امتاز المحضن العربي بالتزام القيم النبيلة التي كانت جزءا من منظومة اجتماعية بسيطة شكلتها القبيلة والعشيرة ، وزكاها الوحي فيما بعد وعمل على إكمالها وترسيخها وجعلها أنساقا عملية ومنهجا يتجلى في الحياة داخل المجتمع المسلم ، لذا كان الخطاب الأدبي باعتباره صورة عن المجتمع طريقا للتعبير عن القيم السائدة في إطار يحكمه الأنا الأعلى ،إذ لا مجال لاختراق الأنساق أو تخطي الحدود التي رسمتها المفكرة الأخلاقية العربية ، فكان الحديث عن المرأة في القصيدة العربية القديمة حديث مقنعا يلجأ فيه الشاعر إلى استخدام علم غير علم محبوبته خوفا على نفسه وعليها من الكشف الذي يكون مجلبة للمعرة، غير أن هذا الأمر لم يكن ساريا عند الشعراء جميعهم إذ ذكر بعضهم الأسماء علانية بعدما عرف عنهم شديد هيامهم بمعشوقاتهم فكان التصريح بالاسم ظاهرا كما عند عنترة بن شداد فاسم عبلة ابنة عمه التي منع الزواج بها تردد في قصائده ، بل إنك تجد الاسم مرددا في البيت الواحد كما في قوله :
يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
وهو كشف ناجم عن سياق مخصوص عاشه عنترة بعد الطرد من القبيلة، لا يعني البتة أن كشف الأعلام المؤنثة سرى عرفا عند كل الشعراء لأن أغلبهم تكتموا عليه أو غيروه باسم علم آخر احتراما للعرف الأخلاقي السائد في المحضن العربي، غير أن شعراء تخطوا الطابوهات الاجتماعية تعاليا منهم على السائد وممارسة لنوع من التحرر الشبقي والإعلان عن الفحولة الشعرية والجنسية معا دون تقيد بالضوابط فنجد امرئ القيس يعلن بصريح العبارة عن ذلك قائلا في معلقته:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة فقالت لك الويلات إنك مرجلي
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وتحتي شقها لم بحول
وقد أعجبني قول المرزباني في الموشح حين ذكر أن ما جاء به امرئ القيس فجور وعهر وهو معنى فاحش وهو ملك ابن ملوك فما قال هذا إلا لنقص همته
فالتصوير فاحش لمشهد جنسي يتجاوز كل حدود الستر الاجتماعي والمروءة والشهامة التي عرف بها الرجل العربي ، ما يدل على أن العربي في العصر الجاهلي كان فعلا محتاجا إلى شيء من التهذيب الأخلاقي رغم تباهيه بأخلاق رفيعة كالكرم والوفاء وإغاثة الملهوف والإيثار والأمانة وغيرها من القيم الجميلة إلا أن النواقص كانت ظاهرة في سلوكاته ، مما يجعلنا أمام تساؤل مشروع هو : هل بالفعل ما صنعه امرئ القيس راجع إلى درجة من الوعي في الكتابة أم إلى اللاشعور الناتج عن الكبت بالمعنى الفرويدي ؟ ؛ إن الجواب عن هذا السؤال يقتضي فهما لشخصية الشاعر ومعرفة دقيقة بملابسات إنتاج الخطاب ، فمعلوم أن امرئ القيس أو الملك الضليل كما يحلو لكثيرين أن يلقبوه، إنما كان مدفوعا أثناء إنتاج نصه بدافع سيكولوجي محض تحركه النزوة التي كان امرئ القيس يرتاع في مرعاها الخصيب، ففي خضم تغزله بعنيزة ورغبته في إظهار فحولته الكاملة عبر الفخر بفروسيته وقوته ارتأى أن يجعل من فحولته الجنسية وهو أمر غير معتاد عند شعراء الجاهلية لما فيه من إخلال بالأخلاق العامة التي كان يرى نفسه بحكم النشأة والانتماء أعلى منها ، فلا رادع يستطيع ردعه عنها أو كبح جماحه عن القول في أمر الجنس مما لم تألفه الذائقة الجماعية، ولما سارت الحضارة نحو الترقق خاصة في الحجاز بدأ حضور المرأة يظهر جليا في الشعرية العربية، سواء ظهورا حركته العفة والطهارة ظهر في شعر القيسيين ونقل صورة المرأة نقلا يبرز علاقة العفة الجامعة بين الشاعر ومحبوبته، وظهرت صورة معاكسة إلى حد ما في شعرية عمر بن أبي ربيعة رغم ما حمل عليه من إباحية لا نرى لها وجها صحيحا بقدر ما نجد لها شيئا من المغالاة عند الدارسين ، إذ إن الناظر في سيكولوجية الرجل سيجد أنه كان مهووسا بذاته ، معجبا بها إلى حد كبير ، جعل الأنا عنده متعالية مدفوعا بوسامته وغناه ما جعل الأنثى في شعره تتقرب منه في صورة معاكسة لما هو معتاد ، فهي محط اهتمام النساء ومهوى قلوبهن كما عبر عن ذلك في قصائد كثيرة يقول:
