
…. حدثني أحد الأصدقاء اليهود، صديق أخلاقه تقترب من تعاليم الديانة الإسلامية، حتى خُيّل إلي أنه لو لا لعنة الجحود التي ورثها عن أجداده لأعلن إسلامه جاهرا وأراه قريبا، يهودي متملص محب للحرية، يشعر بالخزي أمام أخلاق الكيان الصهيوني الإسرائيلي وسلوكياته الملتوية، قال لي وقد التمست صدقه وأحسب نفسي أفهم في تقييم دفق الأحاسيس، خصوصا مع عدم وجود أية مصالح حالية أو مستقبلية محتملة، أو أي ضغط يمكن أن يدفعه إلى قول الحقيقة، أو يجعله يسلك سلوكا منافقا كما هو حال اليهود عادة فيحيد عنها، فإني واللهُ اعتبرته يهوديا حرّا يتوق إلى التخلص من ربقة الماضي اليهودي.
حدثني عن لا أحد قال: إن رحلة الكيان الصهيوني الإسرائيلي بحثا عن مواطنيها المشتتين عبر العالم لم تعد مجدية لأسباب كثيرة، فقد اكتشف أن معظم الوافدين المستجيبين للنداء السرّي المقدس غير مأمونين، بسبب اندماجهم في مجتمعات وأديان مختلفة أخرى وتأثرهم بثقافات لا تخدم المصلحة الإسرائيلية بتمثيلها الصهيوني فيما هو عليه الآن من تشدد وعنصرية مجاهر به، لاحتمال أن قناعاتهم في الانتماء إلى العرق اليهودي قد تزعزعت، وأخطر ما يخشاه أنهم صاروا يهودا مسلمين أو مسيحيين مصلحين ممن اقتنعوا بضرورة حوار الأديان، ومن الممكن أن يأتوا محملين في لاوعيهم أو على الأقل قيم إنسانية تكره الظلم والعنف والتغطرس، وتنبذ التعالي والنداء بالأفضلية على جميع الشعوب الأخرى.
قال إنه يخاف من شباب يهودي قد يكون تخلص من تلك الفطرة الممسوخة من منظور تاريخ العقيدة العبرية وعلاقتها بالأنبياء والرسل، وسلوكها اتجاه الكتب المقدسة، قال إن الكيان الصهيوني يخشى أن يسكن هؤلاء في أرض فلسطين المنشودة بذهنية الإنسان المسالم، وبالتالي قد يفرطون فيما يعتبرها الكيان مكتسبات، وأنه تم الحصول عليها بحروب دامية، قال وحتى لا يتقلص العدد المفترض لسكان هذه الدولة الصهيونية المنشودة بفعل قناعات حضارية وأخلاقية معادية، فقد فكر الكيان الصهيوني الإسرائيلي تجاوز هذه العقبة بالنظر إلى الأهم من ذلك، وهي البحث عن العقلية اليهودية بدلا من الجنسية اليهودية، العقلية السادية المستهترة العاشقة للمال والنساء والبذخ والإسراف وصناعة الفتنة وحب النفوذ، العقلية الغير مبالية بما تطرحه الأديان من أخلاق وتعاليم، ولا ما تقرره المنظمات الدولية والإنسانية، بمعنى عقلية انتهازية وإباحية لكل المحظورات، يعني شريرة فوق العادة، ولا يهمه في ذلك من أيّ جنسية أو قومية جاءت، ولا يهمه أيضا إلى أي مرجعية دينية تنتمي، وهو يتحدث أشار إلى مسألة شائعة في الجزائر قال إذا رأيتم شخصا في بلدكم يكذب ولا يحترم وعوده ومواثيقه، ولا يردعه قانون أو خلق أو جماعة، ولا يتوانى عن فعل المنكر أين ما وجده، أو إفساد في الأرض كلما وجد الفرصة قلتم عنه: يهودي!
بسبب هذه الظاهرة يشعر الكيان الصهيوني الإسرائيلي بأنه سائد ومنتصر، حيث يعتبر الحالة مقياسا لنفوذه واتساعا لرقعة وجوده، والأكيد تمتد حتى إلى أماكن تبدو في قناعة الجميع بأنها مقدسة سيان كانت قداسة مسيحية أم إسلامية، وقد تطال هذه الذهنية شخصيات دينية نعتقد أنها داعية إلى الصلاح والإصلاح، وربما إلى منظمات نعتبرها مساهمة في نشر الخير، وإلى مؤسسات يظنها الكثير من الطيبين أنها محبة للسلام، وإلى وسائل إعلام كثيرة نعتقد أنها مثرية لقضايا التحرر في العالم.
قال عندما لاحظت حصار غزة المتنوع الطرق والأشكال والمنهجيات، حصارها بغلق معابر التراحم بين الشعوب، وحرمان الجياع من دخول الإغاثة، وحصارها بإتلاف المحاصيل الزراعية، وحصارها من طرف الكثير من الدولة بالصمت والتواطؤ والتطبيع، حصارها بتهوين الكارثة من طرف غالبية الوسائل الإعلامية المقروءة والمسموعة للكثير من الدول العربية وغير العربية، حصارها كذلك بمجرد التنديد الروتيني الذي ألفته فلسطين منذ الأزل، حصارها أيضا باتهام مقاوميها بالإرهاب تارة والخروج عن قوانين نظام (الدولة) تارة أخرى، كذلك حصارها بتفعيل وتنفيذ شتى العقوبات على القلوب الرحيمة سواء بتجميد حساباتهم، أو بمنع دخولهم إلى أراض أخرى، مجمل المعنى حصار العالم عن الحقيقة والتشويش على الواقع الإنساني المرير.
