يتوهم الكثير منا أن أي عمل فني تتجرد فيه العناصر من قشورها وأغلفتها فإنه يُسمى (عرياً) ويختم بشمع الرفض الأحمر دون التفكير في معرفة الفرق بين مكنونه ورمزيته الحقيقية وما هو ظاهر للعين، فالمعروف أن أي عمل فني بسيط كان أو مركب يحمل معاني ودلالات مشفرة عميقة تحتاج لتركيز ذهني وصفاء عقلي للولوج لمكنونات العمل والاندماج فيه مثله مثل المقطوعات الموسيقية التي تجعلك بالإنصات لها لا بالاستماع فقط تعيشها حالة لاهوتية مضموناً وإحساساً.
ما معنى كلمة تجرد Nudity أو nude؟
الكلمة مصطلحاً تحمل الكثير من المعاني فهي: (التجرد من الملابس، الكشف، غير محجوب، أعزل، صريح) وغيرها من الدلالات اللفظية المختلفة جزئياً وذاتياً حسب أصول علم الكلام.
أصل الكلمة ل
اتيني يعود لسنة 1531 ومعناه (لا يدعمه دليل) بوصفه مصطلحاً قانونياً، ومعنى الكلمة انجليزياً (سهل، عار، غير مزين). (1)
العري: معناً وتاريخاً
معنـاً
معنى كلمة عري (التجرد من الملابس أو عدم الاحتشام كلياً أو جزئياً) وهو تعريف غير ثابت: مختلف حسب ثقافة ومفاهيم المجتمعات على تنوعها.
تاريخ (العري)
يفترض علماء الانثروبولوجيا منطقياً أن الإنسان ولد عارياُ دون ملابس، وبسبب العديد من الظروف والمسببات اتخذ من جلود الحيوانات بالأساس وبعض النباتات أغطية لجسمه تقيه الحر والبرد والمطر نتيجة لهجرته من مناطق عيشه الطبيعية، وبتطور سبل العيش وحاجيات ومتطلبات الإنسان صار للملابس أغراض أخرى ترتبط بمفاهيم كالعبادة والسحر والزينة وغيرها.
كان الإنسان الأول في إفريقيا عارياً (2) (قبل 20,000 سنة)، وكان قدماء اليونانيين يمارسون الرياضة وهم عراة، وإن أصل كلمة (جمنازيوم = ملعب) هو (تدريب العرايا)، وكان مقتصراً على الرجال طبعاً دون النساء حتى إنهن مُنعن من المشاهدة!
وتوضح بقايا رسوم أول الألعاب الأولمبية قبل ما يقارب ثلاثة آلاف سنة مصارعون وملاكمون يتنافسون وهم عرايا.
وقد ارتبط مفهوم التعري عند اليونانيين أيضاً بالعبادة، فكان ركناً أساسياً من أسس عبادتهم مبنياً على فكرة (كما خلقني الإله)، وكانوا يقدمون الجوائز للفائزين داخل المعابد وهم عرايا.
فنــاً:
فوتوغرافياً:
وُظف التجرد في التصوير الفوتوغرافي منذ بداية نشأة التصوير الفوتوغرافي نفسه (3)، تجرد لا تعري، ولم يكن الهدف منه اخذ لقطة مُلفته (snapshot) بل القصد هو توظيف الجسد البشري متجرداً بوضعية الجماد (still)، مثله مثل الرسم والنحت إذ وُظفت ملامح الجسد البشري من ناحية الخطوط والأشكال كعناصر أساسية لخدمة العمل، ركز التصوير الفوتوغرافي بالأساس على الجسد كعنصر متجرد من الشخصية الإنسانية لأن اقترانه بها سيعد بورتريتاً (portrait)، وأفرط المصورون الفوتوغرافيون باستخدام الضوء والظل لتأثيث اللقطة وتوضيح البنية التركيبية والجوهرية للجسد البشري وإضفاء الروح والمعنى المطلوب ترجمتها بالعمل، ربما يتردد السؤال الآتي: لماذا اقتصر الموضوع بالأساس على المرأة؟
يعود ذلك كون المرأة الرمز الأكثر وضوحاً والتجسيد الأكثر صراحةً للجمال دون الرجل أو غيرها من العناصر حتى، ولعل من أشهر المصورين الفوتوغرافيين العالميين الذي عنوا بهذا المجال هم (Félix-Jacques Moulin و Edward Westonو Ruth Bernhard و Jerry Avenaim).
