاد للصلاح .. استعماله اللغوي لا يستقيم مع اسم الفاعل، فلا نسمي “فاسد” إلا إذا قصدنا الذم والتحقير..
على العكس الإصلاح يعطي أسماء مثلا صالح / صلاح..
نستخلص من هذه الدفوع، أن نباهة القاص اليوسفي مكنته من نحت اسم جديد، يقترب من الاستعمال الأيقوني الذي يجمد المعنى وهو: “فساد”.. هنا الفساد ليس ظاهرة، ليس حصيلة، بل شخصية، وكائن شرير يعيش بين الأهالي ويمتص دماءهم..
2 ـ في معمار النص:
في بناء نصه سار اليوسفي على نهج المخرج السوفييتي: “دزيجا فيرتوف”* في شريطه السينمائي: “صاحب الكاميرا”.
الشريط يصور شخصية يحمل كاميرا، ويلتقط لقطات دالة على مفارقات الحياة، ثم يشتغل على مادة التصوير في عملية المونتاج. الشريط صامت، وهو عمل هائل يبين خطورة وأهمية العين التي تلتقط الصور، وتفرز مآسي الحياة.. استلهاما لهذه اللعبة الفنية اختار اليوسفي لنصه أن يتكون من تسع لوحات يربط بينها منطق فني يجعلها متكاملة، وتوفر فضاء فنيا مشتركا للنص..
هذه اللوحات رغم اكتمالها النسبي تبقى معتمدة في بدايتها ونهايتها على نقطة انطلاق ونقطة نهاية، مع اتاحة الفرصة لعين القارئ للانتقال بينها بدون ترتيب لكن مجرى السرد يفضي الى المشترك بينها ويقنع فنيا برسالة النص.
شخصية عادل، إضافة الى شخصية السارد، تنسج خيوط المحكي عن طريق تجارب حياتية، وتصنع منه ما يضيئ مسالك النص، وتجعل المتلقي يتتبع ما يحصل من غش، ونهب، وسرقة للثروة. أيضا يجمع بين هذه اللوحات، ما تحدثه شخصيات متعددة ـ بعضها سُمّي، وبعضها لم يُسمّ ـ تلتقي كلها في دور الفساد، وكأننا في مسرحية عبثية تؤدي فيها عدة شخصيات نفس الدور: (صانعو الخبز المغشوش / عون السلطة / الفقيه / الموظف الكبير/ إبراهيم الجار)
في اللوحة السادسة والسابعة لعبت شخصية المهاجر دور الضحية في هذه المعادلة التي لا تُحل إلا بإضافة استفادة المفسد من أية عملية استثمارية تروم رفد الاقتصاد الوطني بموارد جديدة.
اللوحة السابعة بنيت على التناصّ، وحولت تصريح أحد الممثلين إلى نص داخل النص. تصريح الممثل يفضح ما يجري داخل الفضاء التلفزيوني من نهب المال العام.
يمكن التوقف عند استغلال الوثائقي ضمن سياق تخييلي، ويعد هذا التركيب بين الكتابة القصصية والتصريح الصحافي توليفة راقية تمنح النص القصصي قوة الاقناع، وترفعه الى قمة القضية، بحيث يمنح المتلقي قدرة بانورامية للاطلاع من فوق على تفاصيل العملية الاجتماعية وما يشوبها من عيوب ومن دسائس الغرض منها الوصول الى الاستحواذ على نصيب من الثروة الوطنية بدون وجه حق..
هكذا تخلق اللوحتان السابعة والثامنة ما يشبه مصب النهر في البحر، فتفضيان إلى تهييئ المتلقي لاستيعاب خطورة ما يجري (الآن وهنا) في بلدنا عن طريق تشبيه الفساد العام بالجرثومة التي تكتسح كل مرافق الحياة: “مستر فساد يتجول في كل مكان (…) وقد يتسرب الى الطعام الموضوع أمامك على المائدة” (النص).
3 ـ في شعرية اليومي:
تحدث غالب هلسا في كتابه “العالم مادة وحركة”، عن الهدف التاريخي الذي يكمن وراء مدح الجاحظ للبخلاء، حين أفرد لهم كتابا خاصا تحت نفس العنوان، وجعلهم في مصاف الدهاة الساعين لتطور المجتمع بالمساهمة في مرحلة جمع المال وتحويله إلى قوة اقتصادية، لتجاوز مجتمع الزراعة وما يرتبط به من علاقات مغلقة في دائرة الإنتاج والاستهلاك لنفس المنتوج: أي المنتوج الزراعي. وهذا يعتبر صلب الاقطاع الذي يملك الأرض ومن عليها.. الجاحظ النابغة رفع من شأن قيم البخل، لاجتراح قوة دافعة، ونخبة مستعدة لاستبدال الإنتاج الزراعي بالربح المتحصل من السلعة المصنعة.. في العصر العباسي انتصر الجاحظ لقيم العمل ومواجهة التبذير..
