
حققت القصة القصيرة جداً على مدى أكثر من نصف قرن، حضوراً متميزاً ومؤثراً في الخطاب السردي لما تمتلكه من امكانيات جمالية وقدرات تعبيرية ولغة شاعرة رامزة تجعلها أكثر جرأة بالتعبير عن عالم يخلقه القاص عبر تشكيل نصّي يستوعب الرؤية والحدث والموقف بلغة مكثفة ومركّزة مجرّدة عن التفاصيل السردية والوصفية ومنفتحة فيها الدلالة على آفاق الشعرية والدرامية، وبذا اخترقت المألوف وتجاوزت الجمود فشكّلت نسقاً سردياً يرتكز على حداثوية متجاوزة التقاليد النصية ومنظومة القيم السردية.
ويأتي كتاب (التكنيك السردي في القص القصير جداً .. رؤى وتطبيق) للناقد علوان السلمان، الذي صدر مؤخراً عن دار الشؤون الثقافية العامة في وزارة الثقافة، ويقع في 216 صفحة، في إطار الحراك الأدبي الذي يهتم بهذا اللون السردي الوجيز الذي يعرّفه الناقد في مفتتح كتابه: (جنس أدبي يتفق وروح العصر ومتطلباته من سرعة وتكثيف وإيحاء، وتعتمد الكم الكلمي الضروري لبناء النص .. وهي تدور حول حدث ينمو بسرعة في اتجاه واحد ضمن حبكة مركزة صوب النهاية ولا وجود للذروة البنائية لأنها تتمحور في نهايتها حيث التأزم والضربة المفاجأة ولحظة التنوير) ص1.
ويعد الكتاب إضافة مهمة لمكتبة القصة القصيرة جداً النقدية في العراق، لمواصلة ممن سبقه في هذا المضمار، إذ سبق الناقد من تناول القصة القصيرة جداً نقداً وتنظيراً مجموعة من النقّاد والباحثين سواء من الوسط الأدبي أو الأكاديمي، ومنهم على سبيل المثال:
ــ حمدي مخلف الحديثي في كتابه (مدخل لدراسة القصة القصيرة جداً في العراق) 2003 .
ــ د. جاسم خلف إلياس في كتابه (شعرية القصة القصيرة جداً) 2010 .
ــ هيثم بهنام بردى في كتابه (القصة القصيرة جداً في العراق) 2010 .
ــ د. نبهان حسون السعدون في كتابه (شعرية المكان في القصة القصيرة جداً .. قراءة تحليلية في المجموعات القصصية لهيثم بهنام بردى) 2012 .
ــ رسمي رحومي الهيتي في كتابه (اندهاشات الزمن في القصة القصيرة جداً) 2015 .
ــ د. صالح هويدي في كتابه (السرد الوامض) 2017 .
ــ هيثم بهنام بردى في كتابه (القصة القصيرة جداً .. الريادة العراقية) 2017 .
ــ عباس عجاج في كتابه (مقاربات نقدية في إشكاليات القصة القصيرة جداً) 2020
ــ داود سلمان الشويلي في كتابه (اسئلة السرد .. دراسات في القصة القصيرة جداً) 2022 .
ــ محمد الميّالي في كتابه (دهشة الوجيز) 2022 .
ــ علي غازي في كتابه (نظرة من الداخل .. دراسة تحليلية حول نصوص القصة القصيرة جداً) 2023 .
ــ د. محمد عويد الساير في كتابه (القصة القصيرة جداً وجهود حمدي مخلف الحديثي فيها نقداً وكتابة) 2024 .
وهناك مؤلفات أخرى، فضلاً عن الرسائل الجامعية التي أخذت تهتم بدراسة هذا اللون الأدبي الذي تجذّر من حيث المصطلح منذ بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي.
وكتاب الناقد علوان السلمان (التكنيك السردي) يتناول القصة القصيرة جداً بصورة عامة إلا أن اهتمام الناقد تركّز على القصة القصيرة جداً العراقية، وأشار إلى أهم الأسماء التي كتبت في هذا اللون الأدبي. والكتاب وإن كان مؤلفاً من واحد وأربعين مقالاً، أكثرها تتعلق بكُتّاب هذا اللون من الأدب مع الإشارة إلى مجاميعهم القصصية، إلا أن القاسم المشترك بين هذه المقالات هو كشف وبيان أسلوب صياغة القصة القصيرة جداً عند هؤلاء الكُتّاب، ومحاولة كشف وعي الكاتب ومقدرته على تناول هذا اللون السردي.
