جامعة المعرفة (La Sapienza) روما (إيطاليا) :
الجمال لغز محيّر، هذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان، ولا يمكن لأحد أن يشرح بعبارات بسيطة سبب إعجابه بالشيء الذي سحر قلبه وأخذ لبّه، ومهما حاول فإنّ محاولاته ستؤول كلّها إلى فشل ذريع. لذا، فإن الجميل لا يُعشق لأنه حسن أو جذاب، ولكن لأنه إشارةٌ وضَوْءٌ يتوهّج في النفس بدون وساطة ولا استئذان، فتصبحُ لحظة الاتصال بين عين الرائي والموضوع المرئي هي سرّ الدّهشة، بل سرّ العشق. وعين الرائي لا يُقصد بها هنا العينُ المبصرة فقط ولكن عين القلبِ قبل كل شيء. هذه العين التي لا يمكنها أن تكون صقيلة المرآة إذا ما غاب عنها طفل السؤال، وطفل المشاكسة وطفل البراءة والصفاء، لأن هذا الطفل هو وحده القادر على تفجير لحظات الانسجام والانصهار بين الإنسان وبين نفسه وكنوزها الدفينة. والمتأمل للوحات الفنان التشكيلي حيدر سالم إسكندر لا يمكنه إلا أن يستشعر وبكل محبّة وفرح وجود طفل السؤال هذا، بعينه الرائية وقلبه البصير، فتحدث للتوّ بداخله حالة من التعارف بين القيم العليا الكامنة في نفسه وبين أشكال ودوائر ورسوم حيدر سالم، فينتج عن هذا التعارف والتواصل مواقف زاخرة بالانسجام واليقين.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بشدة هنا، هو التالي: كيف استطاع هذا الفنان الواعد أن يُفجّر ويلوْلبَ هذا النوع من المشاعر السامية والراقية داخل وجدان متلقيه وقارئه؟
الجواب بسيط للغاية: حيدر سالم فنان يمشي بخطى وئيدة ورزينة فوق حبل اكتشاف شفرة العلاقة بين النفس وأصول الدهشة والافتتان بالجمال، وبين يديه يحمل عصا أسمّيها بعصا توازن الألوان، وهذه العصا هي دولابه الجديد الذي لا يعرف مساحات الضوء فيه أحد آخر سواه، فلكل لون عنده معنى خاص، ولكل بقعة ضوء إشارة مشفّرة تحتاج إلى قراءات متأنية بعين الروح كي تكشف عن نفسها وكأنها برتقالة متوهجة تحت سرير رجل لاينام أبدا، لأنّ كل خلية فيه تفكر كيف ستُحفّز البرتقالة بكل ألوانها وكنوزها من الانتقال طائعة وعاشقة من الأسفل إلى الأعلى كي تبدأ معه رحلة البوح وكشف السرّ فوق سرير الدهشة واللون.
يقول حيدر سالم إسكندر في إحدى المقالات التي نُشرت عنه في مجلة ((سطور)) إن “الرسم شيء دخل حياتي فجاءه، لم يكن يخطر في بالي أن أكون رساما”(1) وهو في قوله هذا يصرّح بأنّه أصبح رسّاما، وليس هذا فحسب، فمن خلال بقية التصريحات الأخرى التي أدلى بها سواء في التقرير الصحفي الذي نشرته عنه قناة (العراقية) الفضائية(2)، أو في المقالة التي نُشرت في جريدة ((العالم)) (3)، يتبيّنُ أنّه فنان جامع وقف أمام محراب الفن فوجد في انتظاره (تيشي) ملهمته الفاتنة الجمال ابنة (هرمس) التي ما إن رأته حتى فتحت له باب المحراب على مصراعيه وكسرت له وهي تعانقه مرحّبة به يده اليسرى وهو لم يتجاوز بعد الحادية عشر من عمره! وأعطته مفتاح الشعر والنثر(4)، وقلّدته بقلادة الفنون الرياضية، ولم تنس قبل رحيلها أن تزوده أيضا بمفتاح ثالث هو مفتاح النحت التي لم تزل أبوابه تناديه وإن لم يطرقها بعد لحداثة سنه وانشغاله بالتحصيل العلمي.
كانت حادثة كسر اليد إذن هي الشرارة التي غيرت مسار حياته، وقد اخترتُ لها كي أعبّر عن مدى أهميتها في حياة هذا الفنان المبدع دلالة ورمزية ابنة (هرمس) الإغريقي، ليس من باب المجاز الأسطوري فقط، ولكن من باب الرحلة التي قمتُ بها في أعماق لوحات حيدر سالم، والتي قادتني إلى التعرف إليه عن قرب: إنني أمام فنان قادم من المستقبل، فنان يبحث عن نقطة توازن الكون، هذه النقطة التي تجدها حاضرة في كل أعماله بمختلف التعابير والرموز، خذ على سبيل المثال لوحته ((عصا التوازن)):
أيّ توازن يقصده حيدر ياترى؟ اللوحة تقول إنه توازن بين العقل والنفس، وبينهما معا والروح. فما من فراغ جعل بساط اللوحة أسود اللون كعلامة دالة على التخمير الكيميائي للهواجس الدفينة للنفس البشرية، وجعل القدمين بارزتين وتشغلان مساحة واضحة من الجانب الأسفل من اللوحة، كرمز للالتصاق بالأرض، وبالتالي للثبات والتوازن، والارتباط بالواقع وهي كلها سمات لأهل النهى والحكمة من الخلق.
