واليوم سقط محمد ابن أبي جمال على الأرض في شارع السعادة، وتجمعت حوله العيون كما في كل مرة، وتناوبت على رفعه عن الأرض وحمله إلى الظل أيدي الباعة والمارين كما في كل مرة، وانتشرت في الفضاء عبارات الإشفاق والتعاطف كما في كل مرة، ولكنه اليوم لم يصحُ في الشارع على صوت حائر يهزه ويرشه بالماء كما في كل مرة، اليوم وجد نفسه في المستشفى محاطا بعدد كبير من الأطباء الذين التفوا حوله، فانشغل بعضهم بتفحص يديه ورجليه، وانهمك بعضهم بتفحص عينيه وأنفه وأذنيه، وسارع بعضهم لوضع نوابض ومجسات على صدره وبطنه، وبقي أكثرهم ينظر إلى محمد ابن أبي جمال وكأنه ينظر إلى شيء نادر مبهر.
قال طبيب وعلى وجهه علامات الخوف: بعد قليل سيصحو، أدعو الله أن يوقِّع، وألا يغلبنا معه.
ولم يكد يفتح محمد عينيه حتى استقبلته عيون فرحة، ووجوه متهللة رسمتْ عليها ابتسامات واسعة فضفاضة متكلفة، وقالت بأصوات متداخلة: حمدا لله على سلامتك.
بعث محمد ابن أبي جمال عينيه في المكان، تلفت يمنة ويسرة، ثم سأل بخوف وقلق: أغراض البيت، الرز والسكر والبيض والبطاطا والخيار والفاصولياء والخبز؟
أجابت إحدى الممرضات بهدوء ورقة:” أغراضك كلها عندنا، لا تخف!
نظر محمد ابن أبي جمال باستغراب وقلق وارتباك إلى الممرضة وإلى الطبيب الذي سارع لوضع السماعة على صدر ابن أبي جمال المضطرب وسأل متعجبا: من أحضرني إلى هنا، سقطت على الأرض أكثر من مرة هذا الشهر، وفي كل مرة كنت أسقط فيها على الأرض كانوا يرسلونني إلى البيت، أو يدخلونني إلى محل أو دكان، ويحضرون لي العصير والماء، وأعود كالحصان، فلم المستشفى اليوم؟!
الطبيب بتحبب وهو يزرع ابتسامة على وجهه: احضروا له العصير والماء، والطعام.
دخل عامل بثوبه الأنيق وهو يدفع عربة عليها ما لذ وطاب.
رفع محمد ابن أبي جمال جسده بصعوبة، وشرع بالتهام الطعام والعيون تراقبه بابتسامات واسعة متكلفة.
الطبيب بهدوء وبرقة: أنا طلبت منهم أن يقدموا لك أفضل رعاية وعناية. يا أستاذ محمد!
توقف محمد ابن أبي جمال عن التهام الطعام، وكأن أفعى لدغته: “من أين سأدفع لهذا المستشفى، هل سيقبلون بدمي مقابل هذا الدلال، وهذا الطبيب كيف يعرف اسمي؟! لعله أحد طلابي، أو لعل أحد زبائني حدثه عني، أو لعل مدير بنك الدم هو من خبره عني، ولكن كيف سأدفع لهم، وأنا لا أملك دينارا واحدا، وبلا عمل، وتنتظرني في البيت أفواه جائعة زغب الحواصل لا ماء ولا شجر؟، سأهرب من المشفى الليلة، الهرب من المستشفيات سهل جدا، لكن أغراض البيت؟!”
حاول محمد ابن أبي جمال أن يرفع جسده ليقول للطبيب إنه لا يملك المال، لكن الطبيب مشى خطوات نحو السرير الذي يحتضن محمد بدفء، وقال له بثقة: أعرف ما ستقوله كله. نحن سنتكفل بذلك، فلا تشغل بالك، ارتح واسترح وتعاعفَ. ثم سحب سجلا من جيب السرير، كتب عليه مجموعة من العبارات، وقال بنبرة جادة وهو يناوله للممرضة الواقفة بثبات وترقب إلى جانبه: “تابعي حالته، إن بقيت علاماته الحيوية على حالها، أو ضمن هذا المعدل حتى الساعة الواحدة، فأخرجوه من الــ ـicu”.
طن محمد ابن أبي جمال بفيه وهو يحدث نفسه “هل سأبقى يوما آخر في المستشفى، ومن سيطعم أولادي؟ إن كان يريد أن أتبرع له، فلن أقبل بأقل من خمسين دينارا، هو طبيب، والأطباء أغنياء، معهم مصاري كثير، هو ليس موظفا كعلي الخالد لآخذ منه خمسة دنانير وعلبة عصير، ولا كمحمود سعيد الذي أعطاني عشرين دينارا وطبق بيض، وكيلو رز الشهر الماضي، ولا كسعاد وسلمى اللتين تبرعت لهما اليوم، هو غني لن أقبل بأقل من خمسين دينارا، وأنا بخير، أكلت وشربت ما يكفي جملا وحصانين، فلم سأبقى، سأحمل أغراضي وأغادر؟!”