قلن يسترضـــينها منيتـــــــنا لو أتانا الــــــــــيوم في ســـر عُـمَرْ
بينما يذكرنني أبصرننـــــــي دون قيد الميل يعـــــدو بي الأغر
قالت الكبرى أتعرفن الفتى قالت الوسطى نعم هذا عــــمر
قالت الصغرى وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر؟
فقد تيم الصغرى والأخريات كن يتمنين لقاءه شغوفات به، مفقدا بذلك الأنثى جمال تمنعها وهو ما عابه عليه نقاد عصره، غير أن هذا الأخذ كان مبررا من جهة واحدة، جهة الأنثى ولم يتم تبريره في النقد من جهة الشاعر وأناه التي مازتها نرجسية متعالية أسقطت كبرياء الأنثى التي جعلها تسعى في أثره حينما قال:
قُومي تَصَدَّيْ له ليُبْصِرَنا ثم اغمزيه يا أخْــتُ في خَفَرِ
قالت لها قد غمزته فأبى ثم اسْبَطَرَّتْ تشتدُّ في أثَري
ليجعل عمر من نفسه ذلك الشخص المعشوق لا العاشق المتمنع عن رغبة النساء في صورة يسمها التعالي الزائد عن حده، لذا فإن النظر سيكولوجيا في الدوافع التي أفرزت هذا الخطاب الشعري النرجسي سيؤكد حتما أنتنا أمام تركيبة نفسية فريدة أنتجتها الإهمال السياسي للحجاز ، حيث تم إقصاؤها من سدة السلطة السياسية بعجد انتقال الحكم إلى بني أمية في الشام ، ما جعل الحجاز تستشعر هذا النقص الذي ظهر في مدنيتها وترققها الحضاري الذي هيأ لعمر الطريق نحو العيش في ترف وتباه وتصيد للنساء تارة وجعلهن يتقفين آثاره في لعبة تبادل الأدوار وإن كان غزله أحيانا يتجاوز حدود العفة المعروفة إلى استخدام لغة الضم والتقبيل والعناق دون استدعاء للبذاءة والفجاجة مما كان يعكس ذوقه الرفيع وأناقته الأخلاقية رغم ما حمله بعض النقاد والدارسين من الاتهامات بإباحية الغزل وفحشه وهو أمر لا نكاد نجد له في شعره أثرا ظاهرا كما هو الحال في شعر أبي نواس ووالبة بن الحباب والحسين الضحاك ومن جرى على شاكلتهم من شعراء المجون خلال عصر بني العباس وما فتحه هذا العصر من أبواب التهتك والعربدة التي سادت وجها من وجوه الحضارة العباسية ، فهي وإن بلغت شأنا كبيرا في مجال العلوم بما انتعش فيها من حركة الـتأليف والترجمة فإنها عرفت وجها آخر كاشفا لم يحتج فيه الشعراء من هذه الطينة إلى تقنيع وإخفاء لأن العصر أتاح أمامهم كل الإباحة لفعل ما شاؤوا وإن حاولت السلطة جاهدة أن تكبح جماح المعربدين والزنادقة لكنها عانت أمام عبثهم وعدم اكتراثهم لما داخل الثقافة العباسية من روافد جديدة من محاضن دينية عديدة كالمزدكية والمانوية والزرادشتية والبوذية والنصرانية بفروعها من يعاقبة وملكانية وديصانية واليهودية واتجاهاتها من قرائين وسامرة وربانيين وهلم جرا مما أغنى الفضاء الديني ومنحه تنوعه الكبير ما أسهم في ظهور حركة و المجون والزندقة بشكل لافت ، فجر أصنافا من الاختلالات الأخلاقية الغريبة عن ثقافة الإسلام وقيمه مثل الشذوذ والتغزل بالغلمان وهو أمر كان ظاهرا في شعر أبي نواس خاصة، بحكم ما ميز الشاعر من مؤثرات خارجية أسهمت في تكوين نفسيته المتقلبة وغير السوية، وهو ما لاحظه الدكتور محمد النويهي حينما خصص دراسته التي استدعت المنهج النفسي في تناولها لشخصية أبي نواس وحللته تحليلا دقيقا، ولعل هذا الانصراف إلى اختراق طابوهات الجنس في الشعرية العربية وتعدي الخطوط الحمراء التي رسمتها الأعراف المجتمعية والأخلاق