لكن على الرغم من عمق الإشكالية التي يطرحها حيدر سالم في لوحته، إلا أن الذي يبلبل العين ويزيد من حيرة المتلقي هي تقنية حيدر أو طريقته في الرسم، أيّ أنه من الممكن جدا أن يبدو في تجربة حيدر نوعا من التأثر بفنانين كبار أمثال بيكاسو وستار كاووش، وصدر الدين أمين، ومن الممكن أيضا ألا ترى أيّ أحد من هؤلاء، كي لا يبقى في اللوحة حاضرا سوى حيدر سالم نفسه، وهو السبب ذاته الذي يجعل من لوحة ((عصا التوازن)) تتحول فجأة إلى امرأة خضراء أو إلى نخلة ترمز إلى مسقط رأس الفنان، والوجوه الأخرى فيها تتحول إلى دلالة تشير إلى بقية الشرائح الاجتماعية من المواطنين الذين يسكنون ذات الأرض والبلد. أمّا القدمان فتتغير إشارتهما وتصبح ضخامتهما دليلا على تسلط واقتحام، فتفقد العصا معنى التوازن المتحدث عنه آنفا وتتحول إلى عصا سلطة، يحاول المواطن جاهدا قدر المستطاع أن يجد نقطة يمسكها منها علّه يتوصل من خلالها إلى تحقيق نوع من الأمن والأمان والسلم والسلام، وتبقى حركة العينين البادية على الوجه الأول والثاني أكبر دليل على هذا الجهد المبذول من.أجل الوصول للتوازن المفترض تحقيقه.
بهذه المعاني يصبح حيدر سالم فنانا يسعى إلى ترويض مخيلته الخصبة التي لا تهتمّ بالماضي وحده، ولكنها تحفر بمعول القلب في الحاضر وتستشف المستقبل بكل ألوانه، مستخدما في هذا كل حواسه ومسخرا كل طاقاته الإبداعية الصافية علّ الأمر يقودها إلى اكتشاف عوالم أخرى وأحراش إبداعية عذراء لم تطأها قدم بعد كما يبدو واضحا في هذه اللوحة التي تعبّر عن حجم مأساة الإنسان وهو في رحلة البحث عن الذات عبر سلسلة من الانشطارات التي تجعل من الوجه الواحد وجوها أخرى ما إن يخترقها طائر الاستيقاظ من الغفلة حتى يبدأ في النبش بمنقاره عن مكنونات النفس فتنبجس عين الرؤيا في جبهة الإنسان وتجعله يستغني عن عين الإبصار والاكتفاء بعين البصيرة:
إنه سحر البدائية بكل رموزها الطفولية، بل إنه نوع من الجلاء الروحي هذا الذي يطالعنا به حيدر سالم في لوحاته وعوالمه المدهشة وهو يطرح أمام المتلقي ألغاز المدلول وغموض الدلالة كي يفجر بداخله أسئلة حول المعنى واللامعنى دون أن يزوده بأيّ مفتاح من مفاتيح (تيشي)، لأنها لا تخص أحدا سواه ولأن كل لون من ألوان ريشته يحمل سرا وفي سريته وغموضه يكمن الجمال، ولا يُعنى بالغموض هنا المجهولية بقدر ما يقصدُ انفتاح اللوحة على معاني متنوعة ومتعددة وعلى إمكانية المتلقي في تشكيل معنى خاص به ليس بالضرورة معنى الفنان نفسه.
الهوامش:
(1) حيدر سالم إسكندر، وجه جدتي علمني فن الرسم، عدد الخميس, 29 تشرين2/نوفمبر 2012.
(2) سعدي غزالة، تقرير عن المبدع حيدر سالم إسكندر، قناة العراقية الفضائية، (بغداد)، شباط 2013.
(3) صفاء خلف، «العالم» تضيء على تجربة حيدر سالم.. فتى كسرت ذراعه فتحول إلى رسام موهوب كـ«فريدا كاهلو»، الخميس – 24 نيسان(أبريل) 2014 – السنة الرابعة – العدد 1015.
(4) يرجى تصفح نفس المقالة التي نشرتها عنه جريدة ((العالم)) وفيها يتحدث عن حادثة كسر يده وهو لم يزل بعد طفلا.