حاول محمد ابن ألي جمال النهوض من السرير فسارعت الممرضة لمنعه:
“أستاذ محمد، أنت لازم ترتاح، أنا هون، اطلب، وأنا سأحضر لك ما تريده.
محمد ابن أبي جمال للممرضة بصوت مرتعش: “يا رب البيضات ما تكسرن، شكلها وقعتي قوية؟”
الممرضة بابتسامة شفيفة: لا ما تكسرن، أنا تفقدتهن كلهن سليمات؟
محمد بتودد: والأكياس والأغراض، أينها؟
– “أكيد أنت بتعرف أنك في العناية الحثيثة؟ لكن اطمئن، أغراضك كلها ستكون في غرفتك لما تخرج من هنا”.
محمد محاولا جمع شتيت أفكاره: ” سأحملها وأهرب، لن أبقى، فالأغراض كلها في الغرفة البطاطا والبندورة والخيار والفاصولياء، والرز، وربطة الخبز، وطبق البيض واللحم! نسيت إن كنت اشتريت اللحم أم لا، سعاد أعطتني عشرة دنانير، وسلمى أعطتني عشرة، هل اشتريت اللحم يا محمد؟”
– لو سمحت، في مع أغراضي كيس لحم عجل فرمة خشنة؟
الممرضة بابتسامة: نعم رأيته، وهو مع بقية الأغراض في الحفظ والصون.
رافق محمد ابن ابي جمال إلى الغرفة في قسم باطنية الرجال طبيبان وممرضتان, وضعوه بترفق على السرير، فعاجلهم بسؤال قلق خائف عن أغراضه: قلتم لي إني سأجد أغراضي؛ البطاطا والبندورة والخيار والفاصولياء، وطبق البيض، وكيس الرز ، وكيلو لحم العجل الفرمة خشنة في الغرفة، لكني لا أراها؟!”
صوت مفجوع في الممر: ” دبروا وحدة دم بأي طريقة، وبأي ثمن”
تهتز مسامات جسد محمد ابن أبي جمال يريد أن يقوم، ويعرض دمه
الطبيب بجد وصرامة: أستاذ محمد، أنت تعرف أن قوة دمك أربع ونصف، ودمك ذهبي، يعني نادر جدا، هو من النوع الذي يعطي ولا يأخذ إلا من فصيلته بسبب الـRh.
“هو مهتم بـ Rh إذن، وأولادي لم يأكلوا منذ يومين؟!”
انتفض محمد ابن أبي جمال، وهمّ بالنهوض من السرير، حرّك جسده، رفع رأسه، لكن ثقلًا في رأسه، ووهنًا في أطرافه منعاه، فكاد يقع عن السرير.
فسارعت الممرضة لإسناده: “أستاذ، لازم تظل مرتاح، دمك أربع ونص!”.
محمد ابن أبي جمال بغضب: “يا سيستر، أولادي رح يفطسوا من الجوع، أعملي معروف، وأحضري لي الأغراض، لأغادر، أرجوك!”.
الممرضة بتودد: “أستاذ محمد، لازم تعرف أنك في خطر، لا يمكن أن تعيش بدم قوته أربع ونص، أنت جربت أن تقف، وما قدرت!”.
” معها حق، أنا ما قدرت أرفع راسي حتى، ولكن أولادي، واللحمة رح تخرب”.
– يا سيستر، والله أنا ما معي…
دخل الطبيب بوجه باسم، قال وهو يضع السماعة على صدر ابن أبي جمال: أستاذ محمد، سلامات سلامات! اليوم سنوصل أغراضك كلها، وسنتكفل بأولادك طيلة إقامتك عندنا!
أصارحك أستاذ محمد، أنت تحتاج إلى رعاية خاصة وطعام خاص لمدة طويلة ليتعافى دمك.
محمد ابن أبي جمال بصوت ضعيف خافت: ولكن يا دكتور…
الطبيب بصوت جاد حازم: “أعرف الأسئلة التي في بالك كلها، نحن لا نطلب منك شيئا، نريد أن تبقى عندنا لنجري على دمك بعض الفحوصات والدراسات وبس”.
محمد ابن أبي جمال باستغراب: ولكن!
– من غير لكن، نحن سنعطيك في كل شهر مائتي دينار.
“فكر محمد ابن أبي جمال: “هذا سعر جديد، أفضل بكثير من مما يدفع لي، يعني الوحدة بمئتي دينار، أوه ستكفيني لشراء أغراض البيت كلها”.
محمد ابن أبي جمال من غير تردد: أوافق
الطبيب بفرح يخرج ورقة، ويعطيها لمحمد ابن أبي جمال: وقّع هنا وهنا وهنا.
وضع محمد ابن أبي جمال الورقة على طاولة الطعام أمامه، قرأ:
اليوم: الخميس الموافق: 1/1/2025
أنا الموقع أدناه محمد ابن أبي جمال لا مانع عندي من إجراء فحوص مخبرية وسريرية وأخذ عينات أو وحدات دم من ابني سعد السعود ومن ابنتي سعدة السعود متى احتاجت اللجنة العلمية إلى ذلك خلال سنة من تاريخ توقيع العقد.
– “سيستر، سيستر، وين أغراضي؟”