يرجع إلى ما ساد المحضن الثقافي العربي من انحلالات قيمية أسهمت فيها الحركة الشعوبية بشكل كبير واحتدامات الصراع الفكري والفلسفي حول قضايا الميتافيزيقا والدين وشروع العقل العربي في طرح سجالاته الجديدة حول مختلف قضايا الوجود، لذا أعتبر المتغيرات الجديدة مما أفرزته المثاقفة السبب الرئيس في هذا الاختراق الشعري الذي وجد بيئة المجون والتفسخ قد تهيأت له ليعيث كما شاء ، ويتجاوز حدود الاستعمالات المعجمية النابية مما يخدش الحياء إلى تصوير فاحش يتعرى فيه الجسد وتفضح فيه العورات مما يمجه الذوق الأخلاقي السليم وتترفع عنه النفس السوية قال أبو فراس الحمداني :
ولا أطلب العوراء منهم أصيبها ولا عورتي للطالبين تصاب
فهذا التصريح من مروءة الإنسان وعلو مكارمه ، لم نجد له صدى في شعر والبة بن الحباب ولا أبي نواس ولا الحسين بن الضحاك بقدر ما كنا نجد شعرهم صارخا ، فاضحا يقطر عربدة ومجونا ، سواء بالنساء أو بالمذكر وهو أمر لم يسبق إليه في شعر العرب من قبل حتى قيل في أبي نواس لولا مجونه وعربدته لكان أشعر شعراء العربية ، لما ماز شعره من فرادة في الصورة وبديع في القول وحسن في العبارة وغير ذلك مما يجمل الشعر ويحسنه في عرف النقاد ، غير أن تجاوزه للحدود الأخلاقية واستهتاره بالدين والجنة والنار ولد عليه ردود فعل قوية في الأوساط الاجتماعية ومن السلطة نفسها وإن حظي بنصيب من مدح الملوك فيه إشارة إلى شاعريته التي أفسدها مجونه وصرف عنها الأنظار من أصحاب الهمم وأرباب القيم النبيلة من العرب ومن النقاد فقد ورد أن الباقلاني قد علق على قول امرئ القيس الفاحش في معلقته قائلا: ه>ا غاية في الفحش ونهاية في السخف ، وأي فائدة لذكره لعشيقته كيف كان يركب هذه القبائح ويذهب هذه المذاهب ، ويرد هذه الموارد ؟ فإن هذا ليبغضه إلى كل من سمع كلامه ويوجب له المقت وهو لو صدق لكان قبيحا فكيف ويجوز أن يكون كاذبا؟ ثم ليس في البين لفظ بديع ” فإذا كان الباقلاني قد رأى هذا في قول قليل لامرئ القيس فكيف يكون في شعر المجان وبخاصة أبي نواس وغزلياته في المذكر وما فيها من فحش وفجاجة ودناءة.
ومن هنا نستطيع أن نتبين ـ عبر هذا السفر الشعري السريع ـ أن تعامل الشاعر العربي مع موضوعة الجنس تفاوت من شاعر لآخر تبعا لطبيعة التكوين النفسي الذي شكل شخصية الشاعر وتبعا لطبيعة البيئة التي نشأ فيها والظروف المحيطة بالشاعر وما يعتلج فيها من مؤثرات يحتاج الناقد إلى تحليل أجزائها وتفكيك أبنيتها لتمييز العناصر الأكثر تأثيرا في توجيه سلوك الشاعروسوقه نحو إنتاج خطاب شعري يتجاوز كل المتعارف عليه أخلاقيا واجتماعيا في محضن عربي بؤرته الوحي بما يحمل من قيم ومثل عليا يمنع على المرء اختراق حدودها ، بل ويحتم عليه الحفاظ عليها والعمل على نشرها في الأوساط ، لذا كان تعامل الشاعر العربي مع موضوعة الجنس بمنطقين منطق التقنيع والإخفاء احتراما لعرف الاجتماعي السائد ، فكان بوحه بالمكنون الجنسي متذبذبا ، يقف بين إخفاء وإعلان جسد حيرة الشاعر العربي ورغبته في تفجير المكبوت الجنسي عبر أجهزة مفاهيمية كالقبل والعناق والرحيق والقرقف والرشف وما شابه هذه المفردات ليمارس الشاعر العربي إعلانه الصريح الكاشف في مجتمع غذته روافد عدة أسهمت في تكوين ذهنية جديدة شديدة الانفتاح على الفعل والسلوك بغض النظر عن منبعه وأصله ، وهو ما سمح للشاعر العربي بالاجتراء أكثر على القيم التي لم تعد حدودا مرسومة يمتنع تجاوزها ، لذا كان العصر العباسي محطة تاريخية حاسمة في تجاوز التقنيع والمراوغة والتمويه والتردد في التعبير نحو المكاشفة والاجتراء الصريح والعلني دون قيد ولا كابح.