كثيرون راهنوا، وبإيمان عميق، على الصورة وبالغوا أكثر من اللازم في تعداد قدراتها التعبيرية والتعليمية والتربوية، وأعلوها من منطق كون عصرنا هو عصر الصورة بامتياز قشة نجاة منظوماتنا التعليمية في وطننا العربي من ترهلها المخزي.
قد تلعب الصورة وبجدارة وتوفيق، مجمل الأدوار التي راهن فيها عليها المتشيعون لها، لكن بشرط توفر ادوات تحليلها وسيمياء قراءتها وتفكيك فضاءاتها ومؤثثاتها.
وهو شرط قلما يتوفر لمنظوماتنا التعليمية في غياب تكوين متعمق بهذا الخصوص يصقل معارف الأساتذة والمكونين.
ومن هنا تأتي دعوتي، إلى إعادة الاعتبار الى الحكي والسرد في منظومتنا التعليمية لأجل تحقيق مصالحة ابنائنا مع الخيال وإعادة بناء مخيالهم الذي تضرر كثيرا جراء الارتكان إلى الصورة وحدها! الخيال حلم وتفكيك وإعادة بناء، انطلاق فكر وتحرير ملكة الإبداع والابتكار، ولعل خلو مقرراتنا التعليمية القديمة، أو شبه خلوها، من الصور، هو من خلق لنا أجيال القرن الماضي الحالمين التواقين للإبداع والابتكار. دعوتي ان نعيد الاعتبار للسرد والقص في إطار إعادة ربط جسور التلقي بين القراءة الهادفة وبين جيل عازف عن القراءة متعود على الاستهلاك السريع للصورة.
وهذه المصالحة أكيد لن تتم عبر القوالب السردية القديمة والكلاسيكية، وإن كان ليس هناك مانع من ذلك متى ما توفر شرط التطويع والتحين والانفتاح على هموم الناشئة واهتماماتها الراهنة، بل، ومن المستحسن، من خلال ما توفره أجناس أدبية وليدة على غرار ما يمكن أن تلعبه القصة القصيرة جدا الموجهة للأطفال في هذا الصدد. حيث تشهد الساحة الإبداعية السردية احتفاء واسعا ورصينا بوليدها: القصة القصيرة جدا الموجهة للأطفال، احتفاء ترجمه الإقبال الكبير من لدن المبدعات والمبدعين على ارتياد عوالم هذا الجنس الأدبي المتبرعم وخوض تجربة الكتابة فيه بهدف الارتقاء بمنظوماتنا التعليمية وبهدف ما ذكرناه من مصالحة ابنائنا مع السرد وتنمية عوالم الخيال وكفايات مخيالهم. وذلك استحضار منا لأجواء النقاش الموسع حول هذا الجنس الوليد وتعاطيا مع ما واكبه من تلاقح فكري منصب على دواعي ولادته ورهاناته وأيضا على إمكاناته الفنية والتعبيرية وقدرته على حشد التفاف دوائر الإبداع والتلقي حوله.
قد يكون وراء رأيي هذا، تفاؤل المبدع الذي يرى الإبداع حرية وتحرير طاقات، والكتابة تحليق فوق السقف الوطيئة، لكن هذا التفاؤل لا يحجب لدي انتظارات الناقد وصزامة معاييره التي على ضوئها يقيم التجربة الوليدة ويقوم اعتلالاتها.
صحيح أن التراكم الكمي مهم في هذه المرحلة، لكن التقدم الفني له أهميته أيضا، لكونه يسيج ويرسم الحدود، يمنح الهوية ويحفز الانخراط.
