الصفة الغالبة في قصص سعادات الأمكنة المُضاعة للقاصّ الراحل باسم الشريف، هي بروز شِعريّة المكان؛ لا في أبعاده الفيزيقيّة الواقعيّة فحسب، بل في الأمكنة المهدَّدة بالانزياح أو الغياب أيضًا، المتحوّلة كالدخان والمنسكبة في صور بصريّة. باسم الشريف يكتب عن عوالم زائلة وعابرة، لكنها مُشعّة، يلامس بها حياة الأحلام بمعانٍ بالغة الرِّقّة، بعيدًا عمّا هو واقعيّ محض.
إنّ نصوصه حفريّاتٌ في اللاوعي المُهمل، واستدعاءٌ للأشياء بصورها الشبحيّة أو الماكرة، غير القابلة للإمساك تمامًا. إنّها تعقّبٌ لما ابتعد وتوارى واختبأ في طبقات الزمن، بأطيافه شبه المعتمة في الذاكرة. وأحيانًا يُوهِمُنا بتعقّب واقعةٍ ما، لكنها ما تلبث أن تتفلّت من سطوة التاريخ والزمن لتدخل في مسرودات الخيال ومخزون اللاوعي.
نصوصه أشبه بتجسّدات لغويّة مشبعة بذبذبات الروح وترسّباتها. إنّه يتلصّص على الحيوات والأشياء والأمكنة وتحولات الزمان، مبتعدًا عن نمطيّة الحاضر وثقله المتجهّم المملوء بالألم، لينفذ إلى ما وراء الوعي، إلى ما تبقّى من إشعاعات قيعان الذاكرة، مستخدمًا لغةً سرياليّة حافلة بالأصداء. تضيئها عبارات سحريّة، كأنّه يكتب من أعماق الأسرار الغامضة، محاولًا القبض على الخلاصات التي نلاحقها في الحلم، والتي طالما تملّصت منّا وراوغتنا.
إنّه يكتب عن أحداثٍ عابرة تَضمحِلّ وتتلاشى عند محاولة ملاحقة أثرها. إنّه كاتب حالم بامتياز، له لغته وأسلوبه وبلاغته. وهو سارد يعمد إلى الكتابة على نحو مختلف، بغية إيصال أقصى ما تنضح به رؤيته من معانٍ. فكلّ قصة صورةٌ لحلم، حلم يردّد كلمات الأمل بيقين صوفيّ.
نرى باسم الشريف مسكونًا بالتوق، بمزيج من الرغبة والذاكرة، في عشقه المزمن للمكان وما يسكنه من صور وذكريات وأفراح غابرة. إنّه ينقّب في اللاوعي لاستخلاص الصدى، للقبض على السرّ أو الجوهر الذي يحاول أن يأسره ويقطّره من أجل استعادة مدينة صباه وطفولته الضائعة في مياه الزمن. تلك المدينة تعود إليه محمّلة بإيحاءات وإيماءاتٍ أشدّ وقعًا في النفس، وأقدر على إثارة خواطرها، وهي عامرة بأناسها، بحضورهم وأطيافهم في نسيج حياتهم اليوميّة، بمشاهد تُحرّك أخيلة ما مضى وما سيأتي، مشاهد مشحونة بشاعريّة تتسرّب إلينا بسحرها الغامض.
يقول الشريف: «إنّك لا تعرف معنى أن تتحوّل مسارات حياتك إلى أعباقٍ ما زالت تضجّ بها الأشياء المُهملة».
هنا تبدو قصص باسم الشريف متميّزة بطاقةٍ إيحائيّة خلاّقة ونبرةٍ خاصّة حافلة بالأصداء. إنّه يكتب عن حياة الأحلام، يكتب عن الخلاصة عبر المعاني، مبتكرًا عالمه الضاجّ بالأرواح والأزمنة المعتّقة في الزوايا المعتمة، بالأحداث المضمحلّة والمتلاشية، بالروائح وحفيف الأشباح، بالذكريات المخبّأة، وأطياف الحبيبات، وغبار البيوت الواهنة، والشفرات والأصوات، والحروب المزمنة، والأولياء، والبحّارة، وكلّ ما يختزنه القلب ممّا لا يُحصى.
تلك كلّها شكّلت ينابيع لا تنضب لمخيّلته، حيث أجاد العزف عليها بقدرة ومتعة كبيرتين، تعبيرًا عن غواية الحبّ ولوعة الحنين، في سعيه إلى بلوغ رحاب أمكنته المضاعة، بوداعتها وسحرها ويقينيّاتها الصافية.