
المسرح العربي يُعدُّ أحد أبرز مظاهر التعبير الثقافي والفني، وهو مرآة تعكس تطور المجتمع العربي واحتياجاته عبر العصور. ورغم أهمية هذا الفن في تشكيل الهوية الثقافية للأمم، يظل تعريف “المسرح العربي” موضوعاً للجدل والنقاش. إذ يرى البعض أنه مسرح ناطق باللغة العربية، بينما يعتقد آخرون أن المسرح العربي الحقيقي هو الذي يتجذر في الثقافة والهوية العربية الأصيلة، ويُعبِّر عن قضايا المجتمع العربي وروحه الحضارية.
عند النظر في نشأة المسرح العربي، نجد أنه لم يكن نتاجاً أصيلاً للحضارة العربية القديمة، بل تأثر بشكل كبير بالمسرح اليوناني والروماني الذي وصل إلى العالم العربي عبر الترجمات والانفتاح الثقافي، ولاحقاً مع موجات التحديث في القرن التاسع عشر. ومع إدخال المسرح كفن مستورد من أوروبا، بدأ العرب في محاكاة هذا الشكل الفني، إلا أن تلك البدايات لم تُفضِ إلى تأسيس مسرح عربي مستقل بملامحه وهويته، بل إلى ظهور “مسرح ناطق بالعربية”، حيث كانت اللغة وسيلة للتواصل، دون أن يعكس المحتوى هوية ثقافية عربية واضحة.
فقد شكّلت اللغة العربية، بثرائها وبلاغتها، الحاضنة الأولى لهذا المسرح، إلا أن المحتوى المسرحي ذاته كان في كثير من الأحيان مستعاراً أو مترجماً من الأدب العالمي، مثل مسرحيات شكسبير والنصوص الأوروبية الكلاسيكية والحديثة. هذا التبني، وإن أتاح للعرب الاطلاع على فن المسرح، عكس انبهاراً بالثقافة الغربية أكثر مما عكس جذوراً حضارية أصيلة، مما أدى إلى غياب ملامح خاصة للمسرح العربي. وحتى مع محاولات التوطين، بقيت الأعمال المسرحية تعاني من تأرجح بين الأصالة والتقليد، حيث ظلت الهوية الثقافية العربية غائبة في كثير من الأحيان.
رغم ذلك، كانت هناك محاولات جادة لتأسيس مسرح عربي يعكس روح المجتمع العربي، أبرزها جهود رواد مثل توفيق الحكيم وسعد الله ونوس ويوسف إدريس. فقد حاول هؤلاء توظيف التراث العربي الإسلامي والموروث الشعبي في أعمالهم، مما أتاح ظهور ملامح مسرحية أكثر ارتباطاً بالمجتمع العربي. ومع ذلك، ظل المسرح العربي يعاني من تحديات تتعلق بتبني النصوص العالمية المُعرّبة واستخدامها دون إعادة صياغة تُبرز الهوية الثقافية العربية.
الحكواتي وجذور المسرح العربي
إذا أردنا الحديث عن الجذور الحقيقية للمسرح العربي، فإننا نجدها في التراث الحكواتي الذي يُعدُّ جزءاً من الذاكرة الثقافية العربية. فالحكواتي كان يجمع الناس في الأسواق والمقاهي ليُقدم لهم قصصاً تنبض بالحكمة والمغامرة، مستخدماً صوته وحركاته لتقمص الشخصيات وتصوير المشاهد. هذا الشكل البدائي من المسرح كان يعكس تطلعات المجتمع ويحافظ على التراث الشفوي، مُمهداً الطريق لتطور المسرح العربي الحديث.
الحكواتي لم يكن مجرد راوٍ للقصص، بل كان فناناً شاملاً يجمع بين الأداء المسرحي والشعري، ويُقدم للناس مادة ثرية تجمع بين التسلية والتعليم. هذا الفن، بكل ما يحمل من أبعاد درامية واجتماعية، شكّل اللبنة الأولى التي يمكن أن تستند إليها المحاولات المعاصرة لتأسيس مسرح عربي أصيل.
اليوم، يقف المسرح العربي على مفترق طرق، بين استلهام التراث العربي الغني والسعي لتطوير هوية مستقلة تتجاوز اللغة كعنصر تعريف. يحتاج المسرح العربي إلى مضمون ينبثق من التجربة العربية، يُعبِّر عن قضايا المجتمع العربي وهمومه، ويُقدم رؤية فنية تحمل خصوصية حضارته وتاريخه. فالمسرح الناطق بالعربية ليس بالضرورة مسرحاً عربياً، بل المسرح العربي الحقيقي هو ذلك الذي يُجسد روح المجتمع العربي، ويُقدم فناً يُعبر عن هويته وثقافته وقيمه الإنسانية في إطار إبداعي أصيل ومتميز.