في مجتمعنا، ـ وبعد مرور عدة قرون ـ يحدث العكس بحيث تنصر قيم الربح السريع بدل العمل، وتنتصر قيم الإغراق في التبعية للمراكز الرأسمالية . ولا ينتج أكابرنا غير حيل الاستيلاء على ما لذ وطاب من ثروات البلد لتحويلها إلى حسابات في بنوك أجنبية.. أو ليس هناك أبلغ من ابن خلدون الذي اعتبر أسس الفساد نابعة من الجمع بين السلطة والمال؟!!!
نص “مستر فساد” لا يدخل في تفاصيل تحليل هذه الظاهرة التي تحولت إلى غنغرينا* ستأتي على كل أوصال البلد، ولكنه دق ناقوسا فنيا رفيعا لإعلان أن “مستر فساد” كناية عن قوة رهيبة تجرّ مركبنا إلى أعتى التيارات وسط بحر “الظلمات” كما أسماه القدماء خشية منه. هنا السارد يخاطب “عادل”: (يا عادل إن مستر فساد شبح يرتدي أقنعة مختلفة. يصعد من أسفل إلى أعلى. وينزل من أعلى إلى اسفل).. النص
وهنا أيضا نلاحظ كيف أثار اليوسفي في لوحاته المتنوعة حكايات دالة على أصناف الفساد الممارس، ليجمعها في الأخير فيما يشبه دائرة الوسط التي يصوب عليها صاحب القوس سهمه… إنه يستوقف المتلقي ليرشقه بهذا السهم: (اسمع يا عادل!)
فعل الأمر يؤثر على توقيف الزمن، ومعه تتوقف الحياة اليومية، ويتشوش زمن التعود في الوعي.. وبالتالي – وبدافع تعليمي بريختيي – يسعى النص إلى إثارة السؤال الفلسفي عن طريق زحزحة الجاهز: هذه الحياة لا توفر في عمقها كرامة العيش.
يُمكن هنا استحضار العبقري دوستويفسكي في رائعته “الفقراء”: “ابشع ما في الأمر هو أن هذه الفظاعات اصبحت لا تهز أنفسنا، هذا التعود على الشر هو ما ينبغي أن نحزن له”
لقد تمكن اليوسفي من خلال هذا النص، أن ينقل المتلقي من مستوى استهلاك مادة أدبية، إلى مستوى التساؤل الفلسفي العميق عن الأسس الحقيقية التي تربط الذات بالعالم. بحيث لا تكتمل الذات ولا تتحقق إلا من خلال السعي للمستقبل حسب الفيلسوف مارتن هيدغر الذي يؤكد أن: ” الاهتمام بالآخرين هو بوابة الفهم الحقيقي للذات”.
عملية الوعي بقيمة كرامة الإنسان تقع في صلب هذا النص القصصي المتين، الذي يقحمنا في أعماق النظر الفلسفي من خلال التقاطع بين السرد الطبيعي والسرد المصطنع حسب أمبرتو إيكو. فنحن حين نبدأ بأشكال وأساليب تجعل شخصيات ماكرة تستغل كل الوسائل بهدف التربح وننتهي إلى أن مستقبلنا سيصبح مظلما، إذا لم تحصل قطيعة تاريخية بين ما نحن عليه، وما يجب أن يكون.
هذا النص استحضر قارنا ضمنيا صاغه السارد من خلال شخصية “عادل” وتربط بينه وبين مستويات الحكي ومكوناته وشائج شكلت سيرورة القراءة.
هذه القراءة حسب أمبرتو ایکو، شکلت حجر الزاوية في استراتيجية تأويل النص.
النص من خلال التنامي الدلالي: يمنح القارئ النموذجي فرصة التحرر من الاستيلاب الذي تمارسه العلاقات الاجتماعية من خلال تمثلات الخضوع للمعيش.
هكذا نخلص إلى أن نص “مستر فساد وبيض الناموس” حقق تناميا فنيا لصناعة شمس مشرقة، ترسل أشعتها لمداواة روحنا الجريحة.
الهامش:
ـ غنغرينا وبالانجليزية (Gangrene): مرض يصيب عضوا من الأعضاء، وهو نوع من أنواع موت الأنسجة الناجم عن عدم كفاية الدم.
ـ دزيغا فرتوف (Dziga Vertov): مخرج وكاتب سيناريست ومنظر سينمائي روسي، وأحد مؤسسي السينما الوثائقية السوڤييتية والعالمية.
مكناس 20 / 10 / 2024