( تمكنت الكاتبة لامية عويسات من التوغل عميقا بالنصين، كاشفة ما وراء سطورهما من اثارة للدهشة وثيمات فلسفية..ولقد وجدتني بعد سبع سنوات من الانقطاع اقلص الزمن بين انبثاق فكرة شعرية وانجازها قصيدة،ولعل السبب في ذلك ليس طول زمن الاختمار بل نضوج الادوات التي طورتها الادوات السردية..فخلال تلك السنوات السبع التي لم اكتب فيها قصيدة ولم اقلق لاني هجرت الشعر ،فانجزت 3 روايات ومجموعتين قصصيتين وعشرات الكتب ،نضجت ادوات فنية ساعدت في التسارع بين شرارة الفكرة وكتابتها شعرا..ما ادى لاصدار دواوين عدة تميزت بالموضوعية بفترة قياسية..كاظم حسن سعيد / العراق/ 2025)
ثمة لحظة لا تحتاج إلى صراخ من المؤرخين ولا مقصلة للزمن كي تعلن انقلابها؛ لحظة صغيرة متوارية عند آخر الزقاق، لكنها تحمل خرائط المستقبل كلّه.
هناك؛ حيث يتربّص الغبار بالحجارة، ويشيخ الكارتون على الأرصفة تنهض محاكاة بديلة للحرب، يكشفها الاستاذ كاظم حسن سعيد في نصه بذكاء شعري ورؤية لا تخفى عنها مسارب الروح.
إن نصّ «حروب المستقبل» لا يروي مشهدا عابرا من لعب الصغار، بل يفتح الكوّة على فلسفة جديدة للعنف:
كيف ينتقل البشر من شهوة الدم إلى بساطة الانسحاب؟
كيف يعلّمنا الأطفال ما فشلت فيه إمبراطوريات كاملة؟
وكيف يصبح اللعب لا الحرب هو معيار الشجاعة؟
هذه الأسئلة تنبثق من نسيج النص نفسه، من هدوء لغته ومن الطريقة التي يعامل بها الكاتب حدثا صغيرا بوصفه نبوءة كونية.
في بناءه المشهدي، يتحوّل الزقاق إلى مختبر للإنسان
حيث افتتح الكاتب نصّه بمشهد شديد الاقتصاد لكنه واضح المعالم: حين قال “جيشان من الصغار يتقاتلان متواجهين… خلف ساتر من الكارتون… في أيديهم بنادق من خشب”
إنه لا يصف أطفالا؛ بل يصنع نسخة مبسّطة من جيوش الإنسانية، كأنهم ظلال مصغّرة لما ستصير إليه الأمم إن اختارت العقل بدل الدم.
وهنا تتبدّى جمالية الاستعاضة: الكارتون بدل الساتر الترابي
الخشب بدل الحديد
الحجر بدل القذائف.
كأن الكاتب يهتف بدهشة خافتة:
كل الحرب؛ في أصلها لعبة سيئة الاختراع!
هذه المشاهد ليست مجرد وصف؛ إنها بنية رمزية تشيد العالم على هيئة سؤال.
ثم ينزع بنا إلى المفارقة حيث الحرب التي لا تقتل أحدا!
فكانت أقوى ما في النص تلك التناقضات التي يمسك بها الكاتب بإحكام:
“بلا إصابات… بلا دمع على القتلى… لن يفكروا بإنشاء مقابر”
هذه المفارقة ليست تقنية جمالية فقط؛ إنها نقضٌ عميق لفلسفة الحرب: فالحرب في الموروث كما يقول ابن خلدون “أعظم ما يحتاج الناس إليه لدفع بعضهم عن بعض”
لكن الكاتب يعيد صياغة هذا المبدأ: في أن العنف ليس ضرورة بل عادة.
والقتال ليس مصيرا، بل خيارا يمكن إيقافه بنهي عابر من عابر سبيل.
إنها إعادة كتابة للتاريخ، لا من أعلى برج عاجي بل من عمق الزقاق.
الرؤية الوجودية؛ حيث اللعب ضد القدر: في اللحظة التي ينسحب فيها أحد الجيشين، بعد تحذير بسيط ينقلب النص:
يقول أ.كاظم حسن “قال أحد الجنود الصغار لعدوهم المنسحب: ألا تقاتلون؟ قال: اكتفينا”
هذه الجملة بمنطوقها الهادئ تفعل ما لم تفعله بيانات الأمم المتحدة:
إنها تسحب المشروعية الوجودية من الحرب.
إذ ليست الشجاعة في الإصرار على القتل، بل في القدرة على قول: نكتفي.
