أوائل عام 1974 أصدر الشاعر العراقي (علي عيدان عبد الله) مجموعته الشعرية النثرية الأولى / دار العودة- بيروت/ بعنوان “لائحة شعر رقم-1 -” وتعود تواريخ قصائدها إلى ما قبل سنة إصدارها بسنوات ، فتعرض من قبل السلطات الثقافية- الأدبية الرسمية، ومَنْ معها وساندها كذلك، في مدينته (العمارة)/ 280 كم شرق بغداد، إلى مضايقات وتقولات وشكوك لا حصر أو عد لها، و رأت في ما أصدره (علي عيدان عبد الله) بمثابة دعوة((شعوبية جديدة)) لنبذ التراث الشعري العربي والاستهانة به ، و يجب وأدها في مهدها، قبل أن تستفحل!!. لم يستطع (علي)، ولوحده حينها، مواجهة تلك المضايقات والتوجهات والتقولات الرسمية ، العلنية ، وسؤ النوايا السلطوية- الثقافية وتداعياتها ومخاطر أثمانها. فـ(هرب) بسبب مجموعته تلك ، وتوجهاته في كتابة قصيدة النثر ، من مدينته (العمارة) إلى مدينة (البصرة) 180 كم شرقاً. في( البصرة) ومع انفتاح مشهدها الثقافي – الفني ، خلال مرحلة منتصف السبعينات، لم يُقدم (علي عيدان) نفسه، على مدى ثلاثة عقود وأكثر ، في أي نشاط ثقافي – أدبي عام ، وبقي محتفظاً بصداقات محدودة جداً، وعاش منذ ذلك الحين، دون أن يتخطى الحواجز التي رسمها لنفسه، لكن ذلك، لم يمنعه من مواصلة مشروعه في كتابة قصيدة النثر بإصرار وعناد لا حد لهما. فاصدر في العام 1976 مجموعته “الخطى”، وفي 1977 “حوار الفصول”، وفي1984 ” المسرات لي”، وفي 2991 “موجز النّار” وفي 2001 “الأبيض القصي”. بعد التغيير ، بدأ (علي عيدان عبد الله) التردد على الوسط الأدبي- الثقافي في (البصرة)، وأصدر مجلة (تواصل) و ترأس تحريرها، متحملاً تكاليف إصدارها. وعبر (تواصل) ، والاسم الذي أطلقه عليها، سعى (عيدان) لـردم عزلته، السابقة، والتعويض عن تلك العقود المُرّة ، فاستقطب كثيراً من الأقلام ، من الجنوب العراقي بالذات ، و التي ساهمت في الكتابة فيها. وكان يخصص افتتاحية كل عدد لأحد الكتاب بعد افتتاحية العدد الأول التي عرض فيها نهج (تواصل) وأفقها وما تسعى إليه، وكتب بعض الأدباء والكتاب تلك الافتتاحيات بناء على طلب منه ومعه الشاعر البصري (خضر حسن خلف) والذي كان مديراً لتحريرها. وقد كُلفتُ بكتابة افتتاحية احد الأعداد.وكنتُ على دراية بالضغوط المادية التي يعانى منها (عيدان) والتي ستحول دون مواصلة صدور (تواصل) ما لم تمول من جهات مدنية – رسمية في المدينة أو مساهمات جماعية تسعى لتقاسم كلف صدورها لفتح أفق جديد في تجربة المحافظات العراقية، عبر إصدار مطبوع ثقافي- أدبي شهري حر، ومستقل، و معني بالحداثة ، والتجريب ، ولا هيمنة لأحد عليه ، و تساءلتُ في ما كتبته، في افتتاحيتي تلك، عن المصير الذي سيواجه (تواصل) في قادم الأيام؟. وجاء في نهاية كتابتي:” هل تستطيع (تواصل) ،و عرابها (علي عيدان) وقلة جداً، من الأصدقاء المحيطين به وبها، تجاوز معوقات الإصدار المادية “؟!. بعد عدد واحد على مقدمتي تلك احتجبت(تواصل) عن الصدور بسبب غياب الداعمين. وكتب (علي عيدان) افتتاحية العدد الأخير مقدماً رثاءً مراً وحزيناً ، معلناً توقفها ، وأضاف:” أن هذا لا يعني انتهاء مغامرة إصدارها أو مشروعها التحديثي، فالعزلة قد تبددت والجدران قد أنهدت، ولعل الخوف الكبير قد تلاشى أو في طريقه لذلك”. لحد ما بدأ (علي عيدان) يساهم في المشهد الثقافي والأدبي في البصرة وساهم في الكتاب الالكتروني الذي أصدرته ،بعد التغيير، صحيفة (إيلاف) الالكترونية اليومية، تحية منها لأدباء وكتاب البصرة، كونهم وفي تلك الظروف التي تمر بالعراق وبالذات في بداية الشهر الخامس عام 2003 أول من أعاد، و خلال مؤتمر عام للهيئة العامة وشهد حضوراً متميزاً وفعالاً لغالبية أدباء وكتاب المدينة، هيكلة اتحاد الأدباء والكتاب وإسقاط شرعية الهيئة الإدارية السابقة، وحماسهم خلال ذلك الزمن العراقي الصعب ولحظاته الخطرة المريرة ، القاسية ، ممارسة النشاط الثقافي- الأدبي وعقد أكثر من جلسة ثقافية أسبوعياً ، في مقهى شعبي، بعد الاستيلاء على مقرهم بالقوة( المحوسمة). وكانت جلساتهم الثقافية والأدبية تقام تحت مطارق (حواسم ولصوص) عراق ما بعد 9 /4 /2003 ، وكذلك إصدارهم مجلة(فنارات) وهي أول مجلة ثقافية- أدبية تصدر في العراق بعد التغيير ، وعملهم على إعادة مهرجان (المربد) إلى البصرة بعد أن تم الاستحواذ عليه سابقاً ونقله خارجها . كما ساهم (علي عيدان) في مجموعة شعرية أصدرها اتحاد أدباء وكتاب البصرة ، ضمت عدداً من شعراء المدينة، بعنوان(عزلة من زمرد). وقد حاولتُ معه ،و كنتُ حينها منسقاً للنشاط الثقافي- الأدبي في الاتحاد، في أن تُكرس له جلسة خاصة بصفته احد رواد قصيدة النثر العراقية، فاعتذر بلياقة . لكنه بقي يتواصل مع النشاط الثقافي في المدينة ، وصدر له ضمن مطبوعات اتحاد أدباء وكتاب البصرة مجموعته (الوضوء بالأزرق) عام 2004، وكذلك دأب على الكتابة في صحيفتي (المنارة والأخبار)، البصريتين. في عام 2008 وفي البصرة اصدر مجموعته (وبعد…).عاد بعدها إلى مدينته (العمارة) دون خوف أو خشية مما ستسببه له قصيدة النثر التي اتسع مشهدها في مدينته (العمارة) والتي غادرها في الماضي بسببها. جوهر الشعر يتولد من التجربة الشخصية ومن حرارة الروح وحدسها ويأسها وحتى من حزنها الذي يؤجج المشاعر ولعله قد يدفع للفرح، بالترافق مع ثقافة منفتحة متجددة و غنية إنسانياً. مجموعة علي عيدان عبد الله ، الأخيرة (هنالك.. وأبعد)* تكشف عن أفق جديد في تجربته بعد إصدار هذا العدد من الكتب التي لم يفرط فيها بقصيدة النثر مطلقاً. فبعد أن تلامست تجربته السابقة مع أشكال متعددة نوعية في كتابة قصيدة النثر جرب فيها الانشغال تارة بالهاجس اللغوي أو الشكلي و الذاتي، نراه هنا يفتح أفقاً آخر لتجربته وهو الانفتاح على الخارج والثيمات الأسطورية واستخدام الاستعارات والشخصيات والرموز التاريخية والمعاصرة لاستنطاقها وكبح جماح الذات..تلك الذات المتضخمة و التي لا ترى فقط إلا انعكاساتها بنرجسية عالية:
“يقول سرفانتس:
إذا وقع الحجر على الإبريق
فالويل للإبريق
أما إذا وقع الإبريق على الحجر
فالويل للإبريق
هذا ما تركه المشّاؤون
فأيّ تَرِكةٍ ؟”.
