
ما أكثر الأماكن التي وطأتها قدماي ..و في كل مكان رأيت، و سمعت، و تعلمت، وتعبت أحيانا من بعض مشاهداتي، و هذا أمر طبيعي
أكثر ما كان يلفت انتباهي كلما كان جمع من الناس في المواصلات.. فى الجامعة ..فى العمل .. في ندوة أو مؤتمر ..فى كل مكان.. هي الثرثرة .. كلام ..كلام .. وكأنه الملجأ والفرار ..الهروب من الكبت أو الهموم أو الذنوب .. المهم أن يتكلموا في أي شىء.. وربما هو الأسبرين المسكن لآلامهم وذنوبهم ؛ لأن الكلام لا يخلو من كلمات إيمانية تسكن أرواحهم أو ضمائرهم.
إنهم لا يدعون لأنفسهم فرصة للصمت و بالتالي التفكير، ومن يصمت ويفكر لا يفكر إلا فيما يقوله لاحقاً.
الهموم والمشاكل والتعقيدات الحياتية وسرعة الزمن تزداد يوما بعد يوم، إذا الهروب أفضل وسيلة لهؤلاء و ما أكثر الوسائل.
وفي مرة سمعت شابا في حوالي العشرين من عمره، وقد اشتري علبة سجائر فسأله زميله : ” دي سجاير أصلية؟ ” فرد علية قائلا : ” لا يهم .. المهم أنها نار ..كل أنواعها نشعلها نارا و دخانا ” .
لدية حق فكل أنواع السجائر نار و دخان في الهواء لكنه دخان يزهق الأنفاس أيضا ولكن المهم لدى هذه الفئة أن يشعلوا ويحرقوا وكأنه انتقام للنفس أو شىء من الفرار، إنه يتوهم أن هذه النار تحرق همومه و مشاكله، فتتحول إلى دخان يتصاعد في الهواء، ويتناثر بعيدا عنه، ثم يتلاشي فتتلاشي معه همومه.
إنه الوهم الكبير وخداع النفس، فهو لا يدري ؛ أنها لا تتناثر بعيدا عنه وإنما تدخل كلها لتستقر في صدره وتتراكم بعضها فوق بعض حتي تزهق أنفاسه.
إنه يدخل في دائرة مغلقة ويظن أنه يستطيع أن ينفذ منها مع نفاذ الدخان وهو في الحقيقة ينفذ منها إليها.
صارت اللامبالاة سمة في الكثير من البشر و شعار ” أنا مالي ومال غيري ” هو السائد، واختفت مع هذا الشعار مبادئ وأخلاقيات مجتمعية، فلا مروءة ولاشهامة ولا إيثار إلا مارحم ربى والغريب أننا نجد كثيرين متحدين تحت هذا الشعار، وزد عليه شعارا آخر ( أنا و من بعدي الطوفان )، مع أن الطوفان قد يأتي و يغرق هو فيه ولا يجد من ينقذه من المبدأ نفسه : ” أنا مالي”.
إنهم يبدون جماعة متطرفة خارجة عن قوانين الحياة، ويتوهمون أنهم يستطيعون العيش إذا تخلوا عن الآخرين.
فعند اشتعال الحرائق، إذا لم نتكاتف قبل انتشارها وقبل أن يموت كثيرون من النار أو الدخان قد تصيبنا كلنا فتزهق أنفاس الحياة كلها .
كلنا محتاجون إلى بعضنا، ..فنحن البشر حلقات مترابطة ببعضها البعض، حاجتنا ليست كلاما وثرثرة، وليست النار والدخان ..حاجتنا أن نرى غيرنا ونعرف أنفسنا، ونبقى معا في حاجة بعضنا، كي تبقى الحياة فنبقى معها.