رسماً ونحتاً:
إن مفهوم التجرد بالفن عموماً وبالرسم أو النحت خاصةً لا يجب أن يتصل بالأساس بغاية الإثارة الجنسية أو قصد الإشارة لها حتى، فكثيراً ما أشارت رسومات الإنسان الأول منذ فجر التاريخ سواء كانت على جدران الكهوف أو المسلات، أشارت لارتباط هذا المفهوم بالأديان والعقائد، ولعل خير دليل على ذلك الرسوم أو الأعمال الفنية التي جسدت آدم وحواء والتي غالباً ما اتسمت بتجريد أو تعرية العناصر التي تمثل شخوص العمل، ومن الجدير بالذكر إن أول عمل فني (رسم) جّسد الموضوع ولا يزال باقياً هو لوحة الفنان الألماني هانز بيهام سنة 1452، حيث كانت رسالة اللوحة هي أن : “التعري لم يكن هو الخطيئة الأولى. بل أكل التفاحة (إغراء الشيطان) هو الخطيئة الأولى.”
اعتبر الكثير من الفنانين الجسد البشري مادة للرسم (قماش) وأخذوا يختطون عليه وبه خيالهم ويشكلون من حركاته وانحناءاته قصصاً بالألوان، علماً إن من أهم الدروس أو الفروع التي تُدرس في الأكاديميات المتخصصة في تعليم الرسم هو علم التشريح.
إن المفاهيم الاجتماعية تجاه التجرد (Nudity) متغيره حسب المجتمعات والمؤثرات التي تتعرض لها والظروف التي تعيشها، فمنذ بداية الزمان واجه الفنان الذي يجسد التجرد ثيماً أساسياً لموضوعاته صعوبات كثيرة وحورب بشتى الوسائل والسبل، فعلى سبيل المثال قيام أحد الكنائس الكاثوليكية في أوربا بتغطية جميع الأعمال الفنية (الأعضاء البشرية الحساسة منها) بورقة تين وهذا ما سمي بحركة (ورقة التين) بدءاً بأعمال عصر النهضة المتمثلة بأعمال الفنان (مايكل أنجلو) لكن الكنيسة استعادت تلك الأعمال فيما بعد وأزالت أوراق التين عنها، في المقابل كان تجسيد التجرد في الأعمال الفنية تقليداً سائداً في اليونان، حيث كانوا يرسمون آلهتهم وأبطالهم الأسطوريون عراة وظل هذا التقليد سائداً حتى العصر الكلاسيكي والروماني.
وكما أوضحت سابقاً إن العري يقترن بمفاهيم متعددة كالعبادة مثلاً أطرح منها مثالاً هو تمثال الملك داوود للفنان مايكل آنجلو1504. وهو تمثال هائل يصل طوله إلى 6 أمتار تقريبا، كان منحوتة غير منتهية من قبل نحات آخر واستحوذ عليها مايكل آنجلو ليخلق منها ديفيد (تسميه أخرى للعمل).
وكذلك قيامه بإبداع إحدى أجمل المخططات الرسومية التمهيدية لزخرفة سقف الكنيسة البابوية في الفاتيكان ، من خلال رسومه المتشابكة وزخارفه المعقدة استطاع تصوير قصة سفر التكوين لدى الإنجيل بدءاً من فصل الظلام عن النور (فوق المذبح) مروراً بقصة آدم وحواء منتهياً بقصة نوح، وخلال الزوايا وزع عدة مشاهد تتناول العديد من القصص الدينية.
