
الحوار العاطفي هو استجابة روحية تجذَّرت في ذات الشَّاعر (واثف الجلبي ) ، وإنَّ أول الشُّعور بالانجذاب نحو الآخَر يكون نتيجة تفتُّح الذات العاشقة على غيرها وعلى العالم؛ لذلك نجِدُ الشَّاعر لا يدِّخر جهداً في سبيل وصال محبوبتهِ والظفر بها والبوح بعاطفته لها , ونار الشوق هذه هي النار المتأجِّجة دوماً , لا تستكين ولا تهدأ , بل إنَّها تضطرم حتى في اللقاء فتُشير إلى صدق الحب وتفرُّدِه ,وتتوجَّه الذاتُ إلى الحبيبة بخطابٍ يستبطن معاني الألم ، واللوعة ، والرغبة في عدم الافتراق والتزام الشاعر الصمت ، إلَّا أنَّ عواطفَه جسَّدت ما يدور في مخيَّلته شعراً متخذةً بذلك من حبِّهِ الزائد للآخَر وسيلةً للكشف عن حالتِهِ النَّفسية ,وعن موقفِهِ الانفعالي.
إنَّ الواقع الرومانسي الذي كان يحياهُ الشَّاعر( واثق الجلبي) ألقى بظلالِه على إنتاجه الأدبي , وكان ذلك في مرحلة متأخرة من حياته الشعرية ، أي المدة التي شهِدت نُضوج الشاعر شعريَّاً , ويَلحظ قارئ شعر الشاعر أنَّ أغلب قصائده إنَّما هي قصائد حبٍّ تتأرجحُ بين التَّوق إلى امتلاك الحبيبة والظفر بها والتوسُّل إليها ، وبين الحزن والخوف والبكاء الناتج عن فقدانها ، أي أنَّ لغة الشِّعر شهدت ظهور ألفاظ العشق والحبٍّ وما ينتج عنه من عواطف نتيجة الفقدان والأسى والبكاء والفرح فضلاً عن ألفاظ الطبيعة ؛ لذلك فإنَّ الشَّاعر ( واثق الجلبي ) غالباً ما نراه يوحِّدُ بين المرأة وذات الشاعر ,فعرض الذات والعاطفة الجياشة ومسحة الكآبة والتشاؤم والالتجاء إلى الحبيبة ومشاركتها كلها موضوعات عرفها الشعر المهجري وهي موضوعات رومانسية قديمة ,ونلمح ظهور مثل تلك الألفاظ في قصائدهِ الحوارية العاطفية والفلسفية , والمتأمِّل في نصوصه الغزلية الفلسفية في اغلب الأحيان يجد أنَّ الشَّاعر يُقيم خطاباً بينه ,وبين نفسه من باب نجوى الذات ، ولكن عن طريق خطابِ شخصٍ آخر مُجسِّداً حالةً من الانصهار الروحي بينه ,وبين الحبيبة / الآخر / الرمزي ، فنراه يقول :
لستُ في حكم الهوى من مُدّعِ لستُ في الحبِ كثير الخدع
وحوار قد جرى في داخلي ليس في صبغتهِ من بدع
كلّمَ القلبُ فؤادي واشتكى من بعادٍ وغرامٍ مودعِ
كنتُ أصغي لهما في حيرةٍ هل أنا رهينُ جنونِ الصرعِ ؟
قال شوقٌ وهيامٌ هزني فبدا لهفي له في المدمعِ
ردّ عقلي عاتبا لا تشتكي كبرياء المرء فوق المصرعِ
فإذا بالقلب صادٍ كلهُ وإذا بالعقلِ ينعى من نُعي
توجَّهت ذاتُ الشَّاعر إلى الحبيبة / الرمز / الآخر بألفاظٍ رقيقةٍ وعذبةٍ تشوبها العاطفة الدافئة في انسيابيةٍ واضحةٍ تُجسِّد مرادَ الشَّاعر الذي جعلَ الهوى يجسد سلطةً عاطفيَّةً مؤثرةً عليه, إذ يصدِرُ خطابَهُ العاطفي إلى حبيبتهِ بألفاظٍ وعباراتٍ تعكسُ ما يختلجُ في نفس الشَّاعر من تباريحَ هوى العاشقين ووله ذواتهم إلى ما يُحبِّبُ نفوسهم , ويُقرِّبها من الآخَر الغزلي بغض النَّظر عمَّا إذا كان حقيقياً أم مخترعاً فالمرأة المحبوبة / الحبيبة / الرمزية أحيان كثيرة تتحد مع الذات في خطابٍ عاطفي يصور رغبات الأنا الحقيقية ومتخيلاتها في اللاوعي, الذي يفترض شكلاً من أشكال هذا الآخر ولكن هذه الأنا المفترضة ليست خيالية , بل معبِّرة عن متخيلات اللاوعي, لذا فإنَّ الشَّاعر (واثق الجلبي ) لا يقوى على الرحيل وترك حبيبتِهِ بل يستمر في التودُّد إليها وكسب رضاها ووَلَهُ الشاعر بمحبوبتِهِ / الرمزية قادهُ إلى التَّعبير عنها بمظاهر الصَّد والاشتياق الذي تكلَّلَ بالوصف الحِسِّي لطبيعة تلك العلاقة ، ولكن مع عدم الانحراف عن الغزل الروحي إلى التغزل بمادياتٍ رخيصةٍ يمجُّها العقل , فالشَّاعر يجعل الطريق بينه وبين الآخر “المرأة” موصَداً، ولا سبيل يخرج الشاعر من معاناتِهِ وانغلاقه على ذاتِهِ إلَّا أن يمارس انفتاحه على الآخَر الغزلي الذي يكمل له ما استلبَ منهُ وكان سبباً في عزلته فالوعي الشعري لا يمكن أن يوجد إلَّا في الآخر بأن يعيش انفتاحه عليه ؛ لأنَّ هذا الانفتاح سبيله الوحيد لكي يمارس ذاته وفعاليته . إنَّ الآخر” المرأة ” يُمثِّل مشروعاً لهذه الممارسة لأنَّه مليء بالممكنات,فنراه يقول :
