حنين العودة إلى الزمن المدرسي الجميل؛ صور التقطناها، بل ،عشناها بكل تفاصيلها-السعيدة منها والبئيسة – و اختزنتها الذاكرة الطفولية، لكنها تعود أحيانا كنوستالوجيا متلفزة-بالأبيض و الأسود – صوتا و صورة ، وتارة كصفحات من كتاب – حياتنا – في رف دماغنا، نقلب صفحاته بحثا عن وجوه فقدنا ملمحها أو تغيرت قسماتها مع مرور الزمن بين الأمس و اليوم .. يبدع المخيال في توصيفها و استرجاعها في لحظات كتمثال رابض لا ينسى.
بين اليوم و الأمس مسافة، ولكن ما مررنا به يبقى مخلدا في أعماقنا بلا مسافة؛ لأنه جزء منا..
في تلك الليلة، حين عاد محمد العربي إلى”حي الحياني” بعد غربةٍ طويلة، لم يكن الحيّ كما تركه. تغيّر كل شيء تقريبا، حتى الزقاق الذي كان يتردد فيه صدى ضحكاتهم، بدا كأنه كبر وتهالك دون أن ينتظر عودته. وقف أمام باب المدرسة القديمة، نفس الباب الخشبيّ المائل قليلا، كأنّه الشيخ الوحيد الذي ظلّ واقفا في وجه نسيان المدينة. تلمّس الجدار براحته، كأنه يقرأ ذاكرة منقوشة على الطوب، لا تُرى ولكن تُحسّ. تلك النُقوش لم تكن يوما كتاباتٍ، بل وجوها وأصواتا، وركضا وأحلاما صبيانية لم يكتب لها أن تكبر.
تنهّد وهو يتمتم في سره:
– المُقيَّدون بالذكرياتِ لا يخلون من الهمِّ أبدا، وأكثر الناسِ حُزنا وهما الذين يمتلكون ذكرياتٍ سيئة لا تُفارقهم حيث كانوا فيها أنقياء أبرياء؛ الذين لم يخطُر ببالهم يوما أن يكونوا فيها مُجرد صفحاتٍ باهتة وانطوت، أو غاية وانقضت، أو عابري سبيل!
ابتسم ابتسامة يابسة. كيف صار هو، الذي كان يوما روح المكان، غريبا عنه؟ أهو الغياب؟ أم أن الذكرى حين تطول تصبح وَهْما يُعاد تشكيله بألوان الحنين، لا كما كان، بل كما تمنّينا لو بقي؟
كل شيء بدا له كصورةٍ باهتة في ألبومٍ قديم، ألوانها مشوشة، لكنها تحتفظ برائحة زمنٍ لا يُشترى.
ولأول مرة منذ عاد، شعر محمد العربي أنّ ما عاد يبحث عنه لم يكن مكانا؛ بل نفسا كانت تسكن هذا الجسد قبل أن يُخنقها الرحيل والخذلان.لم يكن يتوقّع أن يصادف “المعلم حميدو” في ذات الرصيف، أمام الدكان العتيق الذي كان يُعرف بدكان “الطاهر”، حيث كانوا يشترون حلوى(جبان) ودفاتر النمر . لقد انحنى ظهر الرجل بفعل السنين، غير أنّ نظراته ظلت كما كانت، حادّة، نافذة، تُشعر مَن يلقاها بأنه طفل صغير قد ضُبط متلبّسا بالشرود.
قال بصوتٍ أبحّ أتعبه الزمن:
ــ “آه يا بني. لقد تغيّر كل شيء…”
ثم ابتسم، ابتسامة واهنة تحمل شيئا من الحنين، وأضاف وهو يُحدّق في ملامحه:
ــ “لكن عينيك ما زالتا تحملان بريق ذلك التلميذ الذي كتب ذات يوم على صدر دفتره: أريد أن أكون شيئا عظيما.”لم يجد محمد العربي ما يقول، فقد اختنق الكلام في حلقه. اكتفى بإيماءة صغيرة، كأنه يسلّم بأن الزمن لم يمنحه ما أراده، بل أخذه إلى حيث لا يشبهه.جلسا على مقعد إسمنتي بارد عند مدخل الزقاق، المقعد ذاته الذي كان يجلس عليه التلاميذ أيام الاستراحة. لكن المكان لم يكن كما كان. لا أصوات، لا كرة تتقاذفها الأقدام، ولا رائحة الطباشير التي كانت تعبق في أروقة المدرسة. كل شيء صار صامتا حتى الذاكرة. تأمّله المعلم طويلا، ثم قال بصوت منخفض كمن يقرأ عن ظهر قلب:
ــ “من يهاجر لا يفرّ من الوطن فقط، بل يفرّ من نفسه. غير أنّ النفس تسافر معنا، وتسكن في حقائبنا، ولا تدع ذكرياتنا تموت.”
كان محمد العربي يعلم ــ بل يشعر ــ أن الذكريات لا تموت، إنما تغيّر وجوهها وتختبئ في الأركان المعتمة من العقل، ثم تعود متى تراخت حراستنا.
وكأن صوتا خفيا داخله تمتم في أعماقه:
“قصرك عقلك، فاحفظ قصرك لا يدخله ثرثرة تبني شكلاً تغريك بأنك آية عصرك. فسفينتك في بحر لُجّي مظلم، والشكل زجاجي معتم “
لقد ظنّ في غربته هناك، في برشلونة، أن البحر كان الغربة.
لكنه اليوم فقط، في حضرة هذا الحيّ المنسي، أدرك أنّ الغرق الحقيقي بدأ حين عاد.