ليست هي المرة الاولى التي اكتب فيها عن صديقي الشاعر سعدون البهادلي، فهي هي المرة الخامسة او اكثر التي اتناول فيها موضوع البهادلي لانه يشكل بحق “مصيبة” وطن، هذا الرجل العصامي والشاعر الانسان الذي لم يستسلم لمأساة أصابته في العظم (كما يقول العراقيون) فقد فقد ساقيه، وعينه، ولم يبق الا 50 بالمائة من عينه الاخرى الا انه يخرج صباح كل يوم طلباً للرزق الحلال يجلس على الرصيف ليبيع ملابس اشتراها من تاجر لا اظن أنه تساهل معه، في البرد والمطر تراه جالساً راضياً بقدره غير مستسلم لاعاقته وهو لا يرجو من مسؤول “مكرمة” لانه وبصراحة يريد ان يدخل جيبه فلس حلال، وهو لم ينس من وقف معه في محنته ويذكر الزميل ابراهيم الخياط بكل فخر ويقول ان موقفه لا يمكن ان ينسى الا ان الخياط اصطدم بجدار الروتين الحكومي وقوّض مسعاه.
من العيب أن تجد في بصرة الخير شاعراً يجلس في العراء طلبا للرزق فيما توفر بلدان العالم لمواطنيها الاصحاء الحياة الكريمة، من العيب ان تجد في المدينة التي اكل من خيرها الكثير شاعراً يحمل آلامه دون أن يشعر به مسؤول، لا اريد ان اذكر المسؤولين بالحديث الشريف: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” أية مسؤولية تلك التي تجعل الرعية يتلوون ألماً بينما ينام الاخرون في أسرّة الرخاء.
سبق لي ان قدمت البهادلي في برنامج عين ثالثة من اذاعة العراق الحر، وهنا أنشر ما كنت كتبته عنه في عام 2012 ولا انوي من تكرار النشر الا لتذكير المسؤولين بقضيته: (في ركن غير بعيد عن القاعة التي ينظم فيها كل عام مهرجان المربد الشعري يفترش شاعر عراقي الرصيف ليبيع قمصانا وبنطلونات وكأنه يريد ان يستر مجتمعاً لم يبادر الى ستر عائلته وتلبية احتياجاتها.. هذا الرجل يجلس صامتاً مسلماً بما كتبه الله له، غير قادر على دفع مطالبات افراد الشرطة باخلاء المكان، ومتحملا كل اهانات السوق ليصبها بعد حين في اوراقه قصائد تشكي لوعته في زمن لم ينصفه.
بالرغم من ان صداقتي معه تمتد الى اكثر من ثلاثة عقود الا انني لم استطع ان افتح معه حديثاً عن معاناته.
قال لي وهو يضع ساقه الاصطناعية جانباً وقد أخذ منه مرض السكري مأخذاً: “أنا راضٍ بقسمتي فهل يرضى المتنفذون بوضعي..؟”
سعدون البهادلي مع كاتب المقالسعدون البهادلي مع كاتب المقال
هذا الشاعر، الذي احتفي به خارج العراق ولم يتذكره احد في بلده ونشرت له موسوعة البابطين للشعر العربي اغلب قصائده قدم نفسه لمستمعي برنامج عين ثالثة قائلا:
“انا سعدون البهادلي من مواليد 1955 اسكن منطقة الجمهورية وأنا عضو اتحاد الادباء والكتاب العرب وعضو اتحاد الادباء العراقيين وعائلتي مكونة من 7 افراد ويسعدني اني استطعت ان اصل باولادي وبناتي الى مراحل دراسية متقدمة حيث ان ابنتي وديان تخرجت مدرسة رياضيات وولدي حيدر تخرج ايضا من كلية التربية واثنتان من بناتي سيدخلن الجامعة هذا العام وانا سعيد جداً بهم جميعا”.
يقول البهادلي ان معاناته لم يمر بها أي أديب عراقي فهو لا يحتاج لاي جهة رسمية وعزاؤه بمن وقف من زملائه الادباء معه وشعر بمعاناته.
البهادلي الخارج من قاع مدينة البصرة لم تستطع الظروف القاهرة ان تحني ظهره حيث تعرضت عائلته للمطاردة بعد انتفاضة عام 1999 وسجن مع ثلاثة من اشقائه واعدم شقيقه ليث في 18 نيسان 1999 وهدمت داره وسلب اثاثه.
وما يؤلم البهادلي ان نتاجه الادبي مازال مخطوطاً ولا تتوفر لديه الامكانيات المادية لطبعه..وبين يديه الان 4 دواوين شعر ودراسة عروضية كبيرة وله ترجمة في معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين وتمت مفاتحته من قبل عدة مؤسسات ثقافية خارج العراقي منها مؤسسة الخوئي في لندن ومؤسسة الماجد بدولة الامارات العربية الا ان ظروف المراسلات في زمن النظام السابق كانت صعبة جدا في ظل الحصار الحكومي عليه آنذاك فلم يستطع التواصل معهم.
وضع البهادلي قدمه الاصطناعية أمامه ثم تأوه مترنماً ببعض الابيات الشعرية التي يناجي بها ساقه المبتورة:
“ما زال خطب الموت فوق رمادها
والذنب ذنب الحاكمين فنامي
اذنت عقاربها ونأى بي الهوى
وعقاربي سود العيون ضوامي
هي معبر للريح شط مزاره
ومزارها يوم الطفوف أمامي
متنفس للريح بات مغاليا
والموت دون المنخرين زؤام”
ولم يخف البهادلي امتعاضه من الوضع الثقافي الذي تعيشه البصرة وشعوره وعدد من زملائه بالتهميش من قبل المؤسسة الثقافية واشار الى ان بعضهم يتخذ التسقيط وسيلة لابعاد الاخرين حيث اتهمت باني كنت في منصب فريق ركن في الوقت الذي قضيت فيه عسكريتي جنديا في القوة البحرية.
ويوجه البهادلي نداءاً من بسطته المطلة على قاعة عتبة بن غزوان للنشاطات الثقافية مشدداً على ان الثقافة ابداع وليس مجرد اسماء وهويات انتماء لهذا الاتحاد او ذاك.
ويستأنس الشاعر سعدون البهادلي ببسطته التي فسحت المجال أمامه ليلتقي بزملائه الادباء فهو يرى فيها الفرصة الوحيدة للالتقاء بالناس بعدما انقطعت صلته بالمهرجانات الشعرية منذ وقت طويل.
ويستذكر شقيقه الشهيد ليث البهادلي بقصيدة عنوانها (الشهادة في مملكة الفقراء) وتوقف كثيراً قبل أن يقرأ ابياتاً منها ثم ما لبث ان قال:
” كريم القوم اتعبني الخطاب
فلا باب يدق ولا جواب
شفيعي والديار اليك حنت
وربك ما استقام بها الخراب
رثيتك مؤنسا وجليس همي
فمال الحمل واشتغل الضراب
تفردك الحمام وانت غض
كطود لا يشيب ولا يشاب
فيا حصن العشيرة نم قليلا
فنومك باطل، هتك الحجاب
ويا سر المقابر حين تغفو
تلوذ بها المحارم والكلاب”
والآن، هل سيسمع المسؤولون النداء ام سيبقون حبيسين بروجهم، وسفرياتهم الى دول العالم…. ما يستحقه البهادلي ليس منّة من أحد أنما هو حق مواطن وعليكم أن تردونه اليه.