وهنا يقترب النص من تأملات “كامو” في أن “الإنسان المتمرّد” حين يقول إن التمرّد الحقيقي هو رفض العبث لا الانغماس فيه.
فالطفل في النص يمارس تمرّدا صامتا:
يرفض العبث، وينسحب إلى لعبة أخرى “أكثر جدوى وأكثر تسلية”
هذه ليست سذاجة طفولية؛ إنها حدس وجودي: أن العالم يمكن إعادة اختراعه ببساطة.
اللغة في نصه؛ سلسة سلاسة الماء وقسوة الفكرة، اعتمدت ثلاث سمات واضحة:
الانسيابية: فكانت الجمل متلاحقة، بلا نتوءات بلا استعراض، لكنها محمّلة بالإيحاء، مثل ماء يسيل على حجر، يلمّع ولا يصرخ.
الشاعرية المختبئة في النثر: إذ لاحظ كيف يزرع الكاتب صورا دقيقة باحتيال أنيق كأنها تنتمي لقصيدة: “علامات حلوى على السواتر”
“لا ثكالى… بلا ندبات في الأرواح”
“انسحاب لما هو أجدى وأكثر تسلية”
هذه الصور خلقت ما يسميه “فاليري” “المعنى الموجي” للكلمات أي ذلك المعنى الذي لا يقال بل نشعر به
اقتصاد اللغة البارع والتعبير: إذ لا تجد في النص كلمة زائدة، كل جملة تشبه حجرا يُلقى في بئر عميقة.
ومن منظور تداولي، النص لا يحكي فقط؛ بل يربي
يفكر
ويجادل.
إنه يقدّم اقتراحا للعالم: مستقبل الحروب لن يكون دمويا بل لحظيا:
لا خنادق
لا شهداء
ولا أوطان تُيتّم.
فالأطفال بحسب صاحب النص سيقررون أن الملعب أهمّ من المعركة.
بهذا يصبح النص بيانا مضادا للعنف
لكن دون الشعارات؛
بل برؤية أكثر رهافة:
الحرب ستصبح بلا معنى حين يكتشف اللاعبون لعبة أفضل.
حين كتب الأستاذ كاظم حسن سعيد نصه أعلن نهاية عصر الدم: إن “حروب المستقبل” ليس مجرد سرد عن أطفال، بل هو وثيقة شعرية تحاول إعادة صياغة المصير الإنساني.
النص يحمل ما يشبه التوقيع الأخير على عهد قديم: ” لن تكون الحرب قدرا أبديا”
سيأتي زمن تقاتل فيه الشعوب دقائق ثم تنسحب، لا طاعة لجنرال، ولا صراخ لحدود، بل نزوع طفولي نحو اللعب والفرح.
إنه وبإبداع نص يضمر إيمانا عميقا بأن العالم لا يُصلحه الحكماء، بل الأطفال حين يقررون أن المتعة أجمل من الموت.
……….
يكتب النص من منطقة حسّاسة تقع بين نوستالجيا الطفولة وحدس الزوال؛ بين لحظتين تبدوان بسيطتين لكنهما تتّسعان لتغدو كلٌّ منهما عدسة كاشفة لمعنى الإنسان وهو يعبر الزمن، وكأن النصّ يقدّم درسا هادئا في الفلسفة: لحظة عابرة قد تُعادل كونا كاملا من الدلالات، وأن ما يبدو “تفصيلا يوميا صغيرا” ليس إلا نافذة على ما نسمّيه بـ”الجوهر الخفي للحياة اليومية”
النصّ يشتغل على جمالية الالتقاط: التقاط الحركة الصغيرة، اللهفة العابرة، البنت التي تشدّ حجابها الأبيض، والطفلة التي تربح لعبة أصابع؛ ليثبت أنّ الشعر موجود في الحشود الصغيرة لا في الملاحم.
النص بني على لحظتين:
لحظة الصائمين قبل المغرب
ولحظة الصغار عند انتهاء الدوام المدرسي
هاتان اللحظتان تتكرران في ذاكرة السارد “عقودا”، وهذه الاستمرارية تمنحهما قيمة طقسية لا لحظية فقط، لكن النص ينقلب فجأة نحو دهشة جديدة: لحظة وصف البنات الصغيرات، وكأن الزمن لا يعيد نفسه، بل يتحوّل ويتجدّد ويتقشّر.
هذه البنية تجعل النص أقرب إلى ما يسمّيه النقد البنيوي بـ “التكرار المتحوّل”: الشيء نفسه لا يعود نفسه أبدا لأن الإنسان الذي يراه لم يعد ذاته.
