كانت البداية مرهقة جدًا، وأرجو أن تَتذكر عزيزي القارئ كلمة “بداية” لأننا سنعود إليها لاحقا.
بياضٌ أم سواد ؟ لا هذا ولا ذاك. إنه اللاشيء، وفراغٌ مفتوحٌ على المَزيدِ من الفراغ. إنه أمرٌ جَلل، تتشكل فيه الأرضُ زُجاجا والسماءُ حُلمًا بعيد المنال. في خِضَمِّهِ تستحيل كل الأشياء شيئًا واحدا، وجميعُ الألوان تُختصر في لونٍ ليس بِلَونٍ بِقَدرِ ما هو واحِدٌ من تجلياتِ الموتِ الكثيرة.
يُعَدِّلُ مِنْ جَلسته. يَلتفِتُ ذات اليمين وذات الشمال، فلا يجد بُداً إلا أن ينصاع لأشياءٍ فرقت بينه وبينها مجموعةٌ من القَوانينِ غيرِ المرئية؛
آذانُ فقيه، مُواء قطة، جَلَبة، ريحُ شرقي، قِطعة نقدية تَسقُط، وأشخاصٌ يُزاوِلون حياةً لا يستسيغُها.
يَقومُ بحركة، يهز رأسه لألا يُجن. لكن، وياللأسف الشديد، تأتيه في كل مرة الأنباءُ من طَرف قدرٍ ساخرٍ فياضة بالإستحالة، فيجد نفسه مرة أخرى يُصَارِعُ التَفاصيلَ الصغيرة …الصغيرة جدا.؛
سياراتٌ تَسيرُ وتجيء، كلام هنا وصرخات هناك. خطوات بطيئة، خطوات سريعة، أقدام تجري، وكلماتُ غزلٍ تتطاير في الهواء …
“رباه! إِنّهُ الجنونُ عَينه “؛ قال فِيما يُشبِهّ النَحِيط.
كيف تبدوا الأمور هناك، في ذلك المكان الذي ليس إلا هنا في حقيقته؟ أين الخلاص، أين أنا وأين الدنيا؟
وقبل أن تغدوا أسئلته دون إجابة، ينهض آمِلا في قرارة نفسه أن يجد في مكانٍ ما حيزا للبراء.
تحسس رفيقَ دربه الوحيد، ونهض بخطواتٍ لا منطق بها يبحث عن بصيصٍ من تلك الحياة التي يتردَدُ وصفها على مسامعه كل يوم. ومع كل خطوة وأخرى يكاد يسقط بينهما، يغدو بِفعلِ فَاعِلٍ شخصًا يتمنى لو كان على قيد الحياة.
كان يتمشى بحذر شديد، وبِخَوفِ مَنْ يعلم أن الرجوع إلى الوراء ضياع، وأن التقدم ليس أفضل خيار. لكنه حاول التصالح مع قضيةِ أن الحياةَ تَفرِضُ علينا أمورًا لا تمث لإرادتنا بأي صلة.
ظل يَعُد خَطواته طوال الطريق الذي خيل إليه أن لا نهاية له، محاولا بكل ما أوتي من تركيز أن يجعل كل خطوة مساوية للخطوة الأخرى كي لا يُضيع خطاه نحو المنزل. خصوصا وأن ذلك اليوم، كان واحدا من تلك الأيام الباردة التي تُظْلِمُ فيها النُفوس، وتتوه الإنسانية، وتنكمش الأيدي فلا تمتد للنصرة ولا للنجدة.
يصل أخيرا إلى عتبات بيته. يُحاوِلُ بِصَبرٍ لا حل إلاه أن يُدخِل المِفتاح في قفل الباب. تخونه عيناه، وتصل الحمى إلى يديه؛ لقد وقع المفتاح على الأرض.
يبحثُ هنا وهناك، يحاول تخيل مكان المفتاح؛ لكن لا جدوى من كل ذلك. يأمل في قرارة نفسه أن يُشفِقَ المِفتاح لحاله ويكشف عن مكانه، لكن المفتاح من حديد ولا مشاعر له.
تكوم على نفسه أمام الباب. بكى بكاءً لا دموع فيه. أخذ شهيقا. كان قاب قوسين أو أدنى من الصراخ.
لحظة!
لقد كان الكابوس مُرعبا، لدرجة أنني نسيت أن أسأل من كان ذلك الشخص؟ فلم أعلم أنه كان أنا إلا عندما استيقظت مُمتطيًا صهوة الحياة.
استيقظت كما لم أفعل من قبل، ورأيت بعينيَّ كما لم أر من قبل؛ يداي، ملابسي، السماء الأرض …
حمدت الله، وخرجت راكضا إلى الطرقات بعد أن أدركت أن كل ما سبق لم يكن إلا كابوسا جاء من مكان ليعيدني إلى صوابي.
فعلا، كانت البداية مرهقة جدًا.