لا أكتب هنا دفاعًا عن أحد أو هجومًا على الآخر، بل أطرح تساؤلات تراودني منذ وقت طويل، وأسئلة تكبر معي وتزداد تعقيدًا مع مرور الزمن. سؤال يتكرر في ذهني حول معنى العيب والحرج الاجتماعي في موضوع بسيط وهو: من يلاحق من في الحب؟
في مجتمعاتنا، من المسلّم به أن الرجل حين يحب المرأة أو يرغب في الارتباط بها، له الحرية أو حتى المسؤولية أن يلاحقها، يستميل قلبها، يعبر عن مشاعره بلا خجل. هذا أمر يُضحك عليه الناس أحيانًا ويُعتبر ظريفًا، بل يُشاد به أحيانًا على أنه دليل حب حقيقي وصدق نية.
أما إذا كان العكس، والمرأة هي التي تُظهر اهتمامًا وتلاحق الرجل، فتصبح حينها وصمة عار وكأنها خالفت قوانين أخلاقية غير مكتوبة. هنا، تتحول نظرات الناس وتعابيرهم، وتبدأ الألسنة تتحدث عن العيب والحرج، بل وتُحكم أحكامًا مسبقة على المرأة بأنها “فاسدة” أو “متهورة” لمجرد أنها عبرت عن رغبتها أو مشاعرها.
هذا التمييز الغريب يجعلني أتساءل: لماذا العيب والعار مُرتبطان فقط بسلوك المرأة؟ ولماذا يعفي المجتمع الرجل من ذلك؟ أليست مشاعر الحب والتعبير عنها حقًا إنسانيًا للجميع، رجلاً كان أم امرأة؟ أليس من حق أي إنسان أن يعبر عن مشاعره بشجاعة وصدق دون خوف من الأحكام المجتمعية؟
وأكثر من ذلك، نحن نعلم أن المرأة في أغلب الأحيان لا تبدأ بالملاحقة إلا إذا كانت مشاعرها صادقة وارتبطت فعلاً بالرجل، وليست مجرد لعبة أو تسلية. لكنها تدفع ثمن تعبيرها عن هذه المشاعر وكأنها تخطت حدودًا لا ينبغي أن تتجاوزها.
أما الرجل، فعندما يلاحق المرأة، يُنظر إلى الأمر بعين مختلفة، وكأنه جزء طبيعي من دوره الاجتماعي، حتى وإن كان أحيانًا مضطربًا أو مزعجًا، فتجد النساء أنفسهن يضحكن أو يستهزئن، بل يتبادلن القصص عن “حب الرجال” وكأنها مسرحية طريفة، لا تحمل أي لوم.
هذا الانقسام في النظرة الاجتماعية يولد جرحًا عميقًا في نفسية المرأة، ويخلق حاجزًا يمنعها من التعبير عن مشاعرها بحرية. كما أنه يكرّس نمطًا قديمًا من العلاقات غير المتكافئة التي تمنح الرجل مساحة أوسع للتعبير والتحرك، بينما تحاصر المرأة في قفص الخجل والعيب.
المرأة التي تصرخ أو تعبر عن مشاعرها ليست مجرد حالة عاطفية عابرة، بل هي صرخة إنسان يريد أن يُسمع ويُفهم. عندما تلاحق المرأة الرجل أو تعبر عن ألمها، فهي تسعى لأن يرى في عينيه إنسانة كاملة، ليست بطلة خارقة أو امرأة بلا مشاعر. تريد أن يسمع بكاءها ولا يخنق صوتها، تريد أن تُعبر عن حزنها وخوفها، لا أن تُجبر على إخفاء دموعها خلف ابتسامة مزيفة أو ضحكة صامتة.
لكن كثيرًا ما يرفض الرجل هذا الجانب، يريدها أن تكون مصدر فرح دائم فقط، أن تضحك وتمرح، وكأنها لا تعاني ولا تشعر، وكأنها مجرد صورة جميلة تُعرض، لا إنسان يحمل في داخله كل هذا التعقيد. هذا الرفض هو سبب الصراخ المخفي، هو جرح يتعمق عندما تُنكر إنسانيتها، ويولد في قلبها رغبة أن يراها كما هي، بكل ضعفها وقوتها معًا.
هم لا يعرفون أن المرأة حين لا تجد من يفهمها… تصاب بالتهاب في حلقها!
تبتلع الكلام مرارًا، وتفكر كثيرًا…
تبكي بصمت، وتبتسم كثيرًا، حتى يجف صوتها داخليًا.
كان صوتي مبحوحًا لسنوات.
كلما حاولت أن أشرح، يساء فهمي.
كلما تحدثت، ضاع صوتي بين تفسيرات لا تشبهني.
كنت أصرخ داخليًا… وأصمت خارجيًا.
حتى جاءت الكتابة.
الكتابة التي سمعتني، وأنقذت حلقي من الاحتقان،
الكتابة التي جعلتني أتنفس.
هل حان الوقت لنراجع هذا المنطق ونفتح المجال لكل إنسان ليعبر عن مشاعره بصدق وشجاعة؟ هل نستطيع أن نحطم القيود التي تحصر المرأة في أدوار محددة وتجعلها تراقب خطواتها خوفًا من حكم المجتمع؟
الحب هو اتصال روحي وإنساني عميق، لا يجب أن يكون أسيرًا لأعراف تجعل أحد الطرفين خائفًا من أن يخطو خطوة أولى. وإذا أردنا بناء مجتمعات أكثر صحّة وتوازنًا، فعلينا أن نعطي مساحة متساوية للجميع ليعبروا عن حبهم دون وصمة أو تمييز.
في النهاية، لا فرق بين الرجل والمرأة في الرغبة في الحب أو التعبير عنه. ما نحتاجه هو احترام هذا الحق الإنساني للجميع، بعيدًا عن الأحكام التي تقيد القلوب وتكسر الأجنحة.