كما انه اعتمد جمالية اللقطة حين تقدم النص ككاميرا:
قوله: “يتقافز الطلاب”
“بعضهن يسحنها بعربات”
“بعض منشغلات بتعديل حجاب أبيض”
“يقفن جواري خمس صغيرات”
كلها لقطات سينمائية تكوّن مشهدا شديد الحيوية، لكنه مشهد مشحون بما هو أكبر من الحركة: إنه مشهد يحمل الخلفية العاطفية والثقافية والاجتماعية كاملة، دون تصريح مباشر.
هذا ما يجعل النص يندرج ضمن أسلوب الاقتصاد الجمالي الذي يميّز نصوص الاستاذ كاظم حسن سعيد عادة: صورة صغيرة تحمل معنى كبيرا.
النص يقدّم “التحرّر” كمعنى وجودي في أبسط صور الحياة: حيث الصائم يركض نحو الفطر
الطفل يركض نحو البيت
هذه ليست لهفة جسد فقط، بل رغبة فطرية في العودة إلى الأمان، هنا يشتغل النص على ما يسميه “هايدغر” الوجود اليومي: تلك اللحظات التي تبدو بلا معنى، لكنها تحمل جوهر الإنسان.
تندرج صورة “البداية قبل الفساد” في الطفلات الخمس، حين يصف الكاتب لعبة الأصابع:
الفائزة تفرح
الخاسرة لا تتكدّر
في جملة عظيمة، تشير إلى لحظة ما قبل الولادة الأخلاقية، ما قبل أن يعلّم العالم الأطفال معنى الإحباط والحسد والخسارة الكبرى.
هنا يتحوّل النص من وصف مشهدي إلى تأمّل وجودي في البراءة الأولى، قبل أن “تتجمد الأفراح” كما يقول.
ثم يقول النص:
“وسيكشفن أنّ المعرفة لا تكفي وحدها وأن الآيات لا تنقذ من الانحدار”. كخروج صريح إلى فضاء فلسفي وجودي ثقيل، حيث المعرفة ليست خلاصا بل اختبارا، النص هنا يلتقي مع مقولات أدونيس والمعري والوجوديين جميعا: تحت ظل أن المعرفة لا تنجي، بل تفتح أبواب القلق.
النص يعري اجتماعيا: هشاشة الأسرة (صرخات الأمهات)
ثقل المدرسة
ضيق الشوارع
أعباء الطفولة
لكنّ النقد ليس احتجاجا مباشرا، بل يأتي عبر المشهد ذاته بوصفه حجة.
—
ثم يشتغل على البعد النفسي في انتقالات دقيقة:
اللهفة_ الفرح _ السعادة
ثم: المعرفة _ النكبات _ تجمّد الأفراح
هذه الحركة النفسية تعكس مسار الإنسان نفسه: من اللعب إلى الوعي، ومن الوعي إلى القلق.
كالعادة متميز بلغة بسيطة لكنها عميقة
كل جملة مشحونة بإيحاء يتجاوز ظاهرها.
إيقاع هادئ، غير متعمد كما في: “عقودا أراقب المشهدين” و “هي أقصى لحظات التحرر”
كما اعتمد صورا ذات بساطة خاطفة
“حجاب أبيض”
“حقائب ثقيلة”
“لعبة أصابع”
صور بصرية لا تُبنى للتزيين، بل لإيقاظ الذاكرة المشتركة.
أما عن نقاط القوة وما تميز به فكان العمق التأويلي خلف بساطة المشهد.
التماهي بين السرد والتأمل دون أي كسر.
بنية مشاهدية رشيقة قادرة على حمل معنى ثقيل.
حضور الإنسان ككائن هش ومتغيّر.
قدرة النص على تحويل اليوميّ إلى حقل دلالي شاسع.
في حين كانت بعض الجمل يمكن شدّها أكثر لتكون أكثر تكثيفا كالفقرة الأخيرة من نصه.
وكذا الانتقال من اللحظتين الأولى والثانية إلى مشهد البنات بدا مفاجئا قليلا ما خلق بعض الربكة، ويمكن للكاتب ربطه عبر جملة وصل تتّسق مع إيقاع النص.
رغم ذلك النص في جوهره ليس “لحظتين” بل هو زمن كامل يُختصر في لحظة.
لحظة تنبعث فيها الحياة في أقصى درجاتها، قبل أن تهجم المعرفة وتشيخ البساطة ويثقل الوعي.
إنه نصّ يلمس ما هو أعمق من الحدث: يلمس البرهة التي يستعيد فيها الإنسان معنى وجوده.