….
“في (بوب الشّام)
امسكني من يدي
وأجلسني إلى جانبهِ
وقال:
متى يكون الظلُّ
ألطف من شكلهِ؟
قلتُ:
كأن الشمس
قد خرجت تواً من(القوس) وكأنك
ذلك التو..”.
….
” أمس..
هنا.. وفي المكان بالـذّات
كنتُ اسمع ضجيجاً
لا..
لم تكن(إيثاكـا)
تلك المدينة التي
تهبك الغنى غير المتوقع
بل
مدينة( كويتزي)
تلك المدينة التي
تفرض عليك- الحـل “.
….
” في سجن( تروجيلو)
كتب سيزار فاليجو على الجدار:
علينا القتال من اجل أخراج
أنفسنا من خرم الإبرة.
سيزار فاليجو
لم يعلم
أنّ الأرقام لا نهاية لها “.
قصيدة علي عيدان في (هنالك ..وابعد) باتت قريبة الصلة ومتواشجة ،مع استفادته الغنية الواضحة ، من تجربته الشعرية ، وثمة ما يبعد عنها الترهل الزائد ومحكومة بانضباطٍ سردي واقتصاد في اللغة حد التقطير :
“في المساء
اجلس على ضفة نهر المدينة
ماداً يدي
باسطاً كفي
ماذا يعتقد المارة ؟
إنني انتظر
نجماً يقع..”.
….
” أنا أفضل
من الغد
لأني
وصلت قبله “.
….
“غالباً
ما أتقن عملي
لفرصة..
قد لا تتكرر”.
الكلمات هنا ندية والعبارة باقتصادها تستغرق وتهيمن على المعاني و التفاصيل وكذلك معنية بكلية المشهد بشكل تبدو وكأنها يوميات متدفقة لا تتجاهل الواقع المسكون بالتجلي:
“الرداء
لا ضيق فيه
بل المرتدي
يعاني طلب الإيجاز”.
….
“ليست هناك كلمة
اشد وطأةً
على قلبي
من كلمة:
شئتَ أم أبيت”.
….
“تكون الأرض
بحجم حبّة قمح
كما كان المجد بحجم(الكـوبك)
ذاتَ يوم
عندَ ذاك
وعندَ ذاك فقط
يكون الموتُ
سلِساً”.
في حوار مع الشاعر الإيطالي ” يوجين مونتالي”، الحاصل على جائزة نوبل للآداب منتصف السبعينات، ذكر أن:” الشعر أرخص الفنون كلفة، انه لا يتطلب غير قلم صغير من الرصاص تمسك به أصابعك، وورقة مهملة لا تثير المارة جنبك، ويمكن أن تلتقطها من أي رصيف تسير عليه في شارع ما”؟!. وأضاف: “مونتالي”: “لكن السر الكبير.. يكمن ويقف خلف الروح المستعرة التي تخلق وتملي، الكلمات، على تلك الأصابع”. “هنالك.. وأبعد” تكمن خلفها تلك النيران المستعرة في الروح. تلك الروح التي أشار إليها(مونتالي). فثمة تجلٍّ للواقع العراقي الراهن ، بكل عذابه, ونكوصه ، و دمويته المتواصلة، و يهم الشاعر كموقفٍ وقول:
” خوسيه ساراماجو
قيل:
حين يموت الأطفال
يصبحون ملائكة
لذا من المؤكد:
أنّ غالبية الملائكة الصغار في السماوات
هم عراقيون”.
*- دار فضاءات – الأردن – الغلاف للفنان- صدام الجميلي.