إن ما نلاحظه من واقع التتبع والتحكيم، هو عدم مسايرة الفني الكمي، وهو أمر متوقع ومبرر في تطور الأجناس، لكنه تحديدا، في ما يخص القصة القصيرة جدا الموجهة للأطفال، يجد تفسيره في صعوبة الخروج من عوالم الذات المبدعة نحو عوالم الذات المتلقية: حيث لاحظنا الميل نحو إسقاط عوالم الراشدين على عوالم الأطفال، مثلا تيمة “الحرب” هي تيمة قد يناسب تناولها الراشدين والأطفال معا، لكن بمقادير وكيمياء محددة: فتناول ويلاتها ومخلفاتها بطريقة فنية يبدو مقبولا عندما نكتب للأطفال، في المقابل يصبح إسقاطا فجا عندما نكتب لهم عن اسبابها الفكرية والايديولوجية. كما يصبح إسقاطا يجعل الطفل يفكر بمنطق الراشد الساعي لتغيير العالم، او إلباسه لبوس الفيلسوف والثوري والحكيم والمنظٌر …
إن الطفل هو الطفل بطريقة تفكيره، باهتماماته، بمخاوفه، بسذاجة أسئلته وأجاباته، فلنتركه يعيش طفولته في قصة قصيرة جدا اردنا لها ان تكون موجهة إليه، ولنحرص على الفصل بين العالمين فنيا، ففي ذلك حياة هذا الجنس الأدبي وترسيخه وتبرعمه. علما، أن الجنس الأدبي هو القالب العام وما يتمايز داخله هي أنواع او جنيساتdes variants”” فالققج( وهي اختصار ل “القصة القصيرة جدا)، يمكن اعتباره جنسا أدبيا بدأ يتأصل ويتقعد، وفي طريقه هذه بدأت تفرع عنه جنسيات أدبية مثل القصة القصيرة جدا الموجهة للأطفال. وطبيعي أن يعقب كل تفرع نقاش كالذي نشهده الآن، وطبيعي أن تختلف الرؤى والمنطلقات حول دعم هذا الجنيس المتبرعم من عدمه.
وهذا يذكرني بالنقاش الذي رافق الققج نفسها، حين حاول الكثير من النقاد والمبدعين من الجنسين، الانبراء للدفاع عنه كتابة وتنظيرا في الوقت الذي كان آخرون يرون فيه هجنة بدعة، وفي الحالتين والاعتبارين القصة القصيرة جدا قد تكون طوق نجاة لمنظومتنا التعليمية التي تصنف في مراتب غير مشرفة دوليا، ولا تناسب كوننا أمة علم ومعرفة و” اقرأ”.
المقصود بالقصة القصيرة جدا الموجهة للأطفال والتي تختصر إلى”الققجاط”، هو تسيير هذا الجنيس المتبرعم نحو فئة عمرية ما يزال الكثير من المعاصرين يكتبون لها بأسلوب القرن الماضي متجاهلين أن مياه كثيرة من التغيير مرت تحت الجسر بين الأمس واليوم. وأن طفل اليوم قد لا يأنس لما آنس إليه طفل الأمس، وطبعا ليس في كلامي هذا تنقيص لقصص أطفال الأمس، وحكايات الجدة، فأنا ابن ذلك الجيل وأفضاله علي وعلى مخيالي كثيرة بلا نكران. بل أقول، من منطق المواكبة التربوية والتعليمية اليومية وعلى امتداد عقود، أن طفل اليوم في حالة إلى كتابة خاصة، ولم لا تكون من بوابة الققج الموجهة للأطفال، والتي يناسب إيقاعها السريع إيقاع عصر أطفالنا وتدفق أسئلته وقضاياه. كما يناسب صبيب المقروئية لديهم والتي باتت تمج كل ما فيه إطالة( في جو عربي يتميز عموما بضعف القراءة من الكبار والأطفال معا)، وهذا يتجلى من خلال ميل أطفالنا إلى ايقاعات سريعة في الموسيقى والأغاني، فأغلب الأغاني الناجحة لا يتجاوز طول سمعها الدقيقتين إلى الخمس، وأغلب الفيديوهات المشاهدة من طرفهم تميل إلى القصر والتركيز.
تبرعم القصة القصيرة الموجهة للأطفال، لا يضير في شيء جنسها الأصل الققج، بل يخدم سيرورته وصيرورته معا، ويشاركه الفنية ومعمارها، وإن كان هناك تباين بينهما، فسيكون على مستوى استحضار مستوى إدراك المتلقي عمريا ومرجعيا.
استحضار مستويات إدارك المتلقي وفهمه عمريا ومرجيا، ودرجة التغور اللغوي وتوظيف الصور الفنية وأشكال التناص وتدوير المعنى.