مع مرور الوقت وظف الفنانون الجسد البشري لأعمالهم عوضاً عن آلهتهم فأخذت المرأة الحصة الأكبر من اهتمامهم بهذا النوع من المواضيع ومن أشهرهم الفنان فرانسيس بيكون، فغرقت الأعمال في خضم الصراع ما بين القائل أن الغرض من تجريد عنصر الجسد البشري في العمل الفني هو للإثارة الجنسية فقط وبين من دافع عن فنه برقي وتحضر.
عموماً ومن المتعارف عليه أن أي عمل فني هو بمثابة مرآة تعكس ماهية المتلقي بغض النظر عن غاية الفنان وغرضه الدلالي الذي يود تتويجه بالعمل. اختلفت تقنيات عرض الجسد المتجرد فكانت بين الموضوعية والتجريدية والسريالية، فبعضهم تجنب إظهار تفاصيل الوجه والملامح أو تعمد تشويها وإخفاءها ، والبعض الآخر غطى بعض الأجزاء من الجسد البشري برسومات أو زخارف أو أي إكسسوار يخدم العمل الفني دون أن يفقد أو يُقلص جوهره الأساسي وبعضهم وظف الجسد بتجريده تماماً.
أعلاه نتبين لوحة شهيرة من أعمال الفنان (La maja vestida) المسومة بـ (Goya) التي رُسمت أبان غضب المجتمع الإسباني بالفترة التي سبقت الديسنودادية (Desnuda) واعتبرت أول عمل فني ينتهك حرمة جسد المرأة بهذا التصوير الفاضح والجريء على غير عادة المجتمع الأوربي المحافظ آنذاك، فطلب من الفنان تغطية اللوحة (رسم الملابس على جسد المرأة) فرفض وأعاد رسم اللوحة بثياب!
وكان يتخذ الفنانون الأوربيون (موديل) عار لرسمه، وهذه التقنية متبعه في الرسم الواقعي.
أما على صعيد المنحوتات فقد أخذت منحاً خاصاً ومميزا خصوصاً عند قيام النحاتين بتجسيد الآلهة والأنبياء عراة كفينوس وتمثال الملك سليمان، ولعل أعمال مايكل أنجلو (نحاتاً) خير دليل على هذا (كما ذكرت آنفاً).
على صعيد المجتمع الشرقي، ظلت نظرته مقترنة تجاه هذا النوع من الأعمال بالإثارة الجنسية تارة وبانتهاك المحرمات والمقدسات تارة أخرى متناسين القيمة الجمالية الرمزية المتمثلة بهذه الأعمال.
برأي الشخصي فإن الغرض من تجريد لا تعرية (والفرق كبير بين المصطلحين من ناحية المعنى، فالعري في الفن يعني تعرية الجسد من الملابس وتوظيف المفاتن بغرض لفت الانتباه وإضافة عنصر يجذب المتلقي للعمل بصورة مبتذلة بعيدة عن أي قيمة جمالية أو أخلاقية للعمل، أما التجريد، فهو تجريد الجسد البشري من كل شيء وليس فقط الثياب بل حتى الروح والشخصية والملامح كونها إن ظلت فإنها ستشكل إشارة لماهيةالشخصية داخل العمل، بمعنى آخر، ستمنح العمل هوية ولون ودين وزمن وغيرها من التصنيفات التي ستسلط الضوء عليها دون جوهر العمل أو الصفة المُرتجى التمثل بها) ، إن الغرض من تجريد العناصر داخل العمل الفني هو لإضفاء صفات نقية بحته سواء كانت إنسانية أو غيرها على العنصر المتجرد و جعله يتقمصها لا وبل يولد من خلالها من جديد فتصبح الصفة هي التي تمنح العنصر الحياة أو المعنى.
وهذه بعض الأمثلة لأشهر الصور الفوتوغرافية المعنية بتجريد الجسد البشري تتبين فيها تقنية اتخاذ صفات الأشياء حوله.