اهتزت الأرض ذلك المساء التشرينيِّ هزات قوية، وزلزلت الأرض تحت أقدام الفلاحين، وتمايلت بهم البيوت الطينية وتثنت، وانحنت حتى أغشي عليهم من شدة الهلع، ثم أفاقت قريتي على بيوت مهدمة، وساحات مدمرة، وحقول قسمتها الأخاديد، وأكلتها الحفر العميقة…
وقف الفلاحون ينظرون حولهم وكأن على رؤوسهم الطير، ودارت أقدامهم حول أطلال القرية بعيون ملؤها الخوف والدهشة الممتزجان بأسئلة تكاثرت وتضخمت حين نظروا حولهم، ولم يجدوا أجوبة لأسئلتهم.
ومع تلك الخطى التائهة مشى محمد ابن أبي جمال يفتش عن وجهة يرتاح إليها، مكان يشعر به بالأمان، ابتسامة تسحب من دمه هذا البؤس، يد حنونة تضعه على طريق الحياة..
ومن بين الردم قام رجل معفَّر بالتراب يتكئ على عصاه، وأمسك محمد ابن أبي جمال من ذراعه، وسأله بغضب: “أنا مين؟”
بهت محمد ابن جمال، فقد هزه سؤال الرجال ودفعه ليسأل الرجلَ السؤال نفسه:” أنت مين؟!”
وتلقَّفت الألسن السؤال، وضخَّمته، فتردَّد صداه في ساحات القرية، وممراتها، وشوارعها، وبين ما تبقى من بيوتها…
وبينما كان الفلاحون ينتشلون الأصوات الواهنة الضعيفة المتوجعة من تحت الردم والأنقاض، كان السؤال” انت مين” يحوم في سماء القرية ليدفع الفلاحين للبحث عن شيء ما يخزهم، وليسيروا بلا مسار محدد، أو وجهة معروفة، وكلُّهم يمشون بخُطى تائهة غريبة مستغربة…
وفجأة تلاطمت خُطى الفلاحين، وتسارعت نبضاتهم، وتدفَّقت أنفاسهم، وسالت أقدامهم في القرية بين مهرول وراكض وزاحف إلى حقول القرية وأبنيتها المدمرة لتضع علامات وإشارات.
وزاحم محمد ابن أبي جمال تلك الخطى، وحدد أرضا وجلس فيها، وكتب على لوح خشبي بالطباشير “هذه الأرض لي”.
انشغل الفلاحون ببناء أسوار حول الأماكن التي ركضوا إليها وحددوها…
محمد ابن أبي جمال، وهو يحتضن شجرة زيتون بحب: “لمَ أشعر أنَّك قطعة من جسدي؟ لمَ كلَّما اقتربت منك قرَّت عينيَّ، وتفتَّحت لي أبواب من حب وسلام ونور؟
امرأة وهي تمسك شجرة ليمون بحب: لمَ أشعرُ أنك قطعةٌ من جسدي؟
رجلٌ وهو يقبض على حفنة من تراب: لمَ أشعرُ أنني منك، وأنك مني؟
وفجأة اهتزت الأرض، وتمايلت القرية بالفلاحين فأغشي عليهم من الهلع…
أفاق الفلاحون على صوت انفجارات ضخمة شديدة تصفع وجه القرية، وتهزّها هزات قوية…
وكم أحزنهم ما حل بقريتهم من دمار وخراب!
محمد ابن أبي جمال بصوت عالٍ:
أبو محمود، انتظرني حتى أكمل بناء سور الدار، وأجمع الخرفان…سآتي لأساعدك.