ليست القراءة فعلا حرا يستطيع المرء أن يمارسه وفق إرادته وتبعا لاختياره كما يصنع مع المعتاد من الأشياء في الحياة اليومية ، وإنما الفعل محمول على الوجوب ليس لأنه أول ما نزل من الوحي لكن بحكم صيغة النزول التي جاءت أمرا قال تعالى { إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } [ العلق 1ـ 5] ، فصيغة الأمر تكليف لا يقل عن الأوامر الإلهية بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وغيرها من الأوامر
التي شملت منحى العبادة والمعاملات والأخلاق والتشريع ، ولا بد ان الأمر بالقراءة لم يكن مجرد بداية تاريخية للوحي الإلهي بقدر ما هو تنبيه للإنسان إلى دور المعرفة في بناء الحضارة وتحقيق الخلافة في الأرض على الوجه الذي أراده الله للإنسانية كلها ، لذا كان الخطاب القرآني ملحا على ضرورة إعمال العقل والفكر في الكون لإدراك نشأة الخلق ومعرفة الخالق قال تعالى { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير} [العنكبوت 20 ] ، فهي دعوة إلهية واضحة إلى إعمال العقل وفق فعل القراءة وما أنتجه من معرفة تشكل السبيل الأوحد نحو إدراك النشأة الأولى التي لا تتأتى بالطبع إلا بامتثال الأمر الإلهي الأول الممهد للإدراك الحق .
إن الكثير من الناس ينظرون إلى القراءة على أنها مجرد جسر يعبر عليه لتحقيق مآرب ذاتية ترتبط بالحياة كالحصول على وظيفة يعتاش منها الإنسان أو ينظر إليها على أنها فعل اضطراري يتم التعاقد عليه في وسط تعليمي أو ينظر إليها على أنها من زاوية الاستعلاء لدى النخبة المثقفة ، ما يجعل النظرة إليها ضيقة الأفق تحكمها رؤية ذاتية تنبع من فلسفة القارئ للعالم من حوله ، وقلما يتم استحضار الأمر الإلهي في أنها واجب على كل إنسان نال من حظ التعلم نزرا ، وحتى أولئك الذين لم يكتب لهم أن يلجوا مدرسة فلم يظفروا بحظ يسير من التعلم بين أسوارها لظروف تاريخية واجتماعية حرمتهم نعمة التعلم فواجب عليهم أن يبحثوا عن منافذ المعرفة في شقها الديني عبر الحضور في جلسات الذكر وملازمة أهل الصلاح من الفقهاء والعارفين بالله واستغلال العالم الرقمي للاستماع للدروس والوعظ والإرشاد باللغة التي يستطيعون فهمها فتتسع مداركهم في الدين وحتى غيره من المعارف الأخرى النافعة ، أما هذا النظر القاصر للقراءة بدعوى انها تخص النخبة وأهل الدرس والتحليل فهو أمر ينبغي للفكر أن يتخطاه ويعلن عليه حربا ضروسا فيقطع دابره لتغدو القراءة طقسا يوميا كحال الفرائض التي لا يستطيع المرء أن يتركها لما ترسخ في قلبه وعقله من وجوبها حتى إن النفس تأبى إسقاط واحدة منها وهي تلفي في داخلها اضطرابا وتستشعر انتقاصا .
إن هذا الإحساس الذي يعتري النفس المطمئنة حين تستشعر تقصيرا ولو طفيفا تجاه أمر من أمور العبادة هو نفسه الإحساس الذي يجده من تطيب نفسه بفعل القراءة فلا تنتشي نفسه إلا وهو بين أحضان الكتب يقضي ساعات دون ملل ولا كلل يتصفح هذا الكتاب أو ذاك ، ثم يعصر ما فيها من أفكار تختمر في داخل فكره فيعيد تركيبها نصا جميلا أو يفتق منها شعرا أو قصة أو مسرحية أو غيرها من ألوان الإبداع والإنتاج أو تجده يلتقط منها جوهرة لم يرها غيره فيعيد صياغتها صياغة حاذق متفنن لينتج نصا لم يسبق غليه في الجمال والبهاء، أو يمتص منها رحيقا طيبا فينثره في حقل المعرفة منتجا جديدا تتحلق حوله فراشات الأفكارلترتشف منه حلو الرحيق ، إنه المبدع الفنان الذي يتجاوز حدود القراء العاديين ممن أمروا بفعل القراءة لأجل المعرفة وإدراك عظمة الخالق وهو الهدف الأسمى والمطلب المقصود لكن هذا اللون من القراء يتخطى ذلك إلى ما هو أبعد من أجل صناعة الجمال لوحات مبدعة في معرض المعرفة ، فتتحول القراءة من مجرد التهام للسطور والصفحات وامتصاص لأفكارها وفلسفاتها ورؤى أصحابها إلى كتابة جديدة تسهم في إثراء المشهد الثقافي ، ما يمنح فعل القراءة قدرته على الاستمرار والتوالد لتحقيق النماء المطلوب للحضارة الإنسائية والسير قدما في مدارج المدنية.
إن القراءة الحقيقية ليست مجرد لوك للكلمات كما يفعل صبي في طور تعلمه حين ينطق الأصوات في اتجاه خطي أفقي أوعمودي وإنما القراءة متعة ولذة تستوطن نفس صاحبها الذي يجد نفسه مبحرا وغارقا في عوالمها المتنوعة تأخذه هنا وهناك بعيدا عن زخم الحياة المعتادة فيسائل كاتبها ويشاركه ما أنتج بل ويقوم وينتقد أحيانا ما قد يبدو له في خاطره أنه صواب وإلى الحق أقرب ، فيكون بهذا الفعل صادقا أثناء قراءته وشديد التفاعل مع نصه ، يحاوره في كل لحظة ويقف حينما يضطره الوقوف ويمضي عندما يلزمه المضي ، وقد يعود بخطواته غلى الخلف كثيرا ليسترجع شيئا عنَّ إليه بعدما أسعفه مضيه في القراءة إلى التنبه لمسألة فيرجع القهقرى ليرى أن ما حمله فكره عليه من قبل لم يكن الصواب فيعدل وينقح قراءته ويشعر لذلك بمتعة لا تفوقها متعة لأنه فطن إلى موضع لم يكن من اليسير أن يفطن غليه لولا ما سلكه من جد ومن مثابرة في فهم وتدقيق المراد ، حينها تكون القراءة فعلا أتم ما يكون عليه التمام وأحلى ما تبلغه الحلاوة ، فيتهيأ لصاحبها كل طريق نحو الكتابة بعد طول قراءات وتكرارات مكنته من غدراك سبل الكتابة وآليات تحقيقها من حيث البناء والصناعة والمعمار فلا يحتاج حينها إلا للخيال وحس الكاتب المبدع ليطلق العنان مجنحا يسافر في العوالم يلتقط من هنا وهناك ما يعن له في الخاطر والبال من فكرة وإحساس فيترجمه القلم فياضا منساب كالنهر لا يتوقف إلا إذا خالط المصب ، وهذا اللون من القراء هو ما يصنع هذا الأديب الحاذق المتمرس وذاك الشاعر البارع الساحر وأولئك المسرحيين والروائيين والقصاصين الذين يسحرون الناس بجميل إبداعاتهم ، إذ إن القراءة ههنا تكون على درجة عالية تجعلها وسيلة لإنتاج المعرفة وصناعة الإبداع لا مجرد تسلية وتزجية وقت كما يصنع كثير من الناس العوام.