عندما لاحظت كل ذلك أدركت أن هذا هو البعد الذي يبحث عنه الكيان الإسرائيلي، وربما المكافأة المترتبة بذرائع مختلفة ووفق حيل كثيرة، والأكيد أن الذي كوفئ لا يدري الجهة التي كافأته، وكذلك الأمر بالنسبة للذي لا يرغب فيه الكيان الصهيوني إسرائيلي، لا يدري هو أيضا الجهة التي أطاحت به وعاقبته في ظل العقلية اليهودية السائدة المتغلغلة في أعماق الشعوب التي صنعتها بشتى المغريات عن قرب وعن بعد، بوضوح حينا وبغموض في الكثير من الأحيان، إنها ثقافة ملتبسة بشتى المبررات منها ما هو تكنولوجي، ومنها ما هو ثقافي، ومنها ما هو اقتصادي ورياضي وهكذا، وأكثره يتواجد في أشكال كثيرة من المنظمات الإنسانية، والبرامج الترفيهية والفنية، وما تفرزه هذه الأشكال من جوائز وتتويجات.
صديقي الإنسان اليهودي وهو يحدثني علمت أن الأدوات التي تشكل عادة الشخصية كما تطرحها الفلسفة، لم تعد ضامنة للحياة الهادئة، وهي تتنافى كليا مع إدعاء منظومة ثقافة العالم القرية التي يريدون صياغة العالم على نسقها، وعندما رأيت الشعوب تصفق بدفع من أنظمتها على أي بارقة ثورية أو احتجاجية دون النظر إلى من يحتويها وإلى من لديه القدرة على الاستثمار فيها، وإلى من تعود نتائجها فيما بعد، سلمت أن هذه هي العقلية اليهودية الغوغائية التي يبحث عنها الكيان الصهيوني الإسرائيلي، فهو يمد الدول أو المجموعات أو الطوائف أو الأفراد بما يقويهم للوصول إلى مأربهم وتحقيق أهدافهم وطموحاتهم، وهم يتماهون ويتواطؤون ضد قضايا يعتبرها الكيان الصهيوني مزعجة، وأن أصحابها والمنادين بها أعداء لهم، ويشكلون خطرا على أمن دولتهم المنشودة في المستقبل، وبما يعتبره الجميع توافقا بالمصالح المشتركة، ها هو إذن الكيان الصهيوني قوي لا أحد يكبحه كما نرى ونشهد، وأن ثماره اتضحت بما ما حققه من غوغائية مادية وسياسية وثقافية، فعلا لقد صنع بها حشدا قويا في العالم، إنه إذن يفكر بعقول غير يهودية، ويحاصر بإرادة غير إرادتها، ويقتل ويغتال بغير أيديها، ويحارب بآلات وأسلحة ليست من ابتكارها، ولا رادع ولا كابح له إلّا إذا أراد كبح نفسه ليترك الإنسانية تنال قسطا من الراحة.
وأمام انتشار هذه العقلية في العالم أكيد فلن يتحقق شيء رغم سلسلة محادثات السلام، وقوافل المبادرات الإنسانية، ولا مكوكية الحوارات التي تجري الآن، ولا حتى الوساطات التي تبذل فيها بعض الدول أموالا كبيرة، ولن يكون أحدُ أحذقَ وأشطرَ من الأنبياء والرسل الذين سخر منهم هذا الكيان عبر حقب متفاوتة من التاريخ الإنساني، فهي الأمة الوحيدة التي استهترت بالله عز وجل رغم أنه فضلها على العالمين، لن يتوقف بنو إسرائيل عن حصارهم للحقيقة، ولن ينتهوا عن كذبهم وبهتانهم واستهتارهم، ولن يرجعون عن كبريائهم وعنجهيتهم ما لم تستيقظ شعوب العالم من سحرها المقيت، فإذا استمرت هكذا فإنهم ستجرون العالم إلى الخراب والدمار، والتاريخ حافل بالمصائب التي ألمت بالإنسانية وبالكون من كوارث طبيعية بسببهم، كجزاء إلهي كلما وقف العالم ضعيفا دون إيقافهم عند حدهم، وبسبب هذه الغوغائية التي زرعوها في الكون فإننا نشهد الكثير من الدول تتغطى بالحفاظ على مصالحها تخاذلا عن كشف الحقيق، وكأن العدالة والحفاظ على النوع الإنساني وحماية المظلومين مسألة خارج مصالحهم، بل أحيانا بحجة هذه المصالح تشاركهم توسيع مساحة الاستخفاف والاستهتار بالقيم والعبث بالمثل العليا، والإسراف في البطش والقتل بالسلاح والتجويع.
مضى صديقي اليهودي مطأطئا وبصعوبة أخبرني بما قاله حيث لم أر سوى شفتيه تتحرك، فالتفت إلي بعد إلحاح شديد:
– برأيك أي دولة بعد الذي فعله الكيان الصهيوني اليهودي تثق بي؟
وهو يلتفت يمينا ويسارا متحريا حتى لا يسمعه أحد:
– إذا أشرت علي بجهة تراها مناسبة فارحمني أرجوك.
فقلت لا توجد جهة يمكنني أن أرشدك إليها إلّا الله، ففر إليه أيها الرجل الطيب وعش بصمت أين ما كنت. فابتسم ابتسامة خجولة خائفة ومضى.