كان صقيع النوم الذي يحيط بزوجته عبارة عن آلية دفاع تشكّلت على مدى سنين. لم يكن الأمر بسيطًا؛ فالمضاجعة بالنسبة لها لم تعد مصدر متعة أو اتصال، بل كانت تذكرة مؤلمة ، لقد ارتبطت العلاقة الحميمية في ذهنها بـوظيفة إلأنجاب أكثر من الغريزة المتجددة ، كانت حياتها فيما مضى تدور حول ضجيج الأبناء، تربيتهم، وتلبية احتياجاتهم. كانوا كأنّهم محور أوذريعة للأستمرار على ذات المنوال .
“الآن، بعد أن انفضّ العشّ، وذهب كلّ منهم في طريق، وجدت نفسها فجأة أمام رجل غريب لم تعد تعرفه، تحوّلت الغرفة إلى مقبرة للذاكرة المشتركة، وأصبحت المطالبة بالجسد إشارة إلى رغبة في العودة إلى زمن مضى، زمن كانت فيه مهمتها واضحة. الآن، بلا أولاد تنشغل بهم ، لم يبقَ أمامها سوى برودها لتحتمي به من مواجهة الفراغ الكبير الذي خلفوه.”
لكن مع سنين الإهمال العاطفي ، تحوّل التعب إلى موقف، والبرود إلى انتقام صامت. لم تعد لديها الرغبة في بذل الجهد لإيقاظ غريزة أصبحت نائمة، تشعر دائمًا بأن جسدها لم يكن سوى أداة للنوع، وليس مصدرًا للبهجة الشخصية في هذا الزواج.”
“بمجرد أن تنام مبكرًا، تاركة إياه أسير صمتها، يظل هو يتجوّل في الطبقة الأرضية، رفيقاً لوحدته ، لم تكن زوجته تتوافق معه في الرغبة، بل تراه عبئًا إضافيًا لم يعد يشاركها إلا الجدران الصامتة. لذا، اختارت النوم. النوم العميق كسلوك للهروب السحري الذي يشبه الموت ، والأستمرار بعدم المبالاة لحسرته وحرمانه.
امس بعد منتصف الليل سمع مواءالقطّة يمزّق هدوء الممر الخلفي. أشفق عليها، ليس لبرد الشتاء الذي كان يلوح من بعيد، بل للحسرة التي ارتسمت في نبرة المواء ذاتها. فتح لها الباب.
راقبها بنوع من الدهشة الممزوجة بالغيرة. شاهد رقصتها الغريزية على الأرض: تقلبّها المضطرب على جانبيها، تدحرجها الشبيه بحركة موجة شهوانية صغيرة، ثم لعقها المتواصل والمحموم لمناطق محددة من جسدها. كانت ترفع نصف جسدها الخلفي برشاقة جنونية، مضطربة، وكأن نارًا خفية تشعل فروها.
لم يكن خفيًا عليه؛ هذا الهياج النّاري، هذه الحاجة للتزاوج التي تحرّك الكون وتدفعه للاستمرار، كانت تتدفق من عروقها الصغيرة، صادقة ومُعلنة دون خجل أو قيد.
انقلب المشهد في داخله إلى مرآة. لقد أصابته الحسرة، ذلك الشعور الثقيل الذي يغمر الروح عندما يرى الإنسان سهولة وبساطة تلبية غريزة عند كائن آخر، بينما تبقى غريزته هو محبوسة، مُكبّلة بقيود الروتين والفراغ المنزلي.
كان الضحى قد بدأ يصبّ خيوطه الذهبية المتربة عبر زجاج المطبخ، يرسم شرائط متعرجة على بلاط الأرضية ، هناك، في تلك البقعة المضيئة، يتجسّد الفراغ.
يجول ببصره بين المشهدين اللذين يختصران عالمه: النافذة الزجاجية المطلّة على الشارع الصاخب من جهة، والسّلم الخشبي الثقيل المؤدّي إلى غرفة النوم حيث تنام زوجته في جهة اخرى ، الأولاد الّذين كانوا كالطيوريحومون حولهما ، نفضوا ريشهم اليوم وذهب كل منهم في سبيله، تاركين وراءهم الصمت وكثافة الشعور بالاغتراب ، يتضوّر ابوهم من جوعين ، جوع معدته وجوعه الخفيّ الذي ينهش وحدة الليل الطويلة التي لاتنقضي وهو يتجوّل في الطبقة الأرضية، بينما هي تنسحب إلى سريرها مبكرًا، تاركة إياه وحيدًا كحارس منسي في قلعة مهجورة.
يعاود تصويب بصره إلى برميل القمامة امام المطبخ. وفي حركة مفاجئة قطعت شريط أفكاره، شاهدها تقفز خلف هرٍ سمين ابقع بحركة خاطفة من قمة البرميل إلى قاعه ،عندها تذكر زوجته ، شعر أن صفعة خفية أصابته في منتصف كرامته ، ارتفعت الغيرة المريرة في حلقه. كيف لكائن بهذا الصغر أن يكون صادقًا إلى هذا الحد مع غريزته؟ لقد شاهد عريها الكامل وهي ترفع نصف جسدها، تطلب، وتتألم، وتستعرض حاجتها بلا قيد.
إما هو… فإنّه يقف خلف زجاج النافذة، مثل شبح، يراقب العالم، لكنه عاجز عن مجرد الإشارة إلى جوعه. حاجته، التي هي جزء من نفس القانون الذي يحكم الجميع ، في اللحظة التي قفزت فيها القطة بعد مضي برهة من الزّمن قفزتها الخاطفة من برميل القمامة، هابطة على الأرض وكأنها تخلَّصت للتو من نوبة حمّى ، شعر هو أن أغلاله أصبحت أكثر إحكامًا. لقد سعت القطة ونالت، أو على الأقل أعلنت، بينما ظلّ هو أسير حسرته، سجينًا في جسد رجل غريزته موصومة بالصمت مع امرأة اختارت النوم مبكراً.
صياغة سلسة وفكرة رائعة بمعالجتها
تكرم دوما