تُعدّ أحلام مستغانمي واحدة من أبرز الأصوات الأدبية التي أحدثت تحولًا نوعيًا في السرد العربي المعاصر، إذ تجاوزت في ثلاثيتها الشهيرة — ذاكرة الجسد (1993)، فوضى الحواس (1997)، وعابر سرير (2003) — حدود الشكل الروائي التقليدي لتؤسس لما يمكن تسميته بـ«الرواية الفكرية الشعرية». إنها تجربة أدبية تضع القارئ أمام نصٍّ لا يكتفي بسرد الحكاية، بل يشتبك مع قضايا الهوية والذاكرة والأنوثة والفكر من خلال لغة تتماهى مع الشعر بقدر ما تتحدى التصنيف الأدبي الصارم.
أولًا: بين الأجناس… الرواية التي ترفض الانتماء
يبدو أن مستغانمي كتبت رواياتها وهي واعية بمأزق التجنيس الأدبي في الأدب العربي الحديث، إذ يصعب وضع ثلاثيتها في خانة واحدة.
فـ ذاكرة الجسد، مثلًا، ليست رواية بالمعنى الكلاسيكي الذي يعتمد على تسلسل الأحداث وبناء الشخصيات، بل هي نصٌّ يكتب ذاته عبر الذاكرة أكثر مما يحكي قصة. اللغة فيها أقرب إلى القصيدة النثرية، والإيقاع الداخلي يعكس حسًّا شعريًا يهيمن على السرد.
تقول البطلة في أحد المقاطع: “نكتب لنقاوم النسيان، لأن النسيان موتٌ صغير.”
هذه العبارة تختصر جوهر إشكالية النص: فالرواية ليست حدثًا، بل مقاومة أدبية ضد المحو، وتتحول الكتابة إلى فعل وجودي أكثر منها ممارسة جمالية.
وبذلك، تنفتح ثلاثية مستغانمي على فضاء النص العابر للأنواع، حيث تتقاطع السيرة الذاتية بالتاريخ، والشعر بالفكر، والعاطفة بالتحليل الفلسفي. هذا التداخل بين الأجناس هو ما يجعل التجربة المستغانمية نصًّا مركّبًا، يرفض أن يُختزل في أي تصنيف نقدي جاهز.
ثانيًا: الفكر كأيقونة سردية – حين تتحول الفكرة إلى صورة
في عالم مستغانمي، الفكر لا يُقال، بل يُتجسّد.
الهوية والذاكرة والوطن ليست مفاهيم مجردة، بل شخصيات وأجساد وأصوات تنطق بالفلسفة عبر المعاناة.
الجزائر، في ذاكرة الجسد، ليست مجرد مكان تدور فيه الأحداث، بل تتحول إلى كيان رمزي، حبيب غائب، وجرح دائم. فخالد بن طوبال، الرسام الذي فقد ذراعه في حرب التحرير، يصبح تجسيدًا لجسد الوطن المبتور الذي يواصل الحياة رغم الفقد.
وفي فوضى الحواس، يتحول الجسد الأنثوي إلى مساحة فكرية مفتوحة على الأسئلة الكبرى: ما معنى الحضور؟ ما حدود الحرية؟ ما جدوى الكتابة؟
هنا، الأنوثة ليست جسدًا فحسب، بل لغة ثانية للكتابة والفكر. مستغانمي تكتب الجسد كذاكرة بديلة عن الوطن، وكأداة لمساءلة الذات والمجتمع في آنٍ واحد.
أما في عابر سرير، فتبلغ هذه الفلسفة ذروتها، إذ تتأمل الكاتبة فعل الكتابة ذاته:
من يكتب من؟ الكاتب أم النص؟ المرأة أم الذاكرة؟
وهكذا تصبح الكتابة في حد ذاتها أيقونة فكرية، تُسائل الحقيقة وتعيد إنتاجها جماليًا.
ثالثًا: الذات الكاتبة… من الحنين إلى التأمل
لا يمكن الحديث عن تجربة مستغانمي دون التوقف عند تأملات الذات الأنثوية في نصوصها.
الذات هنا ليست محايدة، بل مشبعة بالوجع، بالحب، بالحنين، وبالتمرّد في الوقت نفسه. إنها ذات تكتب لتستعيد صوتها وسط تاريخ كتبه الرجال.
في مقاطع كثيرة، تتحول البطلة إلى كاتبة داخل النص، تروي، وتكتب، وتعيد بناء الحكاية من منظورها الخاص. هذا الحضور المزدوج — الكاتبة داخل الرواية والكاتبة خارجها — يمنح النص بعدًا ميتاسرديًا، أي أن الكتابة تصبح موضوعًا للكتابة ذاتها.
تبدو هذه التقنية جلية في فوضى الحواس حين تلتبس الحدود بين ما هو متخيل وما هو واقعي، وبين الكاتبة وشخصياتها. وكأن مستغانمي تقول:
“كل كتابة هي سيرة ذاتية مستترة، وكل حكاية حب هي وجه آخر من وجوه الذاكرة.”
هكذا تتجسد الذات الأنثوية المفكّرة في ثلاثيتها كقوة خلاقة، لا كموضوع سردي فحسب. إنها كاتبة تكتب لتفكر، وتفكر لتوجد.
رابعًا: خلاصة فكرية وجمالية
ما يميز ثلاثية أحلام مستغانمي ليس فقط لغتها الشعرية الباذخة أو شجاعتها في اقتحام المسكوت عنه، بل قدرتها على تحويل الأدب إلى مختبر فكري وجمالي.
فهي تُعيد تعريف مفاهيم مثل الرواية، الذاكرة، الوطن، والأنوثة، وتجعل من كل واحد منها مساحة تأمل فلسفي عبر الفن.
يمكن القول إن مستغانمي أسست لخطاب جديد في الأدب العربي المعاصر — خطاب الأنثى المفكرة التي تكتب العالم بلغة الوجدان والعقل معًا، وتعيد الاعتبار للكلمة كفعل مقاومة وجمال.
خاتمة
ثلاثية أحلام مستغانمي ليست مجرد حكايات عن الحب أو الوطن، بل هي مشروع فكر أدبي يستكشف الذاكرة عبر اللغة، والهوية عبر الجسد، والوطن عبر الكتابة.
لقد صنعت من النص أيقونة فكرية، ومن الكلمة وطنًا، ومن الذات سؤالًا لا ينتهي.
بهذا المعنى، لا يمكن أن تُقرأ مستغانمي كروائية فقط، بل كفيلسوفة تكتب بالرواية، وشاعرة تفكر بالكلمات.