بيد أننا نسجّل هنا ملاحظات عدّة على الكتاب لا تقلل من شأنه بأي حال من الأحوال، وهي ملاحظات أرجو أن يلتفت لها الناقد ويتلافاها في الطبعات اللاحقة، ومثل هذه الملاحظات سبق أن سجلناها على مؤلفات أخرى تناولت هذا الشكل الأدبي، وهي ملاحظات تُخاطب الناقد على قاعدة (عرفتَ شيئاً وغابتْ عنكَ أشياءُ):
1ــ في معظم مقالات الكِتاب نجد الناقد يُحيلنا دائماً في بحثه عن ارهاصات القصة القصيرة جداً في القرن العشرين إلى الفرنسية ناتالي ساروت عالمياً، والعراقي نوئيل رسام عربياً وعراقياً، وهو هنا يتكئ على من سبقه في رصد هذه المعلومات، وهي معلومات تكاد تكون تقليدية ومكررة جداً بيد أنها لم تثبت على أرض الواقع، فكتاب (انفعالات) لناتالي ساروت هو رواية بأسلوب جديد ضمن ما سُمّي حينئذ بـ(الرواية الجديدة) وليس قصصاً قصيرة جداً. أما نوئيل رسام فمن المؤكد أنه ليس أول من كتب القصة القصيرة جداً عربياً، إذ سبقه الأديب اللبناني جبران خليل جبران في مجموعته (المجنون) الصادرة في عام 1918 ، والقاص المصري محمد تيمور في مجموعته القصصية (ما تراه العيون) الصادرة في عام 1927 والتي نُشرت بعد رحيله بست سنوات.
2ــ لا أفهم سبب غياب بعض الأسماء المعروفة بكتابة القصة القصيرة جداً عن قائمة الكتاب، ومنهم القاص عبد الستار ناصر الذي لم أجد له أية إشارة في الكتاب، رغم أن الناقد أشار (عدّة مرات) إلى عشرات الأسماء العراقية منذ السبعينيات من القرن الماضي لغاية الآن.
3ــ لا أفهم سبب غياب الأسماء التي أبدعت بكتابة القصة القصيرة جداً بعد عام 2003 ، وأصدرت مجموعات قصصية بعنوان (قصص قصيرة جداً) وفازت في مسابقات عراقية وعربية تناولت هذا اللون الأدبي، فيما نجد تركيز الناقد على أسماء ما قبل 2003 . كما لا أفهم سبب التركيز على أسماء بعينها أولاهاً الناقد اهتماماً أكثر من غيرها، إذ كتب عن بعض الأسماء أكثر من مقالة، فيما غابت أسماء أخرى من الإشارة لها تماماً.
4ــ معظم الاقتباسات التي استشهد بها الناقد في كتابه، لم يشر إلى مصادرها كما هو المعروف في التأليف. وكان الأولى بالناقد أن يطلع القارئ على مصادر اقتباساته لغرض الرجوع إليها عند الحاجة، خصوصاً إذا كان القارئ من الباحثين المهتمين بهذا اللون الأدبي.
5ــ جاء في ص10 من الكتاب: (ارنست همنغواي .. نشر قصة قصيرة جداً عام 1925 “للبيع حذاء أطفال غير مستهلك”) . وعلى الرغم من عدم وجود توثيق حقيقي لهذه القصة المزعومة التي بحثتُ كثيراً ولم أجد لها أي مصدر يصلني بكاتبها همنغواي، كما أنني لم أجدها في مؤلفاته، فإن النص المتداول في الوسط الادبي والأكثر شهرة هو (للبيع: حذاء طفل لم يُلبس قط) وليس كما جاء في المقال.
6ــ جاء في ص16 (ومحمد محي الدين مينو في كتابه “القصة القصيرة جداً مقاربات أولى”) ، والصحيح أن كتاب محمد مينو هو في القصة القصيرة وليس في القصة القصيرة جداً.
7ــ في المقال الذي حمل عنوان (القصة القصيرة جداً في ذاكرة المقهى البصري) أشار الناقد إلى ثلاث عشرة قصة قصيرة جداً، ولكنه أهمل أسماء الذين كتبوا تلك النصوص، باستثناء قصة القاص ناصر قوطي.
8ــ بما أن الكتاب يتناول (القص القصير جداً) كما يبدو ذلك من العنوان، إذاً لا يوجد أي مبرر لتناول القصة القصيرة فيه، إذ وجدنا ذلك في المقال الذي تناول مجموعة (فوبيا) للقاص الراحل زمن عبد زيد، وهي مجموعة مشتركة من القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، حيث تناول الناقد إحدى عشرة قصة قصيرة بينما لم يتناول سوى قصتان قصيرتان جداً فقط. والملاحظة نفسها نسجلها على المقال الخاص بالقاص جاسم عاصي عندما تناول الناقد مجموعته القصصية (ملكوت البراري) وهي مجموعة مشتركة بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، ولكن الناقد أسهب في الحديث عن القصة القصيرة بحدود خمس صفحات فيما اقتصر الحديث عن القصة القصيرة جداً بحدود نصف صفحة فقط، من دون عرض أي نص منها. مكتفياً بالتقييم العام لها.
9ــ جاء في ص195 في المقال الخاص بالقاص إبراهيم أحمد (.. الريادة في القص القصير جداً بإصداره مجموعته القصصية التي حملت عنوان “عشرون قصة قصيرة جداً”) ، ولم يشر الناقد إلى تاريخ إصدار المجموعة، والتي صدرت في عام 1976 عن دار الرواد، لتكون أول مجموعة قصصية عراقية وعربية تُجنّس بعنوان (قصص قصيرة جداً) ، كما نسجل على الناقد أنه لم يشر في مقاله هذا لأية قصة من قصص القاص إبراهيم أحمد لكي يعرف القارئ الأسلوب والسياق الذي اتبعه القاص في مجموعته، واكتفى الناقد بالتقييم العام للمجموعة.