فدنا العقل من القلب ولم يُدركا أني خبيرٌ ألمعي
أنكر العقل غرام القلب في جلسة الشمع فتوارى أجمعي
خفتُ من عقلي على قلبي فلم أعطي حقا لكلامٍ مُودع
أنصرُ القلب على العقل فمن ينصر العقل إذا ما يدّعي ؟
لكلا الخصمين حقٌ ظاهرٌ وبيانُ الأمر صعبُ البِدعِ
فتنهدتُ وتراخى قلقي وهما قد يئسا من مطلعي
ملتُ للقلب على العقل كما باحتْ النفسُ بما في أضلعي
ويلجأ الشاعر إلى حوارية رائعة بين القلب والعقل بعد ذلك إلى إحاطة حبيبته بمظاهر الاستعلاء والإعراض والهجر في سبيل كسب ودِّ الآخَر الذي يتغزَّل به ، يقابله تنازلُ ذاتِ الشَّاعر عن كل تلك الأشياء وإبدال مكابدة الحياة وتعاستها التي تحياها تلك الذات الحالمة بنظرة ودٍّ من شأنها أن تعيد كلَّ شيء إلى مكانِهِ الطبيعي, وتستمر الذات المتغزِّلة في تغليب تصورها للعالم العاطفي الذي تحياه, وذلك من خلال استمرار الشاعر في حشد الصور العاطفيَّة والفلسفية التي تدل على ثقافته الواسعة التي تُفصِحُ عن ذاته الوالهة لرؤية الأحبة إنَّ الشَّاعر المُحِبُّ هنا كان قد استعان بامرأةٍ لها وجودٌها الواقعيٌّ ، وليؤكِّد فكرتَهُ هذه يلجأ إلى توظيف المرأة الحبيبة وهي إحدى الوسائل التي يستحضرها الشَّاعر ليُعبِّر من خلالها عن الحب الأفلاطوني المفقود ؛ لإبراز صورة الحبيبة العالقة في ذهنهِ , لذلك كانت المرأة هي الصُّورة والحُلم والواقع الذي يركن إليها الشاعر في الحقيقة والخيال لتملأ عليه وجودُهُ , إذ إنَّنا أمام شاعر يتجشَّم كافة الصعوبات ويذللها في سبيل لقيا من يعتقد فيه صفات الحبيبة ، فيعمد إلى خلق مساحةٍ من التَّوافق الوجودي بينه وبين الآخر ؛ لتعويض الحرمان العاطفي الذي ترك أثرهُ في نفسهِ ، والذي تَجسَّدَ بمحبوبته الغائبة ,وحضورها معه سراباً أفلاطونياً، إذ تؤدِّي المرأةُ بفعل الحبِّ دوراً فاعلاً في الحياة من خلال ثنائيَّة الحضور والغياب، فحضورها في الحياة يملؤها عاطفةً وبهجةً , في حين يُثير غيابها أجواء الخواء والحرمان , فنراه يقول :
فوصال الحب يشفي وجعا لاهب الشوق ليطفيه معي
وقضينا ليلة العمر وفي راحة العقل دواء الوجعِ
علي صحن عبد العزيز روعة بلا ضفاف
تتوجَّهُ ذات الشَّاعر إلى الآخَر العذري بكمٍّ هائلٍ من المشاعر الوجدانية الممتلئة بالحركة والحيوية والانفعال , فقد عمدت إلى تصوير المرأة الحبيبة في كلِّ ما يحيط بالمشهد عموماً جسَّدتها مجموعةٌ من الأفعال في انعطاف بالدلالة التي يُثيرها التَّخيُّل والتَّأمُّل والانشغال بتلك الصور المرئيَّة التي تدل على تأثُّر الشاعر وانفعاله بمشاهداتٍ حيَّةٍ تعمُّق من تجربتهِ , وتُؤثِّر فيه فكريَّاً وعاطفيَّاً , وتُهيِّئُ السُبُلَ لميلاد القصيدة فهي ,في جميع أحوالها تأخذ بكيان الشاعر وعواطفه ومشاعرهِ ، فهي تُؤثِّر في الشاعر فكراً وخيالاً وحِسَّاً ، فتُثير في نفسِهِ أفكاراً تُشكِّل الموضوعَ الذي تدور حوله القصيدة فتُفجِّر في نفسِهِ ملكةَ الخيال والموسيقى , وتُنشِئ لها لغةً خاصةً في ألفاظها وتعابيرها 0
ومنتهى القول أنَّ الخطاب الغزلي يصدرُ من ذاتٍ رومانسيةٍ محافظة حيناً ، وتوَّاقةً للخروج من بيئتها الملتزمة أحياناً أخرى , فالحِسُّ الرومانسي يُحلِّق بعيداً في فضاءات الذَّات الشَّاعرة سعياً منها إلى الارتواء العاطفي , مع وَلَه الذات وتحملها ارتدادات الصدِّ والهجران من قبل الآخَر